خبر المفاوضات الفلسطينية ـ الفلسطينية إلى أين؟ ..منير شفيق

الساعة 10:44 ص|28 أكتوبر 2009

المفاوضات الفلسطينية ـ الفلسطينية إلى أين؟ ..منير شفيق

 

ـ مركز الجزيرة للدراسات 27/10/2009

الخلافات داخل الساحة الفلسطينية اتخذت أشكالا متعددة في تاريخ المقاومة الفلسطينية، وعلى وجه التحديد منذ الأول من ديسمبر/ كانون أول 1965، ووصل الأمر إلى حدوث انشطار كبير داخل منظمة التحرير الفلسطينية على إثر طرح برنامج النقاط العشر عامي 1973 و1974.

وأحدث التوقيع على اتفاق أوسلو في خريف 1993 انشطارا أوسع إذ واجه معارضة فلسطينية واسعة شملت حركتي حماس والجهاد وعددا من فصائل المقاومة إلى جانب عدد كبير جدا من الشخصيات والنخب الوطنية البارزة، وكان أغلب هؤلاء الأخيرين من مؤسسي منظمة التحرير الفلسطينية سنة 1964 ومن المشاركين في تشكيلها الثاني عام 1968.

ثم انتقل الخلاف والانشطار إلى داخل حركة فتح على مستوى القيادة في العامين 2003 و 2004 متخذا شكل المطالبة بتجريد الرئيس ياسر عرفات من صلاحياته وتسليمها إلى رئيس الوزراء محمود عباس في حينه، مع إبقاء الأول مجرد رمز للتوقيع على ما يمكن أن يتحقق من اتفاقات.

ما ميز الخلاف والانشطار الأخير تحوله إلى انقسام في السلطة بين الرئيس ورئيس وزرائه محمود عباس، مما رفعه إلى مستويات أعلى وأخطر من أية خلافات أو انشطارات سابقة، ولهذا لم يحسم إلا باغتيال ياسر عرفات من قبل شارون وبدعم  وغطاء أميركيين.

عاد الانقسام إلى السلطة بعد انتخاب محمود عباس رئيسا لها وانتخاب حماس، بعد سنة تقريبا، بأغلبية كبيرة في المجلس التشريعي. فمنذ أوائل 2006 انقسمت السلطة إلى رئاسة يمثلها محمود عباس ومعه حركة فتح من جهة ومجلس تشريعي ورئاسة حكومة تقودها حماس من جهة ثانية، ثم تحول مع تداعياته إلى انقسام بين قطاع غزة حيث تقود حماس السلطة الفلسطينية فيه وسلطة في الضفة الغربية يقودها محمود عباس وسلام فياض.

في كل حالات الخلاف والانشطار، ولاسيما حالتا الانقسام داخل السلطة بين رئاسة ورئاسة الوزراء تم الانقسام إلى سلطتين في غزة ورام الله، كان الخط السياسي وإستراتيجية العمل وراء الأسباب الحقيقية لكل خلاف أو انشطار أو انقسام.

فعلى سبيل المثال أدى فشل مفاوضات كامب ديفيد 2 واندلاع انتفاضة الأقصى في خريف 2000 ثم تصاعد المقاومة المسلحة إلى انضمام ياسر عرفات بصورة مباشرة وغير مباشرة إلى دعم المقاومة والانتفاضة. وقد شكل هذا التوجه معارضة ضده داخل السلطة بزعامة محمود عباس، كما أدى إلى محاصرته إسرائيليا، ومقاطعته أميركيا، وإلى انقلاب الموقف المصري ضده كذلك.

توظيف الانقسام

أما الانقسام الثاني في السلطة بين شرعيتين، فقد كانت -هو الآخر- السياسة وراءه بامتياز كذلك، ولكن تحوله إلى انقسام بين سلطتين واحدة في الضفة وأخرى في القطاع جعل الانقسام يطغى على السياسة، أو أريد له أن يطغى، مما آثار لغطا واسعا من قبل الكثيرين من المسؤولين العرب وعدد من القيادات الإعلامية والسياسية حيث اتخذوا من الانقسام ذريعة للتشهير بالفلسطينيين، واعتبروهم يسيئون لقضيتهم وحملوهم مسؤولية السياسات الإسرائيلية التي عطلت مسار التسوية كما العدوان على غزة.

هذه الحملة الظالمة بإبراز الانقسام والمبالغة فيه وإخفاء الأسباب السياسية وراءه أريد منها تغطية التنازلات العربية والتقصير العربي في بمواجهة الكيان الصهيوني، ونفض اليد من القضية الفلسطينية ودعم مقاومة شعبها، كما غطت على مواقف محمود عباس، بما في ذلك الاتفاق الأمني الفلسطيني – الإسرائيلي – الأميركي، وبناء أجهزة أمنية بإشراف الجنرال كيث دايتون، إلى جانب التغطية على سياسات مؤتمر أنابوليس والمفاوضات الثنائية فيما الاستيطان في الضفة الغربية والجدار وتهويد القدس والحفريات تحت المسجد الأقصى ماض على قدم وساق.

