خبر طريق متوسطي للسلام في إسرائيل وفلسطين .. إتيان باليبار ـ مارك ليفي ـ ليبلوند

الساعة 10:06 ص|14 نوفمبر 2009

ترجمة: ماهر جرار

يُعتبر إيتيان باليبار من أبرز الفلاسفة الماركسيين الجدد في حقلي السياسة الاجتماعية والاخلاقية، اشتغل على كتاب «قراءة رأس المال لماركس» مع استاذه لويس التوسير، كما اشتغل على فكر غاستون بالشلار. مطوراً نقدياً، نظرية المعرفة التاريخية التي تتجاوز التراث التجريبي، عرف في السنوات الاخيرة نشاطاً مناهضاً للعنصرية والفكر القومي الجديد في فرنسا. وهو هنا يقدم تصوّراً لحل محتمل بعيد، للمشكلة الفلسطينية التي عرفت مسارات دامية، بلا حلول. كتب هذا النص مع المفكّر الفرنسي جان ـ مارك ليفي ليبلوند ونشر في جريدة لوموند الفرنسية ومجلة الفلسفة الراديكالية في العام 2006 (نوفمبر).

ان اصل الدولة ليس هو الذي يحدد مصيرها، اذ ان هذا المصير ينفتح دائما على تواريخ متعددة محتملة حتى ولو بدا ـ بعد وقوع الحدث وبحسب الظروف ـ ان بعضها كان اكثر احتمالا من غيره. بل إن الطريقة التي تتراكم فيها الأحداث، والتفسير السائد لها، والقرارات التي تتخذ (او لا تتخذ) سنة بعد سنة، وتفاعل المصالح بما هي تبلور لايديولوجيات معينة، كل ذلك يرسم احيانا ما قد يبدو انه قدر تراجيدي. والامر بحاجة عندها لجهد تخيلي كبير، ولدعم من طاقة من اليأس، لتبين النتيجة انها كارثة.

إن دولة إسرائيل بالاضافة الى قسمات خاصة بها ـ هي نتاج حركتين ميزتا القرن التاسع عشر ودفعتا الى اقصى التطرف في القرن العشرين. فالصهيونية كانت اساساً مزيجا من ظاهرة قومية نموذجية (مشروع ثقافي وسياسي طورته بعض شرائح الجماعات اليهودية المضطهدة في وسط اوروبا وشرقها) والاستعمار الاوروبي. وأتاحت لتجمعات رائدة ان تستقر في فلسطين لتعمل على دمج اليوتوبيا الاشتراكية المساوتية بالحلم الألفي المتمثل بـ«العودة» الى أرض العهد القديم. إن هذه التجمعات ليهود صهاينة (المعروفة جملة باسم يشوف) والقيادة السياسية التي تطورت عنها، غدت رهينة في يد «اللعبة الكبرى» التي كانت الامبراطورية البريطانية تلعبها في العالم العربي في سياق دعمها مجموعات عرقية مختلفة، وأسر حاكمة، وديانات، كي تسيطر على هذه المنطقة الاستراتيجية بما تختزنه من غنى نفطي هائل. فوعد بلفور في العام 1917 الذي وعد بـ«وطن قومي لليهود» في فلسطين، كان لحظة وحيدة فحسب في هذه السياسة، التي استخدمت اليهود تماما كما استخدمت غيرهم من المجموعات. وقد نجح الصهاينة على أي حال في توظيفه لخدمة أهدافهم.

غير ان هذا لا يفسر على أي حال المشكلات التي يطلقها وجود إسرائيل وسياساتها، والاهم من ذلك، المشكلات التي يواجهها مواطنوها.

لقد تغيّر كل شيء بعد الحرب العالمية الثانية التي تمخضت عن امبراطورية بريطانية ضعيفة، كما دفعت بمئات الآلاف من الذين نجوا من الاضطهاد النازي الى ان يستقروا في فلسطين. وقد اعطى هذا الامر شرعية اخلاقية لدولة إسرائيل، التي ظهرت الى الوجود عبر «التقسيم» في سنة 1947 والتي تم إقرارها من خلال الاعتراف شبه الدولي الذي منح لإسرائيل وقبولها في الامم المتحدة. وتبقى حقيقة ان الدولة التي اعلنت نفسها «دولة يهودية» (رغم وجود اقلية ضخمة من المسلمين والمسيحيين فيها) والتي أوكلت لنفسها مهمة جمع أكبر عدد من اليهود ـ المتدينين والعلمانيين ـ المنتشرين عبر العالم على ترابها (ومنهم مهاجرون جدد ويهود كانوا قد اندمجوا في بلادهم منذ زمن طويل وهم لأجل هذا متنوعون بشكل كبير في ما خص ثقافاتهم، وقد عانوا، في بعض الحالات، درجات متفاوتة من العداء للسامية)، قد ولدت من رحم الحرب وحتى الإرهاب. وكان هذا نتيجة أمرين يتمثل الاول بالعداء الذي لا يمكن التخفيف منه للدول العربية المجاورة (على الاقل وصولا الى مبادرة الرئيس السادات)، والتي دفعتها وطنيتها وظهور القومية العربية الى رفض انشاء إسرائيل في فلسطين او الى المطالبة بتدميرها، ويتمثل الثاني برغبة إسرائيل المماثلة، والتي عبّر بشكل اقل علانية تقريبا، في طرد السكان العرب. فالكلمات التي نسبت الى غولدا مائير في ما بعد (أرض بلا شعب لشعب بلا أرض)، والتي كانت مجافية للحقيقة الى حد بعيد، ادت الى منطق إلغائي. وقد حذّر بعض المثقفين مثل آينشتاينن وبوبر، وآرندت، ويهودا ماغنس (مؤسس الجامعة العبرية في القدس) من هذا المنطق منذ البداية، والذي كان يحمل بذور الكارثة الحالية.

ولا يمكننا هنا تلخيص الحروب التي استمرت بين الخمسينيات والتسعينيات من القرن العشرين (بعضها دفاعي وبعضها هجومي بما فيها الاجتياح الاول للبنان سنة 1982). إلا انها ادت الى عسكرة عميقة على مستوى الحياة الاجتماعية ومستوى السياسيين الإسرائيليين وفاقمت الاتجاه للنظر الى الاسئلة السياسية من خلال علاقات القوة فقط. ورغم انها تملك احد اقوى الجيوش في العالم المجهز بدرع كاملة من الأسلحة الحديثة ـ من الطوافة حاملة القذائف الذكية الى القنابل النووية ـ وهي قادرة على استهداف المقاتلين الفلسطينيين وهم يرقدون في فراشهم، كما انها تتدخل على بعد آلاف الكيلومترات (كما رأينا في افريقيا بالتحديد)، فإن دولة إسرائيل تصف كل نزاع مع جيرانها بأنه مسألة حياة او موت. وقد كان لهذا الامر دور مهم في مأسسة ذاكرة «الشواه» (المحرقة)، التي استخدمتها إسرائيل لأجل لحم الوحدة الوطنية، وإسكات النقد الموجه من الجاليات اليهودية المنتشرة عبر العالم، وادعاء امتلاكها «حقوقا» خاصة في العلاقات الدولية، حتى ولو ادى ذلك الى تقويض احدى ركائز شرعيتها.

