خبر تركيا العائدة وإسرائيل الحائرة (تقدير موقف) ..عدنان أبو عامر

الساعة 02:15 م|19 أكتوبر 2009

تركيا العائدة وإسرائيل الحائرة (تقدير موقف) ..عدنان أبو عامر

 

ـ إسلام أون لاين 18/10/2009

لم يأت القرار التركي بتأجيل المناورات العسكرية مع إسرائيل مفاجئاً للعديد من الأوساط السياسية الإقليمية، وتحديداً الإسرائيلية، التي تراقب عن كثب "هبوطاً" في المستوى البياني للعلاقات الحميمة مع تركيا التي بدأت في الظهور عملياً منذ وصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكم قبل سنوات قليلة.

علماً بأن آخر تقدير موقف للخارجية الإسرائيلية صدر قبيل نشوب الأزمة الأخيرة وضع تركيا كلاعب إقليمي يرسخ مكانته في المنطقة في السنوات الأخيرة، كونها قوة عظمى إقليمية رائدة، ذات قدرات مركزية في الحلبة الإقليمية: العراق، وإيران، وسوريا.

ولذلك، وضعت تل أبيب في سياستها الخارجية أن تكون أنقرة في المديين القصير والمتوسط هدفاً للصادرات وللتعاون الأمني، فيما ستصبح على المدى البعيد، مشروعاً لـ"ممر البنى التحتية" ليشكل قفزة في العلاقات مع إسرائيل، وفقاً لما أكده "عيران عتسيون"، الرئيس السابق لشعبة التخطيط السياسي في وزارة الخارجية.

ومع ذلك، فإن توتر العلاقات بصورة تدريجية، يدفعنا للإشارة إلى عدد من المواقف السياسية التي اتخذها "العثمانيون الجدد"، كما يحبون أن يسمون، واعتبرتها تل أبيب مؤشرات سلبية في هذه العلاقات، ومنها:ـ

1 ـ الترحيب التركي الرسمي بفوز حركة حماس في الانتخابات التشريعية، واستقبال قيادة الحركة على الأراضي التركية، في "تحدٍ" صارخ للإرادة الدولية، ومن بينها الإسرائيلية، التي اشترطت للاعتراف بفوز حماس وتشكيلها للحكومة الفلسطينية، الاعتراف بالاتفاقيات الموقعة، ونبذ المقاومة.

2 ـ الموقف التركي الصلب الذي عبر عنه رئيس الحكومة رئيس الحكومة "رجب طيب أردوغان" من الحرب الإسرائيلية الأخيرة على غزة، واتهام الجيش الإسرائيلي بارتكاب جرائم حرب ضد الفلسطينيين.

3 ـ التقارب التركي الإيراني، والذي إن شكل تنافساً في بعض الأحيان، في إدارة بعض ملفات المنطقة، فإنه يتنافى مع رغبة تل أبيب التي تريد تشديد العزلة السياسية على طهران، بسب الموقف من الملف النووي.

4 ـ "الحميمية" التي طرأت بصورة تدريجية على العلاقات السورية التركية، بدءاً بالتنسيق في المواقف السياسية، وتوقيع اتفاقيات إستراتيجية في مختلف المجالات، وإلغاء اشتراط الحصول على التأشيرة للسوريين لدخول الأراضي التركية، وصولاً إلى الاتفاق على إجراء مناورات عسكرية مشتركة!

5 ـ تحول المدن التركية إلى ساحة حقيقية لتنفيذ العديد من النشاطات والفعاليات المؤيدة للفلسطينيين، في حالة احتفالية معادية لإسرائيل منذ عقود عديدة، ولم يكن ذلك ليتم دون "غض الطرف" الرسمي، فضلاً عن تشجيعها ودعمها.

ضيف غير مرغوب به

ومع إعلان أنقرة رسمياً إلغاء مناورات "صقر الأناضول" العسكرية الجوية الدولية التي كان من المتوقع قيامها في إحدى القواعد العسكرية الجوية، التقطت تل أبيب الإشارة، فالمقصود هو "إسرائيل" التي أصبحت ضيفاً غير مرغوب فيه في ساحة التعاون العسكري التركي الغربي، حيث بات من المعروف إسرائيلياً أن توتر علاقات خط تل أبيب–أنقرة لا يتعلق أساساً بما ذكرناه آنفاً من مواقف سياسية اتخذتها حكومة حزب العدالة والتنمية أساساً، وإنما  هو توتر يجد محفزاته الرئيسية في توجهات الحزب الحاكم، وتحديداً المتعلقة بالآتي:ـ

1 ـ السياسة الخارجية: التأكيد على إتباع سياسة خارجية مستقلة وخارج دائرة التنسيق التقليدي مع تل أبيب - واشنطن، وقد بدأ الأداء السلوكي لهذه السياسة يعكس نفسه منذ بدايات صعود الحزب في عام 2002.

