خبر أزمة الإخوان: نهاية التعايش، صعود « التنظيم »، وتوجهات نحو السلفية.. حسام تمام

الساعة 08:29 ص|01 نوفمبر 2009

أزمة الإخوان: نهاية التعايش، صعود "التنظيم"، وتوجهات نحو السلفية

 

حسام تمام ـ إسلام أون لاين 29-10-2009

ليست مبالغة القول إن أزمة تداعيات استقالة مرشد الإخوان (أو تنازله عن مهامه لنائبه) هي أكبر أزمة تنظيمية تمر بها الجماعة على مستوى القيادة منذ أكثر من نصف قرن، وتحديدا منذ واقعة الانقسام القيادي حول شخص المرشد الثاني حسن الهضيبي إبان أزمة الجماعة مع جمال عبد الناصر وقادة ثورة يوليو (1954)، وهي الأزمة التي انتهت بإقالة أو خروج عدد كبير من قادة الجماعة معظمهم من قادة النظام الخاص وتيار الأزهرية.

وزاد من حدة الأزمة الجارية خروجها الصاخب للإعلام على أوسع مدى، وهو خروج لم يكن سببه الوحيد الإعلام "المأجور" وثيق الصلة بالأجهزة الأمنية -وفق وصف الجماعة- بقدر ما ساهم فيه متغير جديد داخل الجماعة نفسها يتمثل في اتجاه كثير من قادتها وكوادرها إلى تصريف الآراء الداخلية وتسريب المعلومات التنظيمية عبر القنوات الإعلامية التي صاروا يسعون إليها بقدر سعيها الحثيث إلى الجماعة التي صارت وجبة إعلامية مثيرة وشهية.

الأزمة في كلمة

ويمكن اختصار الأزمة في كونها تتعلق بما بدا أنه فقدان الجماعة لقدرتها الفائقة، بل الاستثنائية، على التعايش الداخلي بين تياراتها الداخلية، واتجاه تيار متنفذ بين قيادتها إلى الحسم فيما يتعلق بصورة الجماعة ووجهتها ومسارها المستقبلي.

جبهة جامعة وليس تنظيماً

تعد جماعة الإخوان المسلمين كيانا خاصا ومختلفا يصعب فهمه للكثيرين ممن لم يعتادوا على هذا النمط من التنظيمات الشمولية، فهي من ناحية هيكلها التنظيمي أكبر من الحزب، ولكن دون الدولة، وهي في بنيتها الفكرية وتوجهها السياسي أقرب لجبهة أو مظلة جامعة لتيارات إسلامية مختلفة في الفكر السياسي منها إلى تنظيم سياسي محدد المشروع والبرنامج، وبداخلها تعددية تجمع فيها تيارات من تخوم السلفية المحافظة إلى حدود الليبرالية المتدينة، وهي تيارات ظلت على اختلافها قادرة على التعايش بينها وقابلة به يجمعها جميعا القبول بالعمل التنظيمي الواحد والقبول بمبدأ التغيير السلمي التدريجي.

وبين هذا التنوع يمكننا الحديث عن تيارين يقتسمان الجماعة؛ الأول تيار العمل العام (المنفتح أو الإصلاحي) الذي تكون في فضاء العمل الطلابي والنقابي والسياسي المفتوح، وهو المعروف بالتيار (الإصلاحي) الذي ظل يرسم وجه الجماعة في الحياة العامة، وأبرز رموزه في مكتب الإرشاد عبد المنعم أبو الفتوح، أما التيار الثاني فهو تيار العمل التنظيمي الذي يدير البناء التنظيمي للجماعة ويمسك بمفاصلها ويتولى مسئولية التجنيد وتحديد مراتب العضوية ودرجاتها ويضع مناهج التثقيف والتكوين الداخلي، هو تيار يوصف بـ(المحافظ) وأبرز رموزه في مكتب الإرشاد محمود عزت.

