خبر شهادات برائحة الموت في الذكرى الـ 53 لمجزرة كفر قاسم

الساعة 05:39 ص|31 أكتوبر 2009

فلسطين اليوم-الخليج الإماراتية   

رغم تجاوز الحاج عبدالرحيم طه أبو يزن من مدينة كفر قاسم الثانية والسبعين من عمره لكن ذاكرة مجزرتها الرهيبة ابنة الخمسة عقود التي صادفت، أمس، لا تبرح خلده للحظة منذ وقوعها في التاسع والعشرين من أكتوبر/تشرين الأول عام 1956 .

 

وفي حديث لـ “الخليج” يروي أبو يزن التفاصيل الدقيقة لما جرى بحذافيرها، ويشاركه في توثيق أحداث المجزرة زوجته وهي ابنة عمه الحاجة عزيزة (62 عاما) التي جمعهما القدر في الرباط الزوجي وفي مأساة ما زالت تقطر ألما، تعجز الألسن عن وصفها .

 

ويستذكر أبو يزن المجزرة التي استشهد فيها 49 شخصا، ويقول إنه عاد ورفاقه العمال (حوالي 20) من العمل في الحقول مستقلين سيارة قادها عطا الله اليعقوب، ومعه شقيقه . ويقول إنهم اصطدموا على مداخل كفر قاسم بحاجز عسكري استوقفهم وسارع لحصدهم بأوامر القائد . ويتابع وقد احمرت وجنتاه وعيناه “بدأنا نسمع رش البارود فوق روسنا، فانبطحنا في أرضية السيارة، وأنا كنت بجانب الباب وشاهدت أربعة جنود يطلقون الرصاص”، وكان أحدهم مختبئا خلف أشجار الصبار على حافة الطريق ويمطر العائدين لمنازلهم بالنار .

 

ويوضح أن الجنود أمروا قائد السيارة بالتوقف وأنزلوا راكبيها وأجبروهم على الاصطفاف صفا واحدا قبالة البنادق الرشاشة المشهرة . “في تلك اللحظة أذكر أن جنديا من القتلة قال لزميله بالعبرية: حطّم رؤوسهم، وأنا كنت أفهم لغتهم لأني تعلمت في مدرسة يهودية، وعندها ضمني شقيقي جمال من وسطي وأمسك بي بقوة وهو يرجف ولو نجا من رصاص القتلة لربما كان سيموت رعبا . . ولكن رعب الأطفال لم يؤثر في قلوب القتلة الخالية من الرحمة، فأمطرونا بالرصاص وسقطنا على الأرض” .

 

ويستعيد الحاج أبو يزن لحظات الرعب المحفورة في ذاكرته، وروى اللحظات الأخيرة لشقيقه جمال “كان جمال اخوي بعد فيه روح وصار يحكي معي: متت خيّا . . متت خيا”، ويسأل: قتلوك يا خوي . . وأنا من طرف عيني لحظتهم يتفقدون الضحايا واحدا واحدا للتثبت من قتلهم” .

 

ويؤكد أبو يزن الذي كانت زوجته تصغي لروايته متسمرة في مقعدها بخشوع بالغ، أن القتلة أجهزوا على كل جريح وعلى من لم يلفظ أنفاسه الأخيرة بعد . ويتابع “لمست يده عله يفهمني بصمت لكنه لصغر سنه عاد وأبلغني بصوت مسموع بأنه أصيب وأنه لا يريد أن يموت” .

 

 

 

يتابع أبو يزن استعادة تلك اللحظة المرة وهو يكشف عن آثار الضرب في يده، ويضيف “وضع الجندي فوهة بندقيته الرشاشة على رأس أخي جمال وأطلق طلقة قاتلة فصار الدم ينزف بغزارة من رأسه أما أنا فأصابتني رصاصة بيدي وتلطخت بدمائي ودماء جمال فظنوا أنني مت” .

 

وردا على سؤال عن قدرته على استعادة المجزرة بتفصيل دقيق رغم مرور أكثر من خمسة عقود، سارعت كريمته البكر للقول “كل سنة يحكي لنا تفاصيل المجزرة من دون أن ينسى شيئا ثم يغرق في الدموع” .

