خبر السلطة الفلسطينيّة وتقرير غولدستون ..منير شفيق

الساعة 05:58 ص|17 أكتوبر 2009

السلطة الفلسطينيّة وتقرير غولدستون ..منير شفيق 

لم يعد هنالك من شك في أن المندوب الفلسطيني إبراهيم خريشة في جنيف طلب من ممثلي الوفود الرئيسة التي كانت داعمة للتصويت في مصلحة تقرير غولدستون تأجيل اتخاذ القرار. وبالطبع لم يفعل إبراهيم خريشة ذلك (من دون إعفائه من المسؤولية الشخصية) إلاّ بناء على تعليمات صادرة عن رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس وسلام فياض رئيس الحكومة (غير الشرعية).

 

اتخاذ القرار من أعلى مستوى أي من قِبَل محمود عباس أصبح معترفاً به، ولم يعد أحد يجادل في نفيه. الأمر الذي يوجب أن يحاسَب عليه وألاّ يمرّ مرور الكرام. مثلاً، كما فعلت كل من الجبهة الشعبية والجبهة الديمقراطية إذ وصفتاه بـ"الجريمة" ثم أخذتا تتراجعان عن تكرار هذا الوصف، والأهم متابعة ما يترتب عنه من مسؤوليات، أقلّها محاسبة محمود عباس ومندوبه في جنيف إلى حد المطالبة بالاعتذار للشعب الفلسطيني عن هذه "الجريمة" إن لم يكن الاستقالة، إذ من غير المعقول، وضد الأعراف الدولية، أن تُرتكب "جريمة" من مسؤول سياسي ثم يُطوى الموضوع كأن شيئاً لم يكن.

أما الخيار الثاني فعلى الجبهة الشعبية والجبهة الديمقراطية الاعتذار عن اتهام قرار التأجيل بأنه "جريمة" ومن ثم إعادته إلى مجرد "خطأ" واعتباره أمراً طبيعياً في السياسة. ولكن يجب أن تفسّرا لماذا وصفتاه بالجريمة في حينه. ثم هل هو خطأ أم جزء من نهج سياسي متماسك.

 

لم تكن ردود فعل السيد محمود عباس ومستشاريه أقل تخبّطاً في معالجة قرار التأجيل. ففي البداية أنكر صائب عريقات "كبير المفاوضين" أي دور لمنظمة التحرير أو مندوبها في قرار التأجيل. ثم أعلن نمر حماد المستشار الخاص لمحمود عباس أن قرار التأجيل صائب ودافع عنه واعتبره في مصلحة الشعب الفلسطيني. وفي اليوم نفسه صرّح محمود عباس من اليمن أن م.ت.ف ليست عضواً في لجنة حقوق الإنسان وأن دولاً عربيّة وإسلاميّة كانت وراء قرار التأجيل.

 

هذا التصريح اليتيم حتى الآن حمل عدّة أبعاد كان أولها تلبيس المسؤولية للدول العربيّة والإسلاميّة الأعضاء في اللجنة، وكان ثانيها التنصّل من أيّة مسؤوليّة في الموضوع. ولكن من دون أن يقول ما هو موقفه من القرار العتيد.

 

ولكن بعد أن أعلن وزير خارجية مصر أحمد أبو الغيط أن مصر لم تعلم بقرار التأجيل إلاّ بعد صدوره لم يعد بمقدور محمود عباس أو مستشاريه التنصّل من المسؤوليّة. وهذا ما عكسه تصريح لصائب عريقات قال فيه نعم حدث خطأ "وجميعنا مسؤولون عنه" بمن في ذلك "كل عضو في منظمة التحرير".

 

هنا بدأت عملية التمييع في توزيع المسؤوليّة وإعفاء محمود عباس من المسؤوليّة الأولى والمباشرة ومن دون الرجوع إلى اللجنة التنفيذيّة لمنظمة التحرير أو اللجنة المركزيّة لحركة "فتح"، وكلتاهما شُكلتا على أساس دعم خطه السياسي. وبهذا دخلنا في منهج توزيع الدم بين القبائل والجميع حتى لو لم يَعرفوا في الموضوع إلاّ بعد اتخاذ القرار واندلاع الضجة المترتبّة عليه.

