خبر كتب : عريب الرنتاوي .. وقفة مصارحة مع خطاب الرئيس عباس

الساعة 08:29 ص|13 أكتوبر 2009

كتب : عريب الرنتاوي .. وقفة مصارحة مع خطاب الرئيس عباس

أمس الأول، دافع الرئيس الفلسطيني محمود عباس عن موقف سلطته في جنيف، وعزا قرارها بطلب تأجيل التصويت على تقرير غولدستون إلى رغبتها في بناء توافