خبر الأسيرة المحررة كفاح: أفخر أنني تحررت بالقوة كما اعتقلت بالقوة

الساعة 08:11 م|13 أكتوبر 2009

الأسيرة المحررة كفاح: أفخر أنني تحررت بالقوة كما اعتقلت بالقوة

كتبت : لبابة ذوقان

تتبدد الكلمات في تلك اللحظات.. فالدموع وحدها تبقى سيدة الموقف، خرجت من عالم الحديد والقضبان.. إلى فسحة الأمل الواسعة، إلى سماء وشمس وهواء دون قيود أو بوابات حديدية، دون إذن للخروج للتنفس ورؤية زرقة السماء.. حلم طال انتظاره.. وصعب انتظاره.. وحان اقترابه.

وجاء موعد الإفراج عن 20 أسيرة، والتقى الأحبة في عناق طويل.. يبثون شوقهم ولهفتهم بعد محنة اعتقال مريرة.. ليخرجن بعدها في صفقة وصفنها بالمشرفة بين المقاومة وإسرائيل، تم خلالها الإفراج عن 20 أسيرة من سجون الاحتلال، مقابل شريط فيديو لا يتعدى الدقيقتين يثبت الحالة الصحية للجندي الإسرائيلي الأسير في غزة.

ولنقترب أكثر منهن.. التقت شبكة "إسلام أون لاين.نت" الأسيرة المحررة كفاح عفانة "23 عاما" من مدينة نابلس، والتي أمضت 10 شهور داخل السجن من أصل 18 شهرا، لتروي لنا قصتها،

 

** بداية.. حدثينا عن لحظة الاعتقال.

 

-في تاريخ 3-1-2009 كنت أنوي الخروج من مدينة نابلس عبر حاجز حوارة، كنت لوحدي، لا أحد معي من أهلي أو معارفي، استوقفني الجنود للتفتيش كباقي الناس، الذين يصطفون على الحاجز بانتظار السماح لهم بالمرور، أخذوا هويتي وفحصوها على جهاز الكمبيوتر، وفتشوا حقيبتي، إلى أن جاء الضابط المسئول وقال لي: "أحب أن أخبرك أننا سنعتقلك الآن".. واقتادوني مباشرة إلى أحد الأبراج على الحاجز دون تقييد.. إلى أن جاءت مجندة وقامت بتقييدي، وأبقوني في البرج حتى جاءت البوسطة" (السيارة التي يتم فيها نقل المعتقلين) وتم أخذي إلى معسكر حوارة.

 

هناك بقيت 7 ساعات تقريبا، كان همّي الوحيد حينها أن أتصل بوالدي وأخبره بما حصل معي، فبقيت أتوسل وألح عليهم بأن يسمحوا لي بإخبار والدي، فهو لا يعلم ماذا حصل معي، ومؤكد أنه سيكون قلقا جدا، إلى أن سمحوا لي بالاتصال على الساعة الثانية عشرة والنصف بعد منتصف الليل.

 

كلمت والدي وأخبرته بما جرى معي.. وكان قلقا جدا، وواضح أنه كان يسأل عني طوال تلك الفترة، ولما أخبرته شعرت أنه بكى وانهار، وبكى أكثر عندما طلبت منه توكيل محامٍ.. وأن يرسل معه صورة لأمي التي توفت منذ سنوات وصورة لأخي الصغير محمد عمره 5 سنوات. وبعد أن كلمت والدي تم نقلي إلى سجن "هشارون"، وقضيت أول ليلة اعتقال هناك.

 

**هل مررت بجولات تحقيق؟ وما هي ظروف وأساليب التحقيق التي اتبعت معك؟

 

-نعم.. كان التحقيق معي يتم في مركز توقيف سالم، ويتم نقلي بشكل يومي إلى هناك، أو كل ثلاثة أيام، ولكن من الواضح أنهم كانوا يتعمدون إبقائي في سجن هشارون خلال هذه الفترة، مع أسيرات مدنيات يهوديات، كنوع من الضغط النفسي علي، خاصة أني لا أملك أي شيء من ملابس أو أغطية وأي شيء من مستلزمات الفتاة في هذا الظرف، كانوا يحاولون أن ألجأ لهؤلاء اليهوديات وأبث لهن ما بي وأن أطلب مساعدتهن.. ليصلوا إلى ما يريدوه مني من معلومات تفيدهم بالتحقيق.

 

لكن هذا لم يتم والحمد لله، حيث كنت على قناعة بأن الله معي، وأني لن أطلب من أعدائي أي شيء.