للجميع حق الوجود والعمل

ودائما ما احتفظت قيادة الجماعة بقدرتها على الإبقاء على التيارين معا دون تصادم على الرغم من الاختلاف الكبير بينهما في التوجه الحاكم؛ فأحدهما (تيار العمل العام) متوجه بطبعه إلى فضاء المجتمع المفتوح ومزاجه أقرب للانفتاح والتفاعل الإيجابي والمستمر مع المجتمع وتياراته المختلفة، فيما الآخر (تيار العمل التنظيمي) يتوجه دائما للداخل حيث يقيم عالمه الخاص الذي يربي فيه "الطليعة المؤمنة" يعلق عليها آمال ومسئوليات إصلاح المجتمع والأمة.

كان توسع عمل الجماعة وجمعها بين الدعوي الخيري والسياسي، وبين التنظيمي والعام، يسمح بالتعايش بين هذين التيارين الذين كثيرا ما نظر إليهما باعتبارهما مكملين لبعضهما البعض، وأن وجودهما وعملهما معا هو مما يعطي الجماعة قوة ويوسع من قاعدتها الجماهيرية ويعدل من صورتها بين النخب، وكانت الجماعة تبدي سعادتها من كونها قبلة الجميع، يجدون فيها ما يبغون، سواء سياسة وعمل عام أو دعوة وتربية أو نشاط اجتماعي وخيري، ولم تكن تنشغل كثيرا بمحاولة توحيد هذه المسارات في العمل ضمن رؤية واحدة بقدر ما كانت توجه اهتمامها فقط لعدم التصادم بينها.

عاكف مرشد لإستمرارية التوافق

ظلت هذه حقيقة ماثلة وحاكمة لقيادة الجماعة، وكانت أبرز مسوغات انتخاب مهدي عاكف مرشدا للجماعة في عام 2004، باعتباره عنوانا لرغبة الجماعة لاستمرار التعايش الداخلي والتوفيق بين تياريها الأساسيين، فالرجل وقت انتخابه (كان عمره وقتها 76 عاما) كان يقف في منتصف الطريق بين جيلين في مكتب الإرشاد تبدو الهوة العمرية بينهما كبيرة؛ الأول اصطلح على تسميته بالحرس القديم، وهم الذين تجاوزت أعمارهم الثمانين، والثاني من جيل الوسط الخمسيني الذي بدأ العمل الإسلامي في الجامعات في حقبة السبعينيات.

ومثلما كان عاكف عنصر التقاء بين شريحتين عمريتين فقد كان أيضا نقطة التقاء تيارين في الجماعة دائما ما يظهر التمايز بينهما في القضايا الإشكالية؛ ويجمع في سيرته الإخوانية ما يدعمه لدى التيارين، فعاكف التحق بصفوف الجماعة ولم يكمل الثانية عشرة من عمره وتربى على يد مؤسسها الإمام حسن البنا، أي أنه من "أهل السبق" بتعبير شيوخ الجماعة، كما أنه استهل ظهوره في الجماعة بالالتحاق بالنظام الخاص فالتنظيم السري.

ولكنه هو نفسه -عاكف- الذي حمل رصيدا غير قليل من المصداقية لدى الأجيال الأكثر شبابا وانفتاحا في الجماعة، والتي نشأت وتربت في العمل العام المفتوح، وخاصة جيل الوسط؛ إذ عرف دائما بأنه أقرب أعضاء مكتب الإرشاد إلى هذا الجيل وأكثرهم قدرة على استيعابه والتفاهم مع قياداته، وكان الأب الروحي لمشروع حزب الوسط والمكلف بإدارة ملفه من قبل الجماعة قبل أن تتطور الأحداث في اتجاه الأزمة الشهيرة التي انتهت بفصل أو استقالة معظم مؤسسي الحزب.

بداية التناشز والافتراق

انتخب مهدي عاكف مرشدا تعبيرا عما أسميته وقتها "توفيقية إخوانية ترضي كل الأطراف" وتدفع باستمرارية التعايش بين التيارين الرئيسيين، وقد حاول عاكف الحفاظ على هذا التوافق، لكن تطورات كثيرة مرت بالجماعة، بعضها سببه عاكف نفسه، كانت قد غيرت من إمكانية الاحتفاظ بصيغة التوافق والتعايش.

