خبر انتصروا لشهداء غزة ..عبد الباري عطوان

الساعة 10:56 ص|17 أكتوبر 2009

انتصروا لشهداء غزة ..عبد الباري عطوان

 

ـ القدس العربي 17/10/2009

تبني مجلس حقوق الانسان الدولي لتقرير غولدستون يوم الجمعة، والمصادقة على جميع توصياته دون تحفظ، هما انتصار كبير للرأي العام العربي، والفلسطيني منه على وجه الخصوص، وهزيمة مذلة لثقافة احتقار الارادة الشعبية، والقفز فوقها، والتفرد بالقرارات المصيرية دون الرجوع الى المؤسسات وصنّاع الرأي.

الفضل كل الفضل في هذا الانجاز غير المسبوق يعود الى بركان الغضب الشعبي الذي انفجر داخل الاراضي الفلسطينية المحتلة وخارجها، احتجاجا على تفرد مجموعة من اربعة اشخاص فقط في سلطة رام الله بالقرار، ودون اي تنسيق او تشاور مع اللجنتين المركزية لحركة 'فتح'، والتنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية مصدر الشرعية والتأييد لهذه السلطة ورئيسها.

خريطة التصويت على التصديق في مجلس حقوق الانسان جاءت حافلة بالمفاجآت، وشكلت تبلور مرحلة جديدة في العمل السياسي والدبلوماسي على الساحة الدولية، تذكرنا بالايام الذهبية للامم المتحدة، وتعاظم نفوذ دول العالم الثالث، وهي المرحلة التي افرزت اكثر من ستين قرارا بنصرة الحق العربي، ابرزها وصم الحركة الصهيونية ودولتها اسرائيل بالعنصرية.

قراءة سريعة لمعركة التصويت هذه، والكلمات التي القاها المندوبون اثناءها او تمهيدا لها، يمكن من خلالها استخلاص النقاط والعبر التالية:

اولا: اثبتت عملية التصويت، وإقرار تقرير غولدستون ان كل ما قاله المتحدثون باسم السلطة، تبريرا لكارثة سحب التصويت، بان لا علاقة لهم بها، لان السلطة ليست عضوا كامل العضوية، يمكن ان تتقدم او تسحب التقارير. ان هؤلاء المتحدثين مارسوا كل انواع الكذب والتضليل، بدليل ان السلطة هي التي اعادت تقديمه الى المجلس، وهي التي لعبت الدور الاكبر في اعتماده.

ثانيا: قال هؤلاء المتحدثون ان دولا كبرى مثل الصين وروسيا لم تكن مؤيدة للتقرير، ولذلك تقرر سحبه، لنكتشف انهما كانتا الاكثر حماسا وسعيا لإقراره، ولم يتردد مندوباهما مطلقا في التصويت لصالحه.

ثالثا: اثبتت الكتلة العربية الاسلامية المدعومة من دول العالم الثالث انها تستطيع، لو ارادت، نصرة قضاياها في المحافل الدولية، لما لها من ثقل اقتصادي وسياسي في زمن انهيار العولمة، وبروز قوى عظمى جديدة.

رابعا: ما زالت قضية فلسطين عامل توحيد اساسياً للعالمين العربي والاسلامي، وتعبئة للرأي العام الدولي ومنظمات حقوق الانسان، وهذا عنصر مهم نسيه العرب، وبعض الفلسطينيين في غمرة اللهاث خلف التطبيع مع اسرائيل، والرضوخ للاملاءات الامريكية.

خامسا: بروز قوى اسلامية اقليمية عظمى، مثل تركيا وايران، وتحديهما لاسرائيل وجرائمها، بدأ يعطي ثماره بشكل ايجابي على الساحة الدولية، من حيث زيادة عزلة اسرائيل وحشد الدول الصديقة ضدها.

سادسا: تراجع نفوذ الولايات المتحدة الامريكية وانحسار هيمنتها على المنظمات الدولية، ولو بشكل اولي، فالولايات المتحدة الامريكية كانت وحيدة تقريبا في معارضتها للتقرير، بينما امتنع اقرب حلفائها مثل بريطانيا وفرنسا عن التصويت، وهذا مؤشر مهم يجب أخذه بعين الاعتبار.