الاكثر اهمية، هو ان احتلال الضفة الغربية وغزة وضم القدس الشرقية إثر حرب الايام الستة (الوقائية)، بالاضافة الى «الانتفاضتين» اللاحقتين، مثلت منعطفا ثانيا، بعيدا عن ان تمثل قلباً لمنطق المواجهة، فإن اتفاقات اوسلو لعام 1993، التي أسست السلطة الفلسطينية وتطلعت الى انشاء دولتين على منطقة الانتداب (78% منها هي حاليا في قبضة إسرائيل بشكل رسمي)، تم استغلالها من اجل تسريع الاستيطان وترسيخ الامر الواقع. وبإدراك لاحق تبدو هذه الاتفاقيات كلحظة تكتيكية في سياق الاحتلال المؤدي الى «إسرائيل الكبرى»، والمصادرات اللاحقة تشهد لنيات إسرائيل. ولم تكن منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة ياسر عرفات بريئة بحال من هذه الازدواجية، ليس فقط بسبب المصالح المادية التي استمدتها من «إدارة» المناطق المحتلة التي فوضت إليها. وكانت المواد التي تدعو الى تدمير إسرائيل قد أزيلت في العام 1988 بشكل رسمي من الميثاق التأسيسي لمنظمة التحرير الفلسطينية. من الجهة الإسرائيلية، بدا ان بعض القادة (كإسحاق رابين، الذي دفع حياته ثمنا) يريدون فعلا إزالة العقبة الكبرى في وجه تسوية النزاع الإسرائيلي ـ الفلسطيني: وعلى وجه التحديد، الرفض المطلق للتحدث مع اعدائهم على قدم المساواة والاعتراف بحقهم المساوي في الأرض، والماء، والحدود، والأمن والاعتراف الداخلي. غير ان صوت الافعال يعلو على الكلام، واكثر ما قيل ـ بصرف النظر عن مزاج الحكومة القائمة ـ قد ساهم في التأكيد مجدداً على الطبيعة الكولونيالية لدولة إسرائيل. فتعبير الـ«الانسحاب المتبادل» وما ينطوي عليه من ذرائعية يجعل الامر واضحا دون لبس. لقد طورت الدولة الصهيونية شكلا من الديموقراطية السياسية تحسد عليه (نظام برلماني، وضمانات دستورية، وحرية رأي) وحققت، رغم عدم المساواة الكبيرة على الصعيد الاجتماعي، مستوى مرتفعا من النجاح الاقتصادي والثقافي (والشكر جزئياً للمساعدات الاميركية الهائلة والدائمة على مستوى لم تتمتع به أي دولة اخرى). غير انها في المناطق المختلفة التي تسيطر عليها، اقامت نوعا من نظام التمييز العنصري (يسميه الجغرافي أورن يفتاخل بـ«حكم ـ عرقي») الذي يقوم على حجز السكان تحت سيطرتها، والتحكم بمواردهم المادية والتدمير التدريجي لانظمتهم الصحية والتربوية، والعنف القاتل حتى في وجه نشاطات المقاومة غير العنفية، كما التحكم بقيادتهم السياسية الذاتية. فما الذي يمكن ان نفعله بالاشكال التي اتخذتها الدعوة الى استقلال الأمة الفلسطينية (the Palestinian nation)؟ لا يمكن ان نعتبرها مثالية بحال، لكننا لا يمكن ان نتجاهل الشروط الساحقة التي فرضتها علاقات القوة غير المتوازنة.

ويصح هذا الامر بشكل خاص عندما يتعلق الامر باستخدام الإرهاب (الذي نعرفه بمفهومه الصارم بمعنى العنف العشوائي ضد المدنيين) وتكتيك توظيف الانتحاريين التفجيرين بشكل خاص، الذي تبنته مجموعات من المحاربين العلمانيين والمتدينيين على حد سواء، والذي تم توسيعه بشكل دراماتيكي خلال «الانتفاضة الثانية». ونحن ننتمي الى اولئك الذين يعتبرون هذه الافعال غير مبررة اخلاقيا، مدمرة وتعوّق تحقيق الأهداف، متفقين في ذلك مع الكثيرين في المجتمع المدني الفلسطيني، والمثقفين والقادة مثل إدوارد سعيد ومصطفى البرغوثي، غير اننا لا نجد أنفسنا في الموضع الامثل لاستنكارها. إن اولئك الذين يمارسون الإرهاب الجمعي بوسائل متفوقة هم الذين يحفزونه.

التخيل في ما يتجاوز نقطة اللاعودة

ليس ثمة ما يمثل دولة فلسطينية اليوم (وتوقع ان تكون دولة يبدو أبعد منالاً)، ولكن ثمة بالتأكيد أمة فلسطينية وهي حقيقة لا يمكن نقضها. وما زالت المأساة المعاصرة تدور حول الاعتراف بهذه الحقيقة او نقضها، رغم ان هذا الامر ينحو تدريجا الى ان يفوت ملاحظة اولئك الذين يناصرونها (او أبطالها). تعود جذور الأمة الفلسطينية الى ما قبل 1948، وحتى ما قبل 1920. لكنها اصبحت مدركة لتفردها وصاغت برنامجها سياسيا فقط كنتيجة لعملية التفكيك التي قاستها زمن النكبة.