لقد شهدت فترة ولاية مهدي عاكف تسارعا كبيرا وربما غير محسوب في حركة الجماعة بدت وتيرته أسرع وأكبر مما تحتمله طاقة التعايش بين متناقضات تحملها جماعة أكملت الثمانين من عمرها، كما لعب عاكف دورا كبيرا في غلبة الوجه السياسي للجماعة على وجوهها الأخرى فوضع الجماعة أمام أسئلة جديدة كان عليها أن تجيب عليها بوضوح أكبر وبخطاب أكثر تحديدا وهو ما فشلت فيه على نحو ما رأينا في برنامجها لحزب سياسي، كما أدى غلبة السياسي الذي يميل إلى التحديد وليس العمومية والبرجماتية وليس المبدئية والمرونة وليس الصرامة، إلى تعميق الفجوة بينه وبين الدعوي والتنظيمي وهو ما أدى لانكشافه داخل الجماعة وجعله موضوعا للنقد والتجريح وأدى إلى تدخلات أوقفت حركته حينا وشوهت رؤيته حينا آخر، وعصفت في كل الأحيان بميراث التعايش الداخلي.

تصادم محتوم بين الإصلاحي والمحافظ

كانت المحطة الأهم في ضرب التعايش الداخلي بين التيارين البرنامج السياسي الذي طرحته الجماعة قبل عامين (2007) لحزبها السياسي المفترض وغير المنتظر، لقد كان طرح التيار الإصلاحي لرؤيته السياسية في ظل مناخ الانسداد السياسي لحظة حاسمة سمحت للتيار التنظيمي ببدء معركته لانتزاع كل مناطق النفوذ السابقة للتيار الإصلاحي ثم نزع الشرعية عن هذا التيار، ثم التدخل مباشرة بتغييرات حاسمة في البرنامج السياسي، بإضافة المادتين الشهيرتين اللتان تمنعان المرأة والأقباط من الترشح وتفرضان رقابة دينية على أداء المجلس التشريعي، لقد عبثت أياد تنظيمية محافظة بالبرنامج الذي وضعه الإصلاحيون فأفقدته طابعه ووجهته وأهدافه الإصلاحية.

بدا أن معركة البرنامج السياسي مرت بهدوء ودون هزة داخلية أو أنها ضاعت في صخب الأزمات والملاحقات التي تمر بها الجماعة ولا تكاد تنتهي، لكنها كانت فاتحة أو عنوانا لنهاية التعددية الداخلية وبدء معركة داخلية حول من يحق له أن يتحدث باسم الجماعة ومن يستحق أن ينفرد برسم صورتها، وكانت المحطة التالية الأكثر دلالة على احتدام الصراع الداخلي هي الانتخابات التكميلية لمجلس الشورى (2008) والتي حسمت كاملا لمصلحة تيار التنظيم بعد أن غير تركيبة مجلس الشورى لمصلحته وانفرد بترفيع خمسة منه لعضوية مكتب الإرشاد.