2 ـ السياسة الداخلية: تبلور صراع سياسي تركي يمثل طرفاه حزب العدالة والتنمية وحزب الشعب الجمهوري، وقد اختار محور واشنطن - تل أبيب دعم الأخير.

3 ـ المستجدات السياسية: والخاصة بتلك الأبعاد غير المعلنة من سياسة أنقرة تجاه تل أبيب، فتنظر إليها الأوساط الإسرائيلية على النحو التالي:ـ

أ‌- سياسة تركيا الجديدة إزاء سوريا: وما ترتب عليها من روابط مشتركة متزايدة، إضافة للمواقف السياسية المؤيدة لحقوق دمشق في صراعها مع تل أبيب، ورفض تركيا المتزايد لتقديم التسهيلات الأمنية العسكرية التي تتيح لإسرائيل استهداف سوريا، وتجلى الموقف التركي "غير المتواطئ" مع تل أبيب في المفاوضات غير المباشرة التي ظلت تشرف على رعايتها أنقرة.

ب‌- سياسة تركيا الجديدة إزاء إيران: ظلت أنقرة طوال الأعوام الماضية ترفض الوقوف إلى جانب حليفتها واشنطن لجهة التورط في تشديد العقوبات ضد طهران، ورفضها القاطع لأي طرف باستغلال أراضيها وأجوائها للقيام باستهداف إيران.

علماً بأن التسريبات "الإسرائيلية" حول المناورات الأخيرة التي أجلها الأتراك، أشارت إلى أنهم كانوا يخططون لاستخدامها بشكل مزدوج لـ:

1- المشاركة في المناورات والتدريبات الجوية بحسب البرنامج المحدد،

2- تنفيذ عملية مخابراتية عسكرية سرية بالتعاون مع القوات الجوية الأمريكية المشاركة.

وتشير التسريبات إلى أن العملية السرية الموازية هدفت للقيام بعمليات الرصد والاستطلاع الجوي لبعض مناطق الحدود الإيرانية، والرصد الإلكتروني لطبيعة عمل الرادارات ووسائل الدفاع الجوي الإيرانية من خلال التحليق في الأجواء التركية.

وبالتالي فإن القرار التركي بتأجيل المناورات، وإن جاء محصلة لتراكمات سياسية وأمنية، يشير كما تقرأ ذلك المحافل الإسرائيلية جيداً، إلى قرار تركي جدي بـ"النأي" عن إسرائيل مهما كان الثمن غالياً، ومهما كانت واشنطن سخية في دفع مليارات الدولارات لتمويل جدول أعمال العلاقات العسكرية الأمنية الإسرائيلية - التركية.

إسرائيل "الغاضبة"

جاءت ردود فعل القيادة الأمنية والسياسية في تل أبيب على الفتور في العلاقات مع تركيا، التي وصلت ذروتها بإلغاء مشاركة القوات الإسرائيلية في المناورات العسكرية، على النحو التالي:ـ

أ- الوزير "بنيامين بن أليعازر" قال: من السابق لأوانه الحديث عن أننا خسرنا العلاقة مع تركيا، فهي ما زالت جارة مهمة لإسرائيل، وعلاقاتنا بها تتميز بمصالح إستراتيجية كبرى وعليا، ما يحتم العمل على تفادي حصول أي أزمة معها.

ب- مسئولون في وزارة الدفاع أشاروا إلى أن التعاون العسكري مع تركيا سيستمر، لكن طبيعته ستكون أقل بروزاً عما هي اليوم، والمناورات الجوية المشتركة قد تجري دون الإعلان عنها.

ج- نائب وزير الخارجية "داني أيالون": مصلحتنا في عدم الوصول إلى احتكاك أو أزمة مع تركيا، ونحن نرى فيها شريكاً إستراتيجياً هاماً لإسرائيل، ومصدراً للاستقرار.