 

وتنضم زوجته الحاجة عزيزة أم يزن وتضيف شهاداتها “الحاج عبد الرحيم كان شجاعا، وعمره ما عرف الخوف، ولو حدا ثاني صار معاه هيك كان زمانه فقد عقله وجّن” . بعد أن استجمع أنفاسه وقواه يتابع أبو يزن “ظليت طيلة الليل أنزف مستلقيا بين جثامين الشهداء خائفا وجائعا لا أقوى على رفع رأسي خوفا من رصاصهم . . وأمي كانت تحبني جدا، ويبدو أن الله قد كتب لي الحياة رغم كل المشاهد المروعة التي تفلق الصخر” .

 

ويشدد على أن عقارب الزمن تجمدت في مكانها في تلك الليلة حتى بدت وكأنها مائة سنة . يقول “طيلة الليل كنت أتخيل أنهم حرثوا البلد عن بكرة أبيها، وقلت إذا أعدموا عشرين شخصا منا ضربة واحدة . . لا بد أنهم اعدموا أمي وأبي وكل العائلة والجيران فما طعم الحياة من بعدهم؟” .

 

 

 

كما يستذكر مشاهد الرعب في كفر قاسم غداة مجزرتها فيستذكر رجلاً كان عائداً للقرية فصار يبكي ويلطم بمرارة أمام مشاهد الجثامين النازفة المنتشرة على قارعة الطريق، فقال أحد الجنود الذي تحدث بالعربية “فضحنا أخو أل ( . . . . .) وبعدها أعدموه على الفور برصاصة . ويتابع “بعد نحو نصف ساعة من إطلاق النار علينا عند مدخل القرية وصلت سيارة مملوءة بفتيات من كفر قاسم أنهين يوم عمل عاديا وكن يطبلن على صندوق من الكاز الفارغ ويغنين فرحات في مساء ذاك اليوم اللعين، وسمعت واحدة منهن تقول “مال هاذي الناس نايمة على التراب وما يتحركوا” . لكن الجنود المدججين بالبنادق سارعوا لاستيقاف مركبتهن، وقاموا بجر الفتيات من شعورهن وقتلهن .

 

كما يؤكد أبو يزن الذي يتابع ما رآه بطرف عينه وهو ممدد بين الجثث “واحدة منهن كانت حاملا ورأيت مولودها يطل من أحشائها جراء تمزيق بطنها بالرصاص” .

 

ويستطرد في استحضار ذاكرته المغمسة بالأسى “ليلة إعدام الشهداء، كنت بينهم جريحا، سمعت صوت محمد سليم خضر صرصور، لا أعرف عمره بالتحديد، لكنه كان من 35 إلى 40 عاماً، وكان عائدا من العمل على دراجتة فأطلقوا عليه النار، لكنه لم يستشهد، وكان بالقرب من البئر التي تبعد حوالي 10 أمتار حيث تم إعدام الشهداء، وعلى ما يبدو أصيب بجروح بالغة لم يحتمل الوجع، وبدأ يصرخ من الألم ويقول “اقتلوني”، فقام الجنود بإطلاق رصاصه عليه، لم أسمع صوته بعدها وكان قريبا منّا، وفي صبيحة اليوم التالي علمت أنه استشهد، ورأيت الكثير من الدراجات ملقاة على الأرض، فكل عامل كان عائدا من العمل أعدموه” .

 

واستذكر قدوم الجنود ثانية في صباح اليوم التالي لنقل جثامين الشهداء في سيارة جيب فتنبه أحدهم لبقاء أبو يزن على قيد الحياة فصار يضحك ساخرا ويقول اقتلوه، وعندها قال أبو يزن بالعبرية: اقتلوني، وأضاف “في ذاك الصباح طلب جندي آخر من ابن بلدنا صالح اللطيفة الذي جاء باحثا عن أقاربه أن يدوس برجليه على جثمان ابنته الشهيدة وعمرها 14 عاماً، فرفض قائلا: اقتلوني ولن أدوس عليها ثم قام بلفها وأخذها” .