والحال ان الوعي الوطني الفلسطيني لا يمكن فصله عن حقيقة ان الأمة الفلسطينية قد تعرضت للتمزيق والتشتيت في ثلاث مناح على الاقل. يشكل فلسطينيو إسرائيل («العرب») 20% من مواطني الدولة وقد منحوا حق الانتخاب وبعض الحقوق المدنية غير انهم يعانون تمييزا على المستويات الاجتماعية، والثقافية، والرمزية (على الاقل لان إسرائيل تعرّف كـ«دولة يهودية»). وسكان غزة، والضفة الغربية، والقدس الشرقية هم عرضة لانواع شتى من الابعاد، والاحتلال، والمراقبة. ثم هناك اللاجئون في مخيمات منتشرة في الشرق الأوسط، وآخرون في «الشتات» (diaspora). وليست هذه التصنيفات صافية، اذ يمكن ان تعتبر غزة مخيما ضخما ـ لعله الأكبر في التاريخ ـ كما ان سكان القدس الشرقية غدوا «عرب إسرائيل» عندما جرى ضم المدينة، رغم انهم لم يمنحوا هذه المنزلة القانونية.

والطريقة الوحيدة امام هذه الأمة لان تبقى على قيد الحياة تتمثل في الامل بأنها سوف تتوحد وانه سوف يتم الاعتراف بحقوقها، كما عبر المقاومة المنظمة. لكنها منقسمة في اتجاهات تتغير مع الزمن، وتتفاوت بين الوضع القانوني والمصالح المادية لمكوناتها المتعددة، وبين اشكال مماهاة مستمدة من الوطنية العلمانية في بعض الحالات والتدين الشعبوي في حالات اخرى، دون ان نغفل البعد الكوزمو ـ سياسي (cosmopolitical) الذي تطور خلال سنوات المنفى وعلى خلفية التعدد الثقافي لشرق الأوسط. وعليه فإنه امر لافت ان الفلسطينيين قد نجحوا تقريبا في حصر نزاعاتهم الداخلية وفي الرجوع عن حواف الحروب الاهلية التي حاولت اطراف عدة جرّهم إليها. والشاهد هو الاتفاق الاخير الذي تم التوصل إليه بين السلطة الفلسطينية وحماس على اساس «وثيقة الأسرى». وهذا التأرجح الدائم بين اغراءات النكوص الى قواها الذاتية والأمل بأن الرأي العام والمؤسسات الدولية سوف ينقلب لصالحها، يفرض على الأمة الفلسطينية ان تتصدى لمشكلتين، كل واحدة منهما مستعصية على الحل: الاولى تتعلق بعلاقاتها مع العالمين العربي والاسلامي، والاخرى تتعلق بعلاقاتها مع إسرائيل. الفلسطينيون هم بالطبع جزء من «العالم العربي». ويعولون على ان يكون مصدرهم الاول للتضامن المادي والدعم السياسي، غير ان العالم العربي هو الذي وجه إليهم اقصى الصفعات، خاصة عندما بدا الفلسطينيون انهم في وضع يمكنه ان يؤثر من الداخل على تطور بعض الدول. وقد بلورت «القضية الفلسطينية» عواطف وآمالاً للثأر من الامبرياليات المتعاقبة. كما قدمت نموذجا ثورياً ألهم «أمميات» استمرت طويلا (long- term internationalism) حتى من خارج المنطقة. وهي قد ساهمت في تطوير عداء لليهود على المستوى الشعبي كان محدوداً في العالم الاسلامي، واججت عددا من «الصراعات بالوكالة» كانت تعويضا مخياليا للعجز الجماعي. كما تم توظيفها منذ البدء من قبل الدول العربية، في الاجندة الداخلية، حيث تؤمن متنفسا للغضب الذي يؤججه الفساد، وغياب الحريات العامة والعدالة الاجتماعية، وفي الاجندة الخارجية حيث تلعب كورقة في التنافس بين دول الشرق الأوسط او كحجة يمكن استخدامها في سياق مفاوضاتها او مواجهاتها مع القوى العظمى التي تتصارع للسيطرة على المنطقة. وهو ما ادى الى ان تكون استقلالية المنظمات الفلسطينية عرضة للضغط بشكل دائم. انطلاقا من وجهة النظر هذه، يبدو ان المرحلة الحالية تتميز بنمو في استقلالية الفلسطينيين وليس بنقص فيها، كما اظهرت الانتخابات في المناطق المحتلة (رغم ان قسما من قيادة حماس يقيم في دمشق). وقد تتغير الامور اذا ادى القمع الإسرائيلي الى جعل الوضع الفلسطيني غير محتمل او اذا ازدادت حدة الصراع في الشرق الأوسط ضد الامبريالية الغربية (أساساً الامبريالية الاميركية، التي ينظر للاحتلال الإسرائيلي كجزء مكون منها) واذا ما جرى توحيد هذا الصراع في ايديولوجية دينية انتقالية وموحدة. لكن يبدو هذا احتمالا بعيداً.