سابعا: نتائج التصويت تعكس مدى انفضاض العالم في معظمه من حول اسرائيل، وشعوره بالقرف من سياساتها، واعتراض القوى الكبرى على مجازرها ضد الابرياء من ضحاياها في الارض المحتلة. فالابتزاز الاسرائيلي المدعوم امريكيا لم يعد يعطي ثماره، والتهديدات الاسرائيلية المستندة الى قوة اللوبي اليهودي، والعصا الامريكية باتت تفقد مفعولها تدريجيا، وهذا تطور يؤكد ان العالم بات يضيق ذرعا بالتدليل الامريكي لاسرائيل، ووضعها فوق الشرعية الدولية ومؤسساتها، وحمايتها ومجرمي حربها من اي عقوبات.

انها 'لعنة غزة' التي تطارد الاسرائيليين، انها دماء الشهداء الاطفال الذين احرقت اجسادهم الطاهرة قنابل الفوسفور، وصواريخ الدبابات والطائرات. هذه اللعنة ستظل تلاحق كل مجرمي الحرب الاسرائيليين اينما كانوا، واينما حلوا، مثلما طاردت رجالات السلطة الذين حاولوا بيعها مقابل استئناف جولات المفاوضات العقيمة، في ظل استهتار اسرائيلي بكل مفردات عملية السلام، والاستجداءات العربية والامريكية لتجميد الاستيطان.

اسرائيل تواجه اكبر مأزق في تاريخها، فقد رفعت عنها الحصانة الدولية للمرة الأولى، وباتت جرائمها عارية بكل تفاصيلها الدقيقة امام العالم بأسره، ولذلك علينا ان نكون حذرين ونتوقع منها مغامرة مجنونة في محاولة للخروج من هذا المأزق.

فعندما يقول ايلي بيشاي نائب رئيس الوزراء الاسرائيلي إن اسرائيل تعاملت بقفازات من حرير مع المدنيين الفلسطينيين اثناء هجومها على قطاع غزة، فإن علينا ان نتوقع من هذه الحكومة المتطرفة والشعب الذي اوصلها الى الحكم مجازر حرب اكبر، وضحايا اكبر. فإذا كانت هذه القفازات الحريرية قتلت 1400 انسان بريء نصفهم من الاطفال، فكيف سيكون الحال لو لم تكن غير حريرية؟

حكومة نتنياهو التي قالت ان التصويت على تقرير غولدستون بالايجاب سيؤدي الى قتل العملية السلمية (متى كانت حية؟) لن تتورع عن الاقدام على خطوات انتقامية، ثأراً لهزيمتها هذه، سواء بتشديد الحصار على الشعب الفلسطيني، او حتى على السلطة ورئيسها الذي خرج من دائرة الخوف، وقرر النزول الى حلبة التحدي، منتصراً لمطالب الشعب الفلسطيني.

يجب اتخاذ كل الاحتياطات الضرورية، مع التحرك بسرعة لابقاء هذا الزخم العالمي المعارض لاسرائيل والمنتصر لدماء الشهداء مستمراً، من خلال خطوات عملية، علمية، مدروسة. فالمعركة في بدايتها وهناك جولات قادمة اكثر شراسة في الجمعية العامة ومجلس الامن الدولي.

الكتلة العربية الاسلامية هي قوة الدفع الحقيقية لتحقيق هذا الانجاز، جنباً الى جنب مع مؤسسات المجتمع الدولي ومنظمات حقوق الانسان، ولذلك من الحكمة تأجيل الاحتفالات، وتشكيل هيئة عالمية من كبار المحامين الدوليين، والشخصيات البارزة في منظمات حقوق الانسان لقيادة المواجهات في الجولات المقبلة.

شهداء غزة الذين حققوا هذا الانجاز الكبير الذي لم تحققه الجيوش العربية الجرّارة، يستحقون ان يهنأوا في مثواهم الاخير في جنة الخلد، فتضحياتهم واشقائهم لم تذهب سدى، فقد غيروا معادلات لم نكن نحلم مطلقاً بتغييرها، واثبتوا ان المفاوضات والارتماء عند اقدام العدو لا تحقق غير الهوان والمزيد منه.

اسرائيل باتت مكروهة، منبوذة، محتقرة، بسبب غرورها وغطرستها، واستئسادها على الضعفاء العزل بطرق وحشية غير مسبوقة، ولذلك بدأ العد التنازلي لانهيارها.