عاكف من التوفيق إلى الحسم

أتصور أن مهدي عاكف اختار في الأزمة الأخيرة، وربما للمرة الوحيدة، ترك دور "رمانة" الميزان والتوقف عن دور رجل التوافقات ليلقي بثقله وراء تيار الإصلاحيين استباقا لسيطرة شبه كاملة يوشك أن يبسطها تيار التنظيم على قيادة الجماعة، وهي سيطرة تكشفت مع التغيير الكبير في طبيعة مكتب الإرشاد التي كادت تصبح تنظيمية خالصة لا صوت فيها للإصلاحيين، وكان عاكف يسابق الزمن لوقف هذه السيطرة التنظيمية عبر ورقتين أخيرتين.. كانت الورقة الأولى محاولته الدفع بعصام العريان لعضوية مكتب الإرشاد للتعديل ولو قليلا في تركيبة مكتب الإرشاد الذي بات يسيطر عليه التنظيميون، بعد أن انتهي الوجود الإصلاحي في اثنين فقط أحدهما (عبد المنعم أبو الفتوح رمز هذا التيار) معتقل لأجل غير مسمي، والآخر (محمد علي بشر) يقضي في السجن حكما من القضاء العسكري، ولما فشل طرح فكرة الاستعانة به نائبا له من خارج مكتب الإرشاد، وهو ما كان يتصور أن اللوائح المنظمة تسمح به، لكنه اصطدم برفض تام من كل أعضاء المكتب. والثانية كانت محاولته الإسهام في اختيار خليفته على عينه وفي حضوره وقبل مغادرته منصبه، أو على الأقل منع التيار التنظيمي من بسط هيمنته على منصب المرشد بعد أن صار يطمع ليس فقط في الانفراد باختيار صاحبه (كما كان يحدث تقليديا حتى في حالة عاكف نفسه) وإنما صار راغبا في أن يكون المنصب خالصا له، وإذا ما وافقنا على أن محمود عزت، وهو رمز هذا التيار، مازال يفضل دور صانع المرشدين وليس المرشد الفعلي، فإن المؤكد أن الرجل صار يفضل مرشدا من قلب تياره، وفي هذه الحالة تدور الترجيحات بين محمد بديع ثم جمعة أمين، ويبدو الأخير الأقرب لمنصب المرشد، وهو ما تم التمهيد له بتسريبات إعلامية تؤكد حسم اختياره مرشدا. ورغم أن النائب الأول محمد حبيب بدا في خطابه للإعلام وتحركاته أقرب للتيار التنظيمي وأكثر انحيازا له، سواء في موافقته على رفض تصعيد عصام العريان لعضوية مكتب الإرشاد بمبررات واهية وبقراءة متعسفة للوائح الجماعة، أو في حديثه السلبي عن المرشد مهدي عاكف وأدائه في قيادة الجماعة، خاصة في الأزمة الأخيرة؛ فإن قراءة مدققة تقول إن حبيب هو الأقرب لعاكف والمفضل عنده خليفة له، بل لربما يذهب المراقب إلى أن ثمة توافقا وتفاهما، وربما ترتيبا مسبقا بين المرشد ونائبه للدفع بالأخير كمرشح أبرز وربما وحيد لملء المنصب الذي سيصبح شاغرا في بداية العام القادم 2010. ثمة مؤشرات على هذا التوافق، وربما الترتيب يتمثل في إصرار عاكف على التنازل عن صلاحيات منصبه لنائبه حبيب وتفويضه للقيام بمهامه، وفي حرص حبيب من جانبه على المسارعة إلى إعلان التفويض في أوسع مدى يتجاوز الأطر التنظيمية، وذلك عبر رسالة اختار بعناية توجيهها عبر قناة الجزيرة وتكرارها عبر جملة حوارات ولقاءات وتصريحات إعلامية متلاحقة، لكن الأمر يبدو أكثر وضوحا في الحرص البالغ من رموز التيار التنظيمي على عدم تمرير هذا التفويض، مرة بتفسيره على أنه إجراء شكلي لا صلة له بحسم منصب المرشد الجديد، ومرة أخرى بالتشكيك في التفويض وفي وقوعه أصلا، كما يفعل سعد الكتاتني رئيس الكتلة البرلمانية للجماعة وعضو مكتب إرشادها.