وثمة مشكلة مماثلة، على المدى البعيد ان لم يكن على المدى القريب، تتصل بالعلاقات مع إسرائيل، غير انها من نوع مختلف. هل إن تدمير دولة إسرائيل هو في صالح الفلسطينيين؟ الجواب هو «نعم» على الاغلب طالما ان تدمير الحكام هو في مصلحة أي شعب مضطهد، واكثر من ذلك طالما ان القوى التي تؤيد حلا متوازنا هي الآن اقلية اكثر من أي وقت مضى، بالاضافة الى ان المجتمع الدولي قد تخلى بوضوح عن فرض حل كهذا ـ حتى ضمن الاشكال التي وضعت تصوراتها في كامب دايفيد وطابا (والتي كانت غير مرضية اذا ما اعتبرنا انها لم تتناول وضع «عرب إسرائيل» ولم ترجح التوازن بين «قانون العودة» الإسرائيلي و«حق العودة» للاجئين الفلسطينيين). لكن هل ان تدمير إسرائيل، الذي سوف يتخذ حكما شكل مجازر متبادلة وتشريد للسكان، سوف يحل مشاكل مستقبل الأمة الفلسطينية، حتى لو افترضنا ان ميزان القوى سوف يتيح هذا الامر في يوم ما؟ لا شيء اقل وثوقا من هذا الامر، خاصة ان نصف قرن من وجود إسرائيل وتطورها قد نجح، عمليا، في محو ما كان يوما فلسطين القديمة (بما فيه هندسة طبيعتها) وفي تثوير اقتصاد المنطقة عبر الاسهام في التطور الرأسمالي الذي تم استبعاد الفلسطينيين منه رغم اعتمادهم عليه. الفرق يكمن في ان هذا الاعتماد سوف يتم استبداله ببساطة بآخر يقوم على تطور دول عربية غنية بالنفط او ذات صبغة عسكرية. ما ان الفلسطينيين بحاجة إليه ليس هو تدمير إسرائيل، بل تحويلها. صحيح ان هذا سوف يعني تغيراً راديكالياً، ولذا فهو بعيد الاحتمال، كونه سوف يستلزم تفكيكا راديكاليا للاستعمار، وتخليا عن العرف من جانب واحد وإساءة استخدام القوة. على الأمة اليهودية بوعيها التاريخي ان تخضع لتحول عميق اذا ما أراد الشعبان اللذان يحييان الآن في فلسطين ان يكتشفا اشكالاً دستورية لتناغم اقتصادي وثقافي، تتيح لهما ـ أخيراً ـ مساواة سياسية تحت رعاية سلطة دولية فاعلة تستطيع ان تضمن أمنهما.

ونحن اليوم أبعد ما نكون عن تحقيق شروط حل كهذا، او عن أي رسم منظور مرحلي قد يسهل «عملية السلام» التي تقوم على مفاوضات بين الأفرقاء المعنيين. ويبدو انها قد ذهبت بلا رجعة وان الوضع ينزلق نحو نقطة اللاعودة، ذلك لان خصوصية المسألة الإسرائيلية ـ الفلسطينية آخذة في الانحلال في نزاع اكبر بكثير، ما زالت حدوده غير واضحة، ولكنه يصبح اكثر عنفاً بشكل متزايد ويتخطى قدرة التحكم عند فرقائه: الولايات المتحدة وحلفائها المتعددين (تظهر درجات متفاوتة من الموثوقية)، من جهة، والدول المعادية لاميركا والحركات الإسلامية «الاصولية» من جهة اخرى. ولذا فإن عدداً من الناس يتبنون الرأي القائل ان المسألة الإسرائيلية ـ الفلسطينية يجب حلها بشكل ملح عبر استخدام الضغوط اللازمة والوسائل الكفيلة بنزع فتيل «صراع الحضارات». لكن، هل ثمة وقت كاف؟ ومن سوف يحل هذه المسألة؟.