خبر حكومة أردوغان تطرق باب المحرم الجمهوري .. بشير موسى نافع

الساعة 09:37 ص|19 نوفمبر 2009

بقلم: بشير موسى نافع

في تعليقه على مبادرة حكومة العدالة والتنمية لحل المسألة الكردية في البرلمان التركي، قال أونور أويمان، نائب رئيس حزب الشعب الجمهوري المعارض «ألم تبكِ الأمهات زمن تمرد الشيخ سعيد؟ ألم تبكِ الأمهات زمن تمرد درسيم؟» خلال الأيام القليلة التالية، كانت تركيا تموج بالاحتجاجات ضد أويمان، النائب عن الحزب الذي يدعي حراسة الميراث الأتاتوركي الجمهوري. وحتى زعيم حزب الشعب، داينيز بايكال، الصوت الأعلى في معارضة المبادرة الكردية، لم يخفِ امتعاضه من كلمات نائبه. لفهم هذا الالتباس، لا بد من تفكيك الكلمات المشحونة بالمعاني والتواريخ التي تحدث بها أويمان.

أولاً، بكاء الأمهات، ويقصد به الرد على ما أصبح أقرب إلى شعار لمبادرة حكومة أردوغان. فقبل عدة أسابيع، عندما وقف أردوغان للدفاع عن مبادرة حكومته، أشار رئيس الوزراء التركي إلى أن الأمهات على جانبي الصراع المحتدم بين الدولة التركية وحزب العمال الكردستاني يبكين أبناءهن القتلى باعتبارهم شهداء، وقد جاء الوقت لوضع حد لبكاء الأمهات. «دع أماً أخرى لا تبكي بعد اليوم» تحول إلى عنوان غير رسمي لأحاديث مسؤولي حكومة العدالة والتنمية حول مشروعهم لإنهاء الصراع، وهو عنوان عاطفي بالتأكيد، ولكنه أكثر من عاطفي أيضاً، فالأتراك يعرفون أن هذا الصراع، الذي أوقع 45 ألف إصابة حتى الآن، كان صراعاً باهظ التكاليف بلا شك. كلمة أويمان أريد بها تفريغ شعار المبادرة من محتواه، أراد تذكير الأتراك بأن بناء الجمهورية والحفاظ عليها وعلى وحدتها لم يكن بلا ثمن. وللتأسيس لمقولته، عاد أويمان إلى سنوات تأسيس الجمهورية.

الخطوة الكبرى الأولى التي صاحبت قيام الجمهورية التركية لم تكن إلغاء السلطنة وحسب، لأن إلغاء السلطنة صادف دعماً واسعاً في أوساط الشعب التركي. الخطوة التي لم يفهم أكثر الأتراك مبرراً لها، كانت إلغاء الخلافة. ورغم أن المجلس الوطني الكبير (البرلمان التركي)، حيث اتخذ قرار الإلغاء، كان في أغلبه موالياً للرئيس مصطفى كمال، فقد شهدت قاعته معارضة ملموسة لإلغاء الخلافة. ولكن المعارضة الأكبر برزت في الأوساط الدينية. أحد فصول المعارضة العنيفة جاء من المنطقة الكردية، حيث تمتعت الطريقة الصوفية النقشبندية بنفوذ واسع. وقد قاد الشيخ سعيد، الكردي والنقشبندي، في منتصف العشرينيات من القرن الماضي، تمرداً مسلحاً في جنوب شرق البلاد، شكل تهديداً ملموساً للجمهورية الوليدة. في مواجهة تمرد الشيخ سعيد، أعلنت الحكومة الجمهورية الأحكام العرفية، حلت الأحزاب المعارضة ووضعت نهاية للتعددية السياسية، وأرسلت حملة عسكرية هائلة إلى المناطق التي نشط فيها أو سيطر عليها المتمردون. قُمع التمرد بقسوة ووحشية، وحوكم المتمردون ومن اشتبه بالتعاطف معهم أمام محاكم عرفية، أصدرت أحكاماً بالإعدام بالجملة، بما في ذلك إعدام الشيخ سعيد. في نهاية تمرد الشيخ سعيد، كما قال أويمان، بكى الكثير من الأمهات.