 

أما زوجته الحاجة عزيزة فلها ما يقال حيال تلك المجزرة مشددة على تذكر الكثير من تفاصيلها رغم صغر سنها وقتها ( 9 سنوات) وكأنها حدثت العام الماضي . تستعيد الحاجة عزيزة تلك المأساة “كنت عند زوجة عمي، حماتي لاحقا، وكانت انتهت من إعداد الخبز وتخرج من الطابون لتوها فصارت تلطم خديها وقالت لابنها جمال (استشهد في المجزرة) أسرع ونادي شقيقك عبدالرحيم وقد قدمت له نصف رغيف مع زيت وملح لإطفاء جوعه بناء على طلبه، فكان ذلك عشاءه الأخير قبل أن يستشهد . وتابعت “ولاحقا شاهدت ثلاثة جنود أحدهم قال بالعربية: يا أولاد يا بنات إلعبوا في البيوت . . ولم نستجب لطلبهم وبعدها تجولوا في البلدة، والعلم عند الله أنهم تلقوا وقتها أمر إطلاق النار” .

 

وتروي الحاجة عزيزة كيف قام جنود باعتراض طريق ثلاثة شبان عائدين بالأغنام وهم سامي سليمان عيسى، عبد سّمور عيسى، إبراهيم حماد عيسى، ورموهم بالرصاص وفرت الأغنام . . وحينما وصل فتى آخر يدعى شاكر لقي نفس المصير .

 

وتتابع أم يزن “كنت واقفة خلف الباب وأرقب عبر ثقب صغير ما يجري أمامي وكنا لا نقوى على الصراخ مما شاهدناه خوفا . . ولحق الجنود ابن خالتي طلال ابن الحادية عشرة وقتلوه” .

 وتشير أم يزن إلى أن جدها شاكر عيسى سارع بعد رحيل الجنود للشارع وحمل جثة طلال وخلع كوفيته وحاول تضميد جروح طلال الذي نزف من صدره لكنه لفظ أنفاسه بين يديه وتتابع “لشدة القهر والحزن والهّم مات جدي طلال وهو يبكي ويقول، وين أبوك، وين أمك، وين أختك، يا طلال راحوا، وهمي كانوا كلهم مصابين” .

 

على شجرة الزيتون طيلة الليل

 

وروى الحاج الحاج إسماعيل عقاب بدير أبو عزمي (70 عاما) الناجي من المجزرة بعد أصابته وبتر ساقه أنه أصطدم بثلاثة جنود ملثمين في مدخل كفر قاسم مساء الاثنين في التاسع والعشرين من أكتوبر/تشرين الأول ،56 وأضاف “أوقفوا كل من وصل في طابور ولما بلغ الحاجز ابن بلدنا سليم أحمد بدير قالوا له: صف يا كلب . . وما لبث الضابط أن أصدر أمره بالعبرية: أحصدوهم وفعلا فتحوا النار علينا وكنت أسمع سليم يصرخ “يا أولادي”

 

 وأوضح أبو عزمي ل “الخليج” أن الجنود سارعوا لنقل الجثث من الشارع لكرم زيتون مجاور وأنه تظاهر بالموت بعد أصابته بساقه وأضاف “عندها سمعت أحد الجنود يقول عبر جهاز اللاسلكي: لقد قتلنا أكثر من عشرين وكان القائد يجيبه: أكملوا . .أكملوا” .

 

وروى أبو عزمي وبجانبه أبو الأمين الذي فقد شقيقه في المجزرة بعيون دامعة، أنه زحف على قدميه ويديه وسط العتمة نحو الجهة الشرقية وتسلق شجرة زيتون ومكث عليها بعد أن لف موقع الجرح بقطعة قماش طيلة يومين . وأضاف “في البداية خشيت من نزول الشجرة ولاحقا عجزت عن ذلك لأن جرحي تفاقم وانتفخت ساقي بل صرت أشاهد الديدان تخرج منها، وصباح الخميس ناديت سيدة مرت قريبا مني ولم تسمعني بسبب ضعف صوتي وعندها رميت بنفسي فأحست بي واستدعت أهل البلد الذين نقلوني للمستشفى حيث بترت ساقي” . وأكد أبو عزمي صعوبة استذكار الذكرى رغم انقضاء نصف قرن عليها وقال إنها ما زالت بالنسبة له وضع الملح أو البارود في جرحه غير المندمل .

 

كيف اقترفت المذبحة؟

 

استنادا الى شهادات اللجنة الشعبية لإحياء ذكرى المذبحة وملفات المحكمة “الإسرائيلية” اقترفت الجريمة بدم بارد وبعلم المستوى السياسي ولأهداف سياسية، وتالياً وقائعها:

 

في صبيحة يوم 29 أكتوبر/تشرين الأول ،1956 اليوم الذي شن فيه العدوان الثلاثي على مصر، أبلغ قائد المنطقة الوسطى، الجنرال تسفي تسور، العقيد شدمي الذي كان قائد أحد الألوية المسؤولة عن الحدود مع الأردن (التي شملت منطقة المثلث من بير السكة حتى كفر قاسم)، أن سياسة الأركان العامة تجاه السكان العرب في المنطقة تقتصر على تمكين المواطنين من مزاولة أعمالهم العادية من دون إزعاجهم أو المس بهم بهدف الحفاظ على الهدوء في منطقة الحدود مع الأردن إذ إن العدوان سيتركز في الجبهة الجنوبية ضد مصر .

 

لكن العقيد شدمي طلب فرض منع التجول لتسهيل انتشار الجيش، ولمنع جنود الاحتياط، لدى اقترابهم من مواقع الجيش في الليل، من المساس بسكان القرى . واستجاب قائد المنطقة لطلب شدمي .

 

ويشار إلى أن القرى المذكورة كانت تحت نظام الحكم العسكري، وكان منع التجول الليلي يسري بشكل دائم بين الساعة العاشرة ليلاً والرابعة فجراً .

 

 وعند الساعة الواحدة من بعد ظهر ذاك اليوم عقد لقاء بين العقيد شدمي وملينكي، قائد وحدة حرس الحدود، وأمره شدمي بفرض حظر التجول في كفر قاسم، كفر برا، جلجولية، الطيرة، الطيبة، قلنسوة، بير السكة وإبثان، ابتداء من الساعة الخامسة مساءً وليس من الساعة العاشرة كالمعتاد .

 

وأصدر ملينكي أوامره بفرض حظر تجول صارم، مشددا على ضرورة تطبيقه بإطلاق النار . وعندما سأله ملينكي ماذا سيكون مصير الفلسطيني العائد من عمله من دون علم بالأمر، أجاب شدمي “الله يرحمه” .

 

وبعد ثلث ساعة من اللقاء بينهما اجتمع ملينكي بضباطه، وأبلغهم بسياسة حظر التجول المعتمدة على عدم المساس بمن يستترون في بيوتهم، وإطلاق النار على كل من يخرج منها . وأوضح ملينكي أنه يفضل وقوع بعض القتلى على اتباع سياسة الاعتقالات لحفظ منع التجول في الأيام المقبلة . وعندما سأل أحد الضباط ملينكي، ماذا سنفعل بالمصابين؟ أجاب ملينكي، “لن يكون هناك مصابون”، وعن سؤال الجندي منشيه أرييه حول مصير النساء والأطفال، أجاب ملينكي: “بلا عواطف” . وعندما سأله نفس الجندي عن العائدين من العمل قال ملينكي: “الله يرحمهم” .

 

محكمة صورية

 

 

في الثاني من نوفمبر/تشرين الثاني 1958 استهلت محكمة العقيد شدمي الضابط المسؤول عن المذبحة، فصدر حكم هزيل بتبرئته من القتل وتغريمه بدفع قرش واحد، وبقيت هذه المهزلة محفورة في الذاكرة الفلسطينية كرمز للمقاضاة الصورية . إلا أن المحاضر العلنية والسرية لهذه المحكمة كشفت وقائع لم تكشفها محكمة ملينكي من قبله، ما ألقى ضوءاً جديداً على القضية . فقد تبين أن الجنود ال 11 المتهمين بتنفيذ المذبحة لم يكونوا سوى الأيدي المنفذة لعقول خططت ودبرت على أعلى مستوى من رئاسة الأركان ووزارة الحرب، والمعنيان هما الجنرال موشيه ديان، رئيس هيئة الأركان ورئيس الحكومة ووزير الحرب دافيد بن غوريون .