 

أما بالنسبة للمحققين، فللأمانة.. وبفضل من الله تعالى، كنت أشعر خلال التحقيق أن هناك مسافة وحدودًا بيني وبين المحقق.. قد يكون حدث عكس ذلك مع غيري.. لكن فضل الله كان كبيرا علي ولم أتعرض لمضايقات كغيري، كما أن هناك مجندة وظيفتها الجلوس على باب غرفة التحقيق، حتى تراقب وتحرص –كما يزعمون- على عدم وجود تحرشات أو مضايقات تتعرض لها الأسيرة خلال التحقيق، مع أن تعذيب الأسيرة نفسيا خلال التحقيق أمر عادي عندها ولا تتدخل أصلا، حيث أكون مقيدة اليدين والقدمين طوال الوقت.

 

كان الضغط النفسي علي خلال التحقيق كبيرًا جدا، كانوا يهددوني باعتقال والدي، ويسمعوني صوته وكأنه معتقل عندهم، وكان يتم تحويلي للمحكمة قبل الموعد بيوم، وبعدها أعلم بأن والدي جاء في اليوم الثاني ولم يرني.. كان الأمر صعبًا جدا علي.

 

وكوني أعمل في إحدى المحطات التلفزيونية المحلية في نابلس، فقد كان اعتقالي يدور حول عملي، ومهنتي التي أفتخر بها، وأعمل من خلالها على إبراز معاناة شعبي والأسرى بشكل خاص.

 

كانوا يريدون الوصول لنقطة واحدة.. وهي أنكم صحفيون ناشئون.. ابتعدوا عن المشاكل وعيشوا حياتكم بشكل طبيعي، ولا تتحدثوا عما يجري بغزة، يحاولون بشتى الطرق فصلنا عما يحدث في غزة من قتل وتدمير وحصار، لا يريدوننا أن نعمل لأجلهم، ويقولون لنا عيشوا بالضفة بحرية وسلام لكن لا تقتربوا من غزة.

 

معاناة الأسيرات

 

**صفي لنا الحياة اليومية للأسيرات.. وأحوال المعتقل.

 

-نظام السجن روتيني.. لكننا كنا نعمل على قتل الوقت لئلا يقتلنا هو.. فنقوم بزيارات للغرف وهذا مسموح لنا 3 أيام بالأسبوع، ونقرأ الكتب، ولنا كتابات خاصة، نتعلم التجويد ونحفظ القرآن، وهناك ساعة رياضة جماعية لكل الأسيرات من 6-7 صباحا في الساحة، و3 ساعات للـ"الفورة" أي الخروج للتنفس في الساحة، إضافة إلى الجلسات التعليمية المختلفة.

 

أما في رمضان والعيد، فقد استقبلنا رمضان بغصة كبيرة، خاصة للأسيرات اللواتي يقضين أحكاما عالية ومرت عليهن سنوات بالسجن، أما بالنسبة لي فقد كانت المرة الأولى التي أقضي فيها رمضان بعيدة عن أهلي، كنت أشعر بضيق وحزن وغصة غير طبيعية، لكن الأُخوَّة التي تجمعنا بالسجن كانت تخفف عنا كثيرا.

 

وعند إعلان العيد وقفنا على بوابات الغرف وكبّرنا وهللنا، وفي الصباح صلينا صلاة العيد، وتبادلنا الهدايا والملابس، حاولنا بكل الطرق قهر السجان وخلق جو من الفرحة بيننا رغم كل شيء.

 

**أمضيت 10شهور داخل السجن.. ما الذي أضافته هذه التجربة لكفاح؟ وكيف أثرت عليها من الناحيتين الإيجابية والسلبية؟

 

-هذه الشهور لم تضع هباء منثورا، ولم تمر مرّ الكرام، لقد تعلمت الكثير خلالها، أضافت لي أشياء كثيرة، ازددت قوة وثقة بالله، وثقتي بنفسي وبوالدي الذي رباني وأحسن تربيتي، تعلمت التجويد، وحافظت على قراءة القرآن، واستطعت التأقلم مع النظام الجديد الذي فرض علي، فهذه الشهور قوتني ولم تهدني.

 

لكن من الناحية السلبية، فالفتاة عندما تعتقل تسلب منها أنوثتها، ويطلب منها تحمل عبء كبير خلال الاعتقال وبعده، فالمثل يقول "السجن للرجال" وليس للفتاة، فمهما كانت الفتاة قوية يبقى الرجل أقدر على تحمل على العبء الثقيل وأقدر على خوض هذه التجربة القاسية.