الحادثة الثانية التي أشار إليها النائب الجمهوري، حادثة درسيم، أكثر تعقيداً. درسيم هو الاسم القديم للمدينة التي تعرف اليوم بتانجيلي، والتي تعتبر مركزاً لأنباء الطائفة العلوية في الأناضول التركي. ولكن وبينما ينحدر أغلب العلويين في تركيا من أصول تركية، فإن أبناء هذه المدينة من العلويين يعودون إلى أصول عشائرية كردية. المهم، خلال السنوات الأولى من حكم مصطفى كمال، ونظراً للحملة الشعواء التي قادتها الدولة ضد المؤسسة الإسلامية في البلاد، التي هي مؤسسة سنية، رحب العلويون في قصر نظر تاريخي بالحكم الجمهوري. بدت السياسة العلمانية الراديكالية للحكم الجديد وكأنها سياسة أقلوية، إن صح التعبير، ولم يكن غريباً بالتالي أن تجد ترحيباً من الأقليات الطائفية. وسرعان ما نُظر إلى أتاتورك في الأوساط العلوية باعتباره أحد الممهدين للإمام المهدي. بيد أن علمانية الجمهورية كان لها وجه آخر. كما كل الدول المركزية- الشمولية، قادت الجمهورية التركية انقلاباً اجتماعياً شاملاً، ساعية إلى تصفية التعددية الثقافية والقومية والدينية، وتكريس نموذجها الخاص للاجتماع التركي. وهكذا، فإن الترحيب العلوي الأوليّ بالسياسة الجديدة سرعان ما انقلب إلى ردود فعل، كان التمرد الذي قاده الزعيم العلوي الكردي، سيد رضا بمنطقة درسيم، في 1937، أشدها حدة. وكما قمع تمرد الشيخ سعيد التقشبندي قبل عقد واحد بالقوة العسكرية المجردة، كذلك واجهت الدولة تمرد درسيم. من الجو، قصفت تجمعات المتمردين بالطائرات، وعلى الأرض، كانت حملة عسكرية تعيد احتلال المدينة وقراها بأقصى درجات العنف. وكما في ثورة الشيخ سعيد، انتهى تمرد درسيم، تماماً كما أشار أويمان، ببكاء الكثير من الأمهات.

ورثت الجمهورية التركية من السلطنة العثمانية مجتمعاً متعدداً، إثنياً ودينياً وطائفياً. وفي رد فعل على الهزيمة والتشظي في الحرب الأولى وحرب الاستقلال، اندفعت الجمهورية نحو إنشاء هوية تركية- علمانية أحادية، هوية على صورة الجمهورية ذاتها. كانت السياسة الجمهورية الجديدة سياسة ذات جذور أوروبية، ولدت من مدارس علم الاجتماع الفرنسي والقومية الفرنسية والألمانية، ومثلت انقلاباً على الميراث العثماني وتقاليد الملل العثمانية. خلال العقود القليلة التالية تحولت لحظة التأسيس الجمهوري إلى دوغما لا تُمسّ، تم زرعها في الوعي الجمعي للشعب التركي بكل الوسائل، من التعليم والإعلام الرسمي، إلى الثقافة العسكرية ونشاطات الجمعيات الرسمية وشبه الرسمية. لم تتغير اللغة التركية، حرفاً ومحتوى، وحسب، ولكن أيضاً فُرض حظر صارم على استخدام العربية والتركية في الكتابة والتعليم. أجبر الأتراك، بغض النظر عن أصولهم الإثنية، على تبني أسماء اعتقد بأنها تركية، ضمن لوائح حددتها أجهزة الدولة المختصة. كما ألغيت أسماء قرى وقصبات ومدن، وأعطيت أسماء جديدة، قيل للأتراك إنها أسماء تركية أصيلة. وسرعان ما أصبح كل تساؤل للنموذج الرسمي يعتبر تهديداً لوحدة البلاد وسيادتها على أرضها وحدودها. وليس حتى منتصف الثمانينيات، عندما أطلق حزب العمال الكردستاني حملته المسلحة الدموية ضد الدولة التركية، أن بدأت قطاعات من الشعب التركي في رؤية الثمن الباهظ للسياسة الأحادية الرسمية التي بنيت عليها قواعد الجمهورية. هذه هي الخلفية التي أدت إلى تبني حكومة العدالة والتنمية مبادرة غير مسبوقة لوضع نهاية للصراع الدائر بين العمال الكردستاني والدولة. في أحد وجوهها، تعتبر مبادرة العدالة والتنمية طرقاً لمحرمات الجمهورية، طرقاً أوسع نطاقاً وأبعد صدى من محاولة إنهاء حظر الحجاب التي رسبت أزمة ثقيلة الوطأة في السياسة التركية قبل زهاء العامين. في مواجهة قضية الحجاب، وظفت المعارضة خطاب الخطر الذي يتهدد الأسس العلمانية للجمهورية، ولكن في مواجهة المبادرة الكردية، يستخدم أنصار الميراث الجمهوري اتهامات الخيانة والخطر الذي يتهدد وحدة الأرض التركية وسلامة البلاد وبقاء الجمهورية.

خلف ذلك كله ثمة حقيقة يجب أن لا تغيب وسط الجدل الكبير الذي يحيط بمبادرة حكومة أردوغان: أن حزباً تركياً حاكماً أو رجل دولة لم يتجرأ من قبل على التعامل مع هذه المسألة الشائكة من مواريث الجمهورية كما يحاول الآن حزب العدالة والتنمية ورئيس حكومته. وليس من المصادفة أن جذور هذا الحزب (العلماني- الليبرالي- المحافظ) هي جذور إسلامية. فقبل أن تكتشف الليبراليات الأوروبية التعددية الثقافية والدينية، كان ثمة ميراث تعددي، ثقافي وديني، عاش قروناً من الزمان وأسس لسلم اجتماعي طويل.