صعود المحافظين وآفول الإصلاحيين

المؤكد أن أزمة الإخوان مرشحة للتصاعد في المستقبل، خاصة مع اقتراب خلو منصب المرشد رسميا مع بداية العام القادم بما يستدعي انتخاب مرشد جديد، وكذلك مع التغيير المنتظر وشبه المؤكد في طبيعة مجلس الشورى الجديد الذي سيلتئم بداية العام بعد اكتمال الانتخابات الدائرة الآن داخل الجماعة، والتي تبدو فيها مؤشرات سيطرة حاسمة لتيار التنظيم، وهو تغيير ستكون له تداعياته الحاسمة والخطيرة على تركيبة مكتب الإرشاد الحالي لجهة تصفية أي بقايا لوجود إصلاحي من المكتب القديم، وهي تصفية الأغلب أن تنال حتى عضوية رمز التيار الإصلاحي (عبد المنعم أبو الفتوح) بمكتب الإرشاد الذي يبدو مؤكدا أن فرص إعادة انتخابه لمكتب الإرشاد صارت محل شك في ظل تغير طبيعة تركيبة القيادات الجديدة في الجماعة، خاصة في مجلس الشورى. ومما يزيد من فرص تصاعد الأزمة غياب أي قيادة تمثل مرجعية يحتكم لها في مثل هذه الخلافات، تقليديا كان المرشد مرجعية معتبرة يلجأ إليها، لكن مهدي عاكف فقد إمكانات الاضطلاع بهذا الدور، ليس فقط لكونه صار طرفا في الخلاف وربما موضوع الخلاف ذاته، بل لأنه نجح وعلى مدى خمس سنوات بمنصبه في إنهاء كاريزما المرشد وإسقاط الهالة التي كانت تصاحبه وتفرض احترامها بل سحرها على الأتباع والأنصار، كما يخلو مكتب الإرشاد من شخصيات يمكن أن تقوم بهذا الدور ولو لاعتبارات تتعلق بتقدم العمر و"السبق" في الدعوة، فغالبية أعضاء المكتب متقاربون جيليا وأقرب للأنداد، والكبار منهم لا يتوفرون على هذه الأفضلية، بعضهم بسبب مرضه وابتعاده عن الفعل والتأثير (لاشين أبو شنب ومحمد عبد الله الخطيب) والآخرون لطباع خاصة تفقدهم الرمزية التي تؤهلهم لدور المرجعية (مثل جمعة أمين المعروف بشدته وعنفه مع المخالفين). ومثلما تغيب المرجعية التي يمكن أن يحتكم لها في هذا الخلاف لا يوجد من يمكنه حسمه نهائيا أو السيطرة عليه ومنعه من النزول إلى قواعد الجماعة، الوحيد الذي كان مؤهلا لهذا الدور، وهو خيرت الشاطر، يقضي الآن عقوبة قاسية مفترض أن تبقي به في السجن إلى عام 2014. كان بإمكان خيرت الشاطر إدارة هذه الأزمة وإخراج الجماعة منها بأقل الخسائر، فالرجل كان ممسكا بكل مفاصل التنظيم، وكانت تمر عبره كل موارده وإمكاناته، ومثلما كان تنظيميا عتيدا فقد كان مقبولا من الإصلاحيين، بل لربما أمكن اعتباره إصلاحيا كامنا.

التصدع مازال صعباً

تفاقم أزمة جماعة الإخوان لا يغري بتوقع انشقاقات تضرب وحدتها التنظيمية، كما لن يتحول بالضرورة إلى هزة تنظيمية قوية تخلخل تماسكها وهرميتها، فبناء الجماعة والثقافة التنظيمية السائدة تحد كثيرا إلى حد المنع من فكرة الانشقاق والخروج على الجماعة، وتكلف صاحبها غرامة تزداد فداحة بعدد السنوات التي قضاها في التنظيم وعمق انغماسه في مجتمعها، كما حدث في حالة السيد عبد الستار المليجي الذي تعرض لضغوط نفسية واجتماعية ومعيشية كادت تعصف به. كما أن وضعية المواجهة التي تخوضها مع النظام تساهم في تماسكها التنظيمي وتعطي الأولوية للحفاظ على وحدة الجماعة واستقرارها وتجعله أولوية مطلقة، كما أن حالة الانسداد السياسي وغياب قواعد واضحة تنظم بوضوح الحق في تأسيس الأحزاب وتكوين الجمعيات وإصدار الصحف فضلا عن الرسالة الصريحة والمحددة باستبعاد أي إمكانية لإدماج الإسلاميين داخل النظام السياسي، كل ذلك من شأنه أن يغلق أي أفق للخروج من الجماعة والانفتاح على المجتمع والعمل في فضائه المفتوح، ويبدو الرفض الأخير والثالث للترخيص لحزب الوسط أقرب لرسالة إلى كل الذين يضيقون بالجماعة تقول لهم إن ضيق الجماعة أرحب من الوسع خارجها، وإن شدة التنظيم وعسره أهون وأفضل من إراقة ماء الوجه على عتبات الجهات الإدارية في الدولة. التصدع وربما الانقسام التنظيمي في جماعة الإخوان المصرية بحاجة لسنوات، لكن ميدانه سيكون خارج مصر، حيث يشهد عدد من التنظيمات القطرية للإخوان خلافات ومؤشرات انشقاق وانقسام، لا شك أن الأزمة التي يعانيها المركز الإخواني في مصر بما له من شرعية تاريخية وتأسيسية سيؤدي إلى تسارع وتيرة الخلاف والانقسامات في الأطراف، كما في الحالة الأردنية التي توشك على انفجار يتوقع أن يشطرها قسمين، والحالة العراقية التي تعاني أصلا حمي انقسامية لا تكاد تترك حجرا على حجر، وسيجعل من التجربة الجزائرية في الانشقاق نموذجا قابلا للتكرار في أي تنظيم للإخوان.