 

**ماذا تقصدين بسلب الأنوثة وتحمل العبء؟

 

-مجرد أن دخلت السجن، ازداد الحس الأمني لدي، وخلال تنقلنا بالبوسطة نبقى مقيدين أيدينا وأرجلنا لفترات طويلة، أبقى خائفة من أن يهجم علي كلب الحراسة الذي يرافق الجنود، والجنود يلقون بالشتائم والألفاظ النابية علينا ولا نستطيع أن نرد عليهم أو نأخذ حقنا منهم.. ومواقف شتى كانوا يستغلونها لإهانتنا، ماذا يوجد أكثر من ذلك.. سيبقى هذا الموقف غصة في قلبي طول حياتي، هذا غير محاولات الإسقاط التي تتعرض لها بعض الأسيرات والتي تفشل بها إدارة السجون بفضل تكاتف الأسيرات، حيث كنا نرفض أن تخرج أي أسيرة لوحدها خارج القسم إلا بصحبة ممثلة عن الأسيرات، خوفا من تعرضها لأي تحرش أو مضايقات.

 

حوادث تحرش

 

**منذ أسابيع سمعنا بحادثة تحرش حدثت لإحدى الأسيرات.. ماذا كان موقفكن؟

 

-منذ فترات بعيدة لم تحدث حوادث تحرش بالأسيرات والحمد لله، لكن هذه المرة كانت الحادثة لإحدى الأسيرات في غرف العزل الانفرادي، لقد أصبنا بخيبة أمل كبيرة عند سماعنا بهذا الخبر، لقد كنا نعمل طوال وقتنا ونطالب بعودة الأسيرات في العزل إلى الغرف العادية ليعشن معنا بشكل طبيعي، إلى أن جاءنا هذا الخبر، فتضاءلت آمالنا، فنحن نعمل لشيء آخر، بأن ننهي العزل الانفرادي للأسيرات، لقد كانت هذه الحادثة لهد وتدمير إنجازات الحركة الأسيرة، وتحويل اهتماماتها وإنجازاتها لأمور أخرى.

 

كنا نطالب بإحضار بنات العزل كلهم إلينا، فصرنا نطالب بإحضار الأسيرة التي تعرضت لمحاولة تحرش، فقضية العزل قضية حساسة جدا للأسيرات ونطالب بإلغائها.

 

**ما أصعب لحظة مرت عليك داخل السجن؟

 

-أصعب لحظة كانت عندما جاء والدي لزيارتي ولم يتمكن من الدخول إلى قاعة السجن وتم إرجاعه، كانت الأسيرات يدخلن للزيارة ويرجعن يقلن لي والدك بالخارج يمنعونه من الدخول لزيارتك.. كان أصعب يوم علي، تمنيت أن والدي لم يأت وقتها لزيارتي.

 

**هل تمكن والدك من زيارتك مرة أخرى ومتى؟

 

-طيلة العشر شهور سُمِح لوالدي بزيارتي مرة واحدة، وكانت بعد سبعة شهور من اعتقالي.. كنت أتخيل أني سأبكي أول ما أراه، لكن دموعي أبت أن تذرف، فوجه أبي المبتسم ومعنوياته العالية رفعت معنوياتي من الأرض إلى السماء، كان أبي مراعيا كل ما تحبه كفاح.. في أدق التفاصيل.. اختار ما أفضله من ملابسي.. وكلمني بطريقة أنستني الدنيا والظلم الذي أعيشه، فرحت جدا برؤيته والحديث معه على الرغم من وجود حائط زجاجي بيننا ولم أستطع أن أرتمي بحضنه وأبث له حزني وكم كنت مشتاقة له.

 

**كيف تصفين علاقة الأسيرات ببعضهن داخل السجن؟

 

-علاقة الأسيرات جيدة جدا، كنا كالأخوات، لا شيء يفرقنا على اختلاف فصائلنا وانتماءاتنا السياسية، كان الاحتلال يحاول أن يفرق بيننا بمختلف الوسائل، لكن كان شعارنا دوما.."ما جمعه الله.. لن يفرقه البشر"، فقد كنا في سجن هارون على تواصل دائم مع الأسيرات في سجن الدامون، ولم نعدم الوسيلة في إيصال أخبارنا والهدايا والرسائل بيننا، على الرغم من أننا لم نلتق في حياتنا إلا عبر المراسلات.

والآن بعد أن خرجت للحرية فأنا على تواصل مع الأسيرات من خلال المحامين والرسائل ولن أنقطع عنهن إن شاء الله.