ولقد مهدت هذه الحملة التي ساوت بين طرفي الصراع إلى جانب نتائج حرب العدوان على قطاع غزة إلى إطلاق ما سمي بمفاوضات المصالحة الفلسطينية.

الدافع الأول لمصر لرعاية مفاوضات فلسطينية – فلسطينية للمصالحة بين فتح وحماس ولتوحيد جميع الفصائل، كان لإنقاذ محمود عباس الذي اتسعت دائرة الشبهات ضده بسبب مواقفه أثناء العدوان الصهيوني على قطاع غزة، إلى جانب الحاجة إلى إنقاذ شرعيته وتمديدها بعد أن انتهت منذ يناير/كانون الثاني 2009.

فالمفاوضات تتطلب التهدئة وعدم فتح معركة شرعية الرئاسة بعد انتهاء مدتها، كما تغطي تمديد تلك الشرعية عبر قرار من مجلس الجامعة العربية الذي صادر إرادة الشعب الفلسطيني وحل مكانها في تمديد شرعية محمود عباس.

أما حماس التي خرجت قوية في مواجهتها لحرب العدوان على القطاع، وبالرغم من تأكدها من انحياز الراعي المصري ضدها فقد ذهبت إلى المفاوضات على أمل فتح معبر رفح الذي يؤدي استمرار إغلاقه إلى إحكام الحصار على قطاع غزة، كما تجنبا لاتهامها برفض المصالحة أو بالمسؤولية عن استمرار الانقسام، وربما أيضا على أمل تخفيف القبضة الأمنية على الضفة الغربية وإطلاق معتقلي سلطة سلام فياض وأجهزتها الأمنية.

ولكن ما أن انطلقت المفاوضات وقد تحقق لمصر ما أرادته منها فيما يتعلق بعباس، حتى تحولت إلى أهداف أخرى كان في مقدمتها: استبعاد الحديث عن الخلاف السياسي وراء الانقسام وعلى التحديد استبعاد مناقشة الخط السياسي الذي يتبناه محمود عباس، ومن ثم حصر المفاوضات في بحث قضايا إجرائية مثل النظام الانتخابي واعتماد القائمة النسبية أو الترتيبات الخاصة بتوحيد الأجهزة الأمنية وقضايا فرعية أخرى.

وبهذا تحولت المفاوضات إلى سعي حثيث للاتفاق حول الانتخابات الرئاسية والتشريعية وإعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية، وتشكيل لجنة عليا للإشراف على عملية التوحيد بين الضفة والقطاع وتنفيذ ما يتفق عليه وما شابه.

وكل هذا باختصار لا يعني تحقيق مصالحة فلسطينية ما دام الاتفاق لم يمس الخلاف السياسي الجوهري، فهو أقرب لو تحقق إلى التهدئة منه إلى المصالحة، بينما تجري الانتخابات الرئاسية والتشريعية التي تمثل عمليا تنظيم إنهاء شرعية المجلس التشريعي الذي تتمتع حماس بأغلبيته. فأية انتخابات قادمة سوف تكون مزورةـ أو تجري مع عدم مشاركة حماس فيها، ولهذا يمكن القول أن المفاوضات بعد "خلاصها" من نتائج العدوان على قطاع غزة أصبحت مفاوضات لمصالحة كاذبة.

عمليا ظلت الخلافات قائمة حتى على مستوى اللجان الفرعية التي حافظ كل طرف على مواقفه، فيما حافظت مصر على ورقتها الخاصة بإغلاق معبر رفح فكانت تفتحه مؤقتا ثم تعود إلى إغلاقه مجددا، وقد وصل الأمر بالمفاوض الفتحاوي حد أن أعلن أن بحث قضايا المعتقلين في الضفة الغربية مسألة خارج النقاش لأنها ذات أبعاد دولية.

وهكذا راحت المفاوضات تدور حول نفسها تتقدم خطوة لترجع خطوتين إلى الوراء، وتؤجل لتتواصل ثم لتؤجل حتى وصلت أخيرا، وليس آخرا، إلى الاتفاق على أن يعد الوسيط المصري ورقة تلخص ما تم الاتفاق عليه أو تكون قريبة إلى ما يمكن أن يتفق الطرفان (فتح وحماس) عليه، ثم تعرض على الفصائل الأخرى للموافقة الجماعية عليها كذلك. وبهذا تكون تلك الورقة ورقة "المصالحة" المجمع عليها.