توجه نحو الإنغلاق ومزيد من السلفية

لكن أزمة جماعة الإخوان في مصر لن تمر بدون آثار وتداعيات كما يتصور أو يروج قادة الجماعة في حديثهم الرومانسي عن الجماعة التي صمدت ثمانين عاما أمام أشد العواصف والمحن، قد لا تؤدي فعلا إلى انشقاقات أو انسحابات تنظيمية كبيرة كما أسلفنا، لكنها ستفتح الباب لانسحاب هادئ غالبا أو خروج متوتر وصارخ أحيانا لعدد من أبناء التيار الإصلاحي من الصفوف والمواقع الثانوية، لكنه سيظل خروجا فرديا أو محدودا، وفي الأغلب سيتجه هؤلاء إلى تجميد أنفسهم وأنشطتهم التنظيمية والالتفات إلى ذواتهم والتفرغ لبناء أفكارهم ومشروعاتهم الخاصة التي لا تتصادم بالضرورة مع الجماعة، كما يتوقع أن تسود حالة من الإحباط، ومن ثم الانسحاب في الفئات الشابة الأكثر تأثرا بهذه الأزمة بحكم العمر والتأثر بالأطروحات الإصلاحية. أما التأثير الأعمق للأزمة فسيكون باتجاه مزيد من التشدد على المستوى التنظيمي وعلى المستوى الفكري أيضا، فالمتوقع أن يبدأ التيار التنظيمي ومسئولوه حملة تنظيمية تهدف إلى مزيد من الضبط والربط والتشدد في معايير التصعيد والترقي داخل الجماعة لمصلحته، كما سيتجه لملاحقة "البؤر" الإصلاحية المتبقية أو حصرها في جزر منعزلة لا تسمح لها بالتواصل والعودة مرة أخرى كتيار يخترق المستويات التنظيمية المختلفة بالجماعة. وتبدو الجماعة مقبلة على حالة "كارثية" جديدة تعيد إلى الأذهان ما جرى مع مشروع حزب الوسط في 1996، لقد أدت تهمة "الوسط" إلى تعبئة تنظيمية داخلية لتعقب قيادات وكوادر تنظيمية مهمة في كل أنحاء مصر (معظمهم من جيل الوسط) وتم إبعاد معظمهم أو دفعهم للخروج من الجماعة. ولن يتوقف التشدد عند المستوى التنظيمي، بل الأرجح أن يمتد إلى الأفكار الإصلاحية نفسها التي يتوقع أن تشهد تراجعا وربما أفولا في ظل بيئة غير مواتية، ليس بالضرورة أن يترجم ذلك في تغييرات كبيرة تدفع بالجماعة لمراجعة خياراتها الكبرى في قضايا مركزية حسمتها مثل التكفير والعنف، بل باتجاه مزيد من التمدد السلفي الذي تعاظم حضوره وتأثيره داخل بنية التنظيم ومناهجه التثقيفية وخطابه السياسي، وسيترجم هذا الحضور السلفي في مواقف الجماعة من القضايا التي يعاني موقف الجماعة فيها من هشاشة وسيولة، مثل الموقف من المرأة والأقباط وبعض القضايا الأخلاقية كتلك التي تتصل بالفنون والآداب والرقابة والنقاب والحريات الشخصية.. وهي قضايا أتوقع أن يتأثر موقف الجماعة منها بعد استقرار التحالف بين التيار التنظيمي المحافظ والتيار السلفي الصاعد.