 

الصفقة

 

**هل كنت تتوقعين الإفراج عنك بهذه الطريقة؟

 

-بصراحة لا.. لم أكن أتوقع أبدا، ليس لأن المقاومة قد تكون ضعيفة أبدا.. لكن شعرنا أننا وصلنا إلى أن هناك بابا مسدودا، لن يفتح إلا بمشيئة الله وإرادته، إلى أن سمعنا خبر الصفقة عبر التلفاز.

 

**صفي لنا تلك اللحظات..

 

-كنا نتابع الأخبار على القناة الإسرائيلية، وكانت إحدى الأسيرات تتقن اللغة العبرية قراءة وكتابة، وكانت تترجم لنا، وعندما بدأوا بإعلان أسماء الأسيرات كان اسمي أول اسم بالغرفة، فتعالت الصيحات، وتجمعن حولي كل الأسيرات واختلط البكاء بالضحكات، وبعدها توالت أسماء البنات الأخريات.

 

لكن عندما جاءت مندوبة الصليب الأحمر وأبلغتنا بأسماء الأسيرات في الصفقة، وقفت وقلت لها فورا.. أرجوك أريد أن استبدل اسمي باسم قاهرة السعدي -وهي أسيرة من جنين لها أربع أطفال ومحكوم عليها 3 مؤبدات-، توسلت لها بأن تشطب اسمي من الصفقة وتضع اسم قاهرة.. لكنها قالت لي إن الأمر ليس بيدها وإن الصفقة جاءت بهذه الأسماء فقط.

 

كما أن هناك الأسيرة هيام البايض كانت ترفض الخروج وتطالب باستبدالها بأسيرة أخرى من المحكومات العالية، إلى أن جاء مدير المخابرات بنفسه لإخراجها.

 

كذلك الأسيرة المحررة منال سباعنة تم إخراجها رغما عنها حيث كانت ترفض الخروج وحدها دون صديقتها الأسيرة ريما، وكانت تنادي طوال سيرها في القسم ريما ريما.. كانت مواقف حقا صعبة جدا علينا بأن نترك خلفنا أسيرات أمهات ومؤبدات، لكنهن ودعننا وهن يمسحن دموعنا ويقلن لنا أنتن بداية الأمل.. وتحريركن يعني تحريرنا، وسنخرج بعدكن إن شاء الله.

 

**ما رأيك بالصفقة بشكل عام؟ وكيف كانت ردة فعل الأسيرات عليها؟

 

_لقد كانت الصفقة مفاجأة بالنسبة لنا جميعا، عند سماع أسمائنا تجمعت الأسيرات حولي بالغرفة وأخذن باحتضاني وتقبيلي وتهنئتي.

 

الصفقة كانت ناجحة وتعتبر نقلة نوعية في تاريخ الأسيرات بشكل خاص، حيث كان بإمكان المتفاوضين مثلا أن يطلقوا سراح 10 أسيرات و10 أسرى من المرضى، لكنهم فكّروا بنا كأسيرات أولا ووضعونا في سلم أولوياتهم، فهم يعلمون مدى حساسية قضية الأسيرات، إني أفخر حقا أنه تم تحريري بالقوة، كما اعتقلت بالقوة.

 

** كيف كان انطباعك بعد خروجك من الأسر؟ وكيف كان انطباع من حولك؟

 

_لأول مرة أرى الشمس دون قضبان.. كان شعورا لا يوصف.. لم أكن أتوقع هذا الترحيب والاستقبال بهذه الضخامة، أما بالنسبة لمن حولي فكان الكل يسألني عن أخباري وعن ظروف اعتقالي وكيف صبرت طول هذه المدة دون زيارة أهلي وأبي لي، وكيف هن الأسيرات داخل السجن.

 

**الآن بعد أن خرجت إلى الحرية.. ماذا تقولين؟ وبماذا تطمحين؟

 

-أوجه باسمي وباسم كل الأسيرات اللواتي تركتهن خلفي داخل الأسر كلمة لكل المسئولين، بأن لا ينسوا الأسيرات، وأن يجعلوا قضيتهن على رأس أولوياتهم.

 

أما بالنسبة لي فسأبقى أعمل على نشر قضية الأسيرات ومعاناتهن، فالذي يتحدث من وراء المايك عن الأسرى، قد لا يستطيع أن يوصل معاناتهن كالذي عايشها على أرض الواقع.

 

أما أمنيتي الوحيدة.. أن أجتمع أنا وكل أخواتي الأسيرات اللواتي ما زلن داخل الأسر، وأن أمشي معهن في شوارع نابلس، وأن يأكلن من الكنافة النابلسية.. التي رأينها على شاشات التلفاز في أكبر كنافة في العالم، حيث وعدتهن وقتها أني سأدعوهن لتناولها عندنا هنا خارج قضبان الحديد بإذن الله.