 

ثم انتقل "الاحتيال" على المواجهة الشجاعة للقرار وتحديد المسؤوليّة، بالقول: "القرار خطأ" وندينه (إدانة القرار وليس مُتخِذَه). ولكن المشكلة هنا في استغلاله من قبل الذين أثاروا الضجة حوله لأن ذلك يمسّ بوحدة الصف الفلسطيني. هذه الوحدة التي تقتضي أن تكون لها الأولوية حفاظاً على تمثيليّة منظمة التحرير الفلسطينيّة.

 

الأسلوب الفني هنا اتخذ الشكل الآتي "القرار خاطئ ويجب أن يُدان" وانتهى الأمر. ومن يقول كلمة أكثر من ذلك مثل السؤال لماذا ارتُكِبَ هذا "الخطأ"؟ وهل هو مجرد خطأ أم هو جزء من نهج سياسي كامل وخط سياسي معلَن وممارَس ولم يكن من الممكن عدم ارتكابِه؟ سوف يُعرّض الوحدة الوطنية للخطر ويُسهمُ في تعميقِ الانقسام خدمة لأجندة خارجية. وبهذا تنتقل المعركة ضد من يحتجون عليه، أو يثيرون مجموعة أسئلة تتطلب إجابات عنها.

 

من يربط بين قرار التأجيل والخط السياسي الذي يتبنّاه ويمارسه محمود عباس سيجده ضمن ذلك الخط. وإذا كان هنالك من "خطأ" أو "خطيئة" أو "جريمة"، فالاتهام يجب أن يوجّه إلى الخط السياسي المذكور جملة ومن الأساس.

قرار التأجيل اتخذه محمود عباس في القمّة الثلاثية التي عقدت في واشنطن بينه وبين نتنياهو وأوباما وقد تمّ الاتفاق في تلك القمّة على ما أكدّه جورج ميتشل في زيارته الأسبوع الفائت إلى المنطقة بأن يرسل كل من محمود عباس ونتنياهو وفداً إلى واشنطن للمناقشة في الموضوع الفلسطيني. و"المناقشة" هنا حلَّت مصطلحاً، ولو مؤقتاً، مكان كلمة "مفاوضة". ولكن صائب عريقات عضو لجنة فتح المركزية (الجديدة) صرّح بكل حزم "أن لا مفاوضات" ثنائية، أو مباشرة. وقد نسِيَ أن النهج الذي اتبِّع في كامب ديفد2 لم يأخذ شكل مفاوضات ثنائية وإنما كان كل وفد في "غرفة" وكان "الراعي" الأميركي يفاوض أو "يناقش" كلا على حدة. ولم يلتقيا مواجهة وثنائياً قط في كامب ديفد2.

 

وبهذا يكون ما يجري الآن، وبلا حاجة إلى لف ودوران، مفاوضات على طريقة كامب ديفد2. وقد يكون ذلك مقدّمة تهيئ الوضع لإعلانها مفاوضات بدلاً من "مناقشة". أي بعد أن يكون قد نُسِيَ أو طُوِيَ شرط أوباما وشرط عباس بضرورة وقف النمو الاستيطاني وقفاً تاماً من أجل بدء المفاوضات. فهذا الشرط انتهى مع عقد القمة الثلاثية المذكورة.

 

ولكن كيف يمكن أن يُقال إن قرار التأجيل الذي اتخذه محمود عباس لتقرير غولدستون اتخذ في القمّة الثلاثيّة بالرغم من أن هذا القول لا يعتمد على معلومات ولا على تصريحات أو مقالات تشير إليه؟

 

إن الاستنتاج هنا استند إلى تصريحات أطلقها كل من نتنياهو ووزير خارجيته ليبرمان بأن تبني مشروع غولدستون يُنهي كل حديث أو خطوة باتجاه التسويّة أو المفاوضات. بل ما كان للقمة الثلاثيّة أن تُعقد قبل أن يضمنا موقف أوباما ويتأكدا بأن محمود عباس الحريص كل الحرص على تشجيع أوباما وعلى التسوية سوف يقبل بإغلاق هذا الملف. لأن الاستمساك بتقرير غولدستون ودفعه إلى نهاياته يتناقض تناقضاً صارخاً مع "تشجيع أوباما ومساعدته على المضيّ بمشروعه للتسوية" إذ لا يُعقل أن تطالب بوضع ضباط الجيش الصهيوني الذين شاركوا في العدوان على قطاع غزة في قفص الاتهام باعتبارهم مجرمي حرب ومرتكبي مجازر بحق الإنسانية وكذلك عدد من القادة السياسيين المسؤولين عن قرار العدوان، ثم تقول إنك تريد أن تفاوض وأن تمضي بمشروع التسويّة مع أوباما حتى النهاية.

 

ولهذا لم يرتكب محمود عباس خطأ أو خطيئة أو جريمة حين طلب تأجيل القرار في تقرير غولدستون. لأن ذلك ينسجم بل يتطابق مع خطه السياسي الحريص كل الحرص على مشروع أوباما للتسويّة على أساس "حلّ الدولتين".

 

والدليل الآخر على انسجام قرار التأجيل مع النهج السياسي لمحمود عباس هو ما حدث في الجمعية العمومية التي كانت متجهّة في أثناء العدوان على قطاع غزة لإصدار قرار قوي وحازم في إدانة العدوان وتجريمه والمطالبة بوقفه فوراً. وقد صدرت تعليمات محمود عباس وسلام فياض للمندوب الفلسطيني رياض منصور أن يطلب التخلي عن مشروع القرار الذي تقدّمت به كل من قطر وباكستان باسم غالبية، عملياً، في الجمعية العمومية، والتحوّل إلى تبني "المشروع الأوروبي"، تحت حجة عبقريّة هي عدم خسارة أصوات أوروبا.

 

وبهذا ضُرِبَ قرار في الجمعية العمومية أقوى من قرار غولدستون وكان الاستبدال هنا أسوأ من تأجيل القرار الأخير، ويستحق أن يوصف بالخطيئة والجريمة، وبالفم الملآن. ولكن هذا الوصف ليس عادلاً أيضاً ما لم يُقرأ باعتباره جزءاً لا يتجزأ من الخط السياسي الذي يتبّناه محمود عباس وسلام فياض ويمارسانه. وبالمناسبة هل ما يجري في الضفة الغربية من تطبيق للاتفاق الأمني الذي يرعاه الجنرال دايتون بأقل من خطيئة وجريمة.

 

من هنا يخطئ من يتعامل مع قرار تأجيل التصويت على تقرير غولدستون بأنه خطأ أو بأنه مجرّد جريمة خارج سياق سياسة بعينها فالمطلوب هو مناقشة تلك السياسة انطلاقا من انكشافها في قرار التأجيل المذكور.

إن "الإيجابية" التي نجمت عن قرار محمود عباس بتأجيل التصويت على تقرير غولدستون كونه قدّم خط السيد محمود عباس في أجلى صورة بلا رتوش وأصباغ من ناحية وكشف عن ردود الفعل التي تنتظر أي اتفاق يمكن أن تصل إليه مفاوضات كامب ديفد3 التي انطلقت في واشنطن بعد القمّة الثلاثيّة، وأكدتها زيارة جورج ميتشل الأخيرة، من ناحية ثانية.

 

وهنا يثار السؤال هل يمكن أن تتحقق مصالحة بين فتح وحماس وعلى مستوى الساحة الفلسطينيّة، أو تتحقق وحدة وطنيّة فلسطينيّة ما لم يُناقَش الخط السياسي الذي يتبّناه محمود عباس؟ وهل يمكن أن يبقى هنالك منظمة تحرير فلسطينيّة إذا كان خط محمود عباس هو الذي يقودها، وعلى الطريقة التي طبّقت مع قرار تأجيل التصويت على تقرير غولدستون وفي عهد اللجنة التنفيذية التي وُسِّعت أخيراً لتكون شاهد زور لا يَعرف بالقرارات أو الاتفاقات المصيريّة إلاّ بعد صدورها.

 

إن تجربة قرار تأجيل التصويت المذكور ومن قبله قرار الذهاب إلى القمّة الثلاثيّة ومن بعده الموافقة على قرار أوباما ميتشل لإرسال وفد فلسطيني يوجب إعادة النظر في أساس المصالحة الفلسطينيّة بين الفصائل جميعاً.

 

كما يوجب أن تنطلق أصوات وهيئات فلسطينيّة لإنقاذ القضيّة الفلسطينيّة والوحدة الوطنيّة الفلسطينيّة ومنظمة التحرير الفلسطينيّة من هذا الخط السياسي الذي يفاوض الآن في واشنطن وكان الأب الشرعي لقرار تأجيل التصويت على تقرير غولدستون والاتفاق الأمني الرهيب في الضفة الغربيّة.