د- مسئول كبير في وزارة الخارجية أعرب عن تقديره بأن أنقرة ليست معنية باستمرار علاقاتها الإستراتيجية المتميزة مع تل أبيب، وأن ثمة مخاوف إسرائيلية حقيقية من أن العلاقات مع تركيا في خطر حقيقي في أعقاب الدرك الذي وصلته بعد الحرب الإسرائيلية على غزة، ويتحتم على إسرائيل تدارك الموقف بسرعة لتفادي الأزمة الخطيرة في العلاقات مع تركيا.

أما أغلب الأوساط الصحفية والإعلامية في إسرائيل، فقد اتهمت رئيس الوزراء التركي "رجب طيب أردوغان" مباشرة بالوقوف وراء تأزم العلاقات مع تل أبيب، وذكرت أنه ليس معنياً بمواصلة العلاقات الإستراتيجية الخاصة معها، لأنه بنظرها يميل إلى انتهاج خط سياسي معاد لإسرائيل، مقابل التقارب مع إيران وسوريا.

في المقابل، فقد علت أصوات إسرائيلية حملت "تهديدات" لتركيا، وضرورة عدم الانحناء وخفض الرأس أمام أنقرة، ويجب التوضيح لـ"أردوغان" أنه لا يمكنه إمساك العصا من طرفيها، الحفاظ على مكانة تركيا لدى الغرب من جهة، ومن جهة أخرى إقامة علاقات مع دول متطرفة مثل إيران.

وأشارت أوساط سياسية إلى أن تل أبيب لن تمر مرور الكرام على السلوك التركي الأخير، وأنها تدرس احتمال توجيه رسائل إلى أنقرة عن طريق جهات أوروبية وأمريكية، مفادها أن إسرائيل عنصر مهم في الشرق الأوسط، وأن حلف شمال الأطلسي لن يسمح بالالتفاف عليها في القضايا الأمنية المطروحة على بساط البحث.

وهنا بالذات، لا ينبغي إطلاقاً المرور بشكل عابر على التصريح الهام لوزير الدفاع "إيهود باراك" الذي لم يعط للقرار التركي بتأجيل المناورات أهمية كبرى، ولعله أراد "قاصداً" عدم تضخيم القرار، لاعتبارات إستراتيجية، وقال: برغم الارتفاع والهبوط، ما تزال تركيا عاملاً رئيساً في منطقتنا، ولا مكان للانجرار إلى حماسة في التصريحات الموجهة إليها. هذا في الوقت الذي طالب فيه رئيس الحكومة "بنيامين نتنياهو" وزراءه بعدم الحديث إطلاقاً لوسائل الإعلام عن أزمة العلاقات الإسرائيلية - التركية.

الهبوط المطرد

ترى بعض المحافل الإسرائيلية، لاسيما تلك العاملة في المجال البحثي والدراسي، أن "تركيا المسلمة" كانت على امتداد الأعوام حليفاً ثابتاً وموثوقاً لإسرائيل، أما الآن، فعلاقاتها الإستراتيجية معها في هبوط مطّرد، والتدهور بدأ كما يقول "رون بن يشاي"، أبرز المحللين العسكريين، عندما فشلت محاولة الوساطة التي قام بها "أردوغان"، بين "أولمرت والأسد"، وما لبث الأمر أن تحول إلى "تسونامي" أثناء الحرب على غزة، وفي أعقابها.

ويصل "بن يشاي" إلى حقيقة يصفها بـ"المرة"، وهي أن "علينا أن نعترف أن أنقرة، في الوقت الراهن على الأقل، توقفت عن أن تكون شريكاً إستراتيجياً أمنياً موثوقاً لإسرائيل، وهي حقيقة تمثّل أصلاً ضرراً فعلياً لأمن إسرائيل القومي، لأنها "تقضم" ردعنا حيال إيران وسوريا، وكل من ينظر في خريطة المنطقة سيفهم ذلك دون صعوبة".

ولذلك، فقد انطلقت من داخل المحافل الأمنية والاستخباراتية الإسرائيلية أصوات مختلفة عن كيفية الرد على الأزمة، حيث نصحت، كما أشار يوسي يهوشع الصحفي المقرب من الأجهزة الأمنية، إلى أن "الانبطاح" أمام الأتراك لن يجدي نفعاً في هذه المرحلة، لأن الحكومة في أنقرة مصممة على "هجر" التحالف مع إسرائيل، وتسخين علاقاتها مع سوريا وإيران.