وهنا أصبحت مصر متعجلة في الآونة الأخيرة لإعلان المصالحة ولو حول بضع نقاط تلخص بصفحة واحدة، وذلك لحاجتها الشديدة إلى تحقيق إنجاز بعد أن اشتدت الحملات الداخلية والخارجية متسائلة عن دور مصر، بعد أن غاب هذا الدور أو كاد فيما تعاظم الدور التركي والدور الإيراني والدور السوري.

فالمفاوضات، التي كان يراد لها أن تكون مستمرة إلى أن يمر عام 2009 حتى يحين استحقاق الانتخابات الرئاسية والتشريعية وتنتهي مدة المجلس التشريعي ذي الأغلبية الحماسية، أصبحت تجري على نار حامية وغدا مطلوبا تحقيق إنجاز من خلالها أمرا ملحا بالنسبة إلى الراعي المصري أولا وقبل كل شيء.

وبالفعل أنجزت الورقة المصرية بسرعة قياسية وبدت قابلة للتوقيع من قبل الطرفين بعد أن أعطت لحماس بعض ما طالبت به ولاسيما تأجيل موعد الانتخابات لمدة ستة أشهر وإجراؤها على أساس انتخابات رئاسية ومجلس تشريعي ومجلس وطني لمنظمة التحرير الفلسطينية في آن واحد.

وأعطت لمحمود عباس انحيازا عاما في مصلحته وإن أخذ عليها تأجيل موعد الانتخابات التي كان ينتظرها ساعة بساعة، وذلك لضمان تحكمه في نتائجها كما تحكم في نتائج انتخابات المؤتمر السادس لحركة فتح، واختيار بديلا للأعضاء المتوفين من أعضاء اللجنة التنفيذية.

المصالحة بشروط جديدة

ولكن حدث تطور مفاجئ، في آخر لحظة، لم يعلن عن أسبابه أدى إلى إحداث بعض التغيير في الورقة المصرية التي اعتبرت ورقة التوقيع بعد أن ردت حماس وفتح عليها بما في ذلك إبداء التحفظات، وشمل التغيير الذي استجد نقطتين هامتين:

الأولى اعتبار محمود عباس رئيسا للجنة العليا التي ستشرف على تنفيذ الاتفاق، وقائدا عاما للأجهزة الأمنية كلها، إلى جانب رئاسته للسلطة واللجنة التنفيذية. وبهذا لم يعد طرفا وإنما أصبح الحاكم بأمره في كل الشأن الفلسطيني. بل لم يعد مستفردا بالقرار السياسي الذي استبعد من المفاوضات فحسب، وإنما غدا مستفردا أيضا بالقرار الأمني في تشكيل أجهزة الأمن وقيادتها وبقرارات اللجنة العليا المشكلة من قادة الفصائل.

أما النقطة الثانية فالإشارة إلى أن السلاح الوحيد المسموح به هو سلاح أجهزة الأمن الشرعية. وبهذا تصبح خلايا المقاومة خارجة على الشرعية تماما كما هو حالها في الضفة الغربية.

هذا التغيير يضع حماس أمام خيارين: إذا قبلت به وضعت حبل مشنقتها بيديها حول عنقها، وإذا رفضته اتهمت برفض المصالحة وتكريس الانقسام وحملت مسؤولية تشديد الحصار على قطاع غزة الذي أريد منه أن يبقي ورقة الضغط الهائلة على حماس لما يحمله من تهديد لمليون ونصف مليون إنسان يسكنون القطاع.

هذا التغيير الذي أدخل على ورقة المصالحة يناقض حاجة مصر إلى إنجاز، ولا تفسير له سوى حدوث تدخل ما ربما على مستوى إدارة أوباما طلبته شرطا للمصالحة، مع التقدير بأن رفضه من قبل حماس يسمح بشن حملة عشواء ضدها مما يضعف ما جنته من قوة، سواء كان بانتصار قطاع غزة تحت قيادتها على العدوان الإسرائيلي في 2008-2009، أم كان بسبب ما لحق بمحمود عباس وسلطة رام الله من تدهور في سمعتها بسبب قرار تأجيل التصويت على تقرير غولدستون في مجلس حقوق الإنسان في جينيف.

هنا اقترحت مصر أن تقدم ورقة مختصرة تلخص ما اقترب الطرفان من الاتفاق عليه، وبدت الأمور سائرة بهذا الاتجاه لاسيما بعد زيارة وفد حماس برئاسة خالد مشعل رئيس المكتب السياسي لحركة حماس بمصر. ولكن يبدو أن تدخلات نافذة تدخلت لإحداث تغيير جديد على تلك الورقة تحصر السلاح بيد أجهزة الأمن وتعطي صلاحيات مطلقة لمحمود عباس مما وضع حماس أمام خيار الانتحار الذاتي إذا وقعت عليها، وبهذا أصبح اتفاق المصالحة متعذرا، أو أصبح التوقيع عليه بمثابة السير في جنازة المقاومة لا المشاركة في "عرس المصالحة الكذابة".