ومع ذلك، فإن إسرائيل "الرسمية" لم تستسلم للخطوة التركية، ولم ترفع "عقيرة" تنديدها، كما فعلت ذلك بعض الأوساط الصحفية التي رفعت السقف عالياً، الأمر الذي تبدى في بعض الخطوات الدبلوماسية والأمنية، ومنها:ـ

1 ـ السفير الإسرائيلي في تركيا "غابي ليفي" التقى بمسئولين كبار في الخارجية التركية،

2 ـ الملحق العسكري الإسرائيلي في أنقرة التقى ضباطاً كباراً من الجيش التركي،

3 ـ عقد المدير العام لوزارة الخارجية "يوسي غال" نقاشاً شارك فيه كثيرون لموضوع الأزمة مع تركيا، وبحثت فيه سبل "تسكين" النفوس، وإعادة العلاقات إلى مسارات عادية.

وربما أكثر ما فاجأني ما ذهب إليه "موشيه ماعوز"، البروفيسور المتخصص في الشئون الإسلامية والشرق أوسطية في الجامعة العبرية، حين وصف المنعطف الذي تمر به العلاقة مع تركيا بـ"الإشارة الحمراء"؛ فقد كانت تركيا القوة العظمى الإسلامية – الإقليمية الأولى التي اعترفت بإسرائيل عام 1949، وعلى مدى السنين طورت معها تعاوناً وثيقاً في مجالات إستراتيجية، وأمنية، واقتصادية، وقد وضع "ماعوز" لهذا التطور في العلاقات أسباباً وعوامل أساسية، منها:ـ

1 ـ النظام العلماني الذي حكم تركيا منذ أواسط القرن الماضي.

2 ـ علاقاتها السيئة مع دول عربية أخرى، لاسيما سوريا.

3 ـ مساعدة اللوبي اليهودي في واشنطن لها، وبالأساس في الموضوع الأرمني.

عودة "الرجل المريض"

مقدم البرامج التليفزيونية السياسية الأشهر في إسرائيل "دان مرغليت"، كان الأكثر حدة في توجيه اتهامات قاسية ولاذعة للموقف التركي، مؤكداً أن أنقرة فعلاً تريد العودة إلى مرحلة "الرجل المريض"، قائلاً: لحظة جنون تصيب تركيا بقيادة "رجب طيب أردوغان"، وهو يتصرف كـ"المخدر"، ويحتاج إلى كميات متزايدة من المخدر ذي الرائحة "اللاسامية"، كل يوم يجلب معه توسيع "وباء" التحريض، ليس بمعدلات جدول حسابي يعني بالناقص والزائد، الاختبار هو حسب الجدول الهندسي، المضاعف، ولعله يفكر باستعادة عهد الإمبراطورية العثمانية، الذي انتهى في نهاية الحرب العالمية الأولى، ولن يعود أبداً".

فيما كان البروفيسور"إفرايم عنبار"، أستاذ العلوم السياسية في جامعة بار إيلان، ومدير مركز بيجين السادات، أكثر صراحة وعقلانية حين طالب صناع القرار في تل أبيب بالتروي في رد الفعل "المتشنج" تجاه تركيا، لأنه كما قال ما زال متأملاً، برغم العلامات الكثيرة التي تشهد بأنها أخذت تنزلق في منحدر "التطرف الإسلامي"، فإن إسرائيل ملزمة إلى جانب العالم الغربي بجذب "الديمقراطية التركية" نحوها، لأن خسارة تركيا لصالح "الإسلام المتطرف" – على حد وصفه- ستكون ضربة إستراتيجية شديدة لإسرائيل والغرب.

أخيراً.. فإن المراقب لطبيعة السلوك السياسي الإسرائيلي تجاه التوتر الحاصل مع تركيا، يخرج بقناعة أن تل أبيب لن تواصل إعلان غضبتها من الموقف مع أنقرة، على الأقل إعلامياً ودبلوماسياً، لسبب هام جيو-سياسي بالدرجة الأولى، وهي أن موقع تركيا، جغرافياً وإستراتيجياً وسياسياً، لا يجب أن يخضع من وجهة النظر الإسرائيلية لردود الفعل "النزقة والمنفعلة"، بل أن تعاد الأمور إلى نصابها، على نار هادئة.. فهل تنجح في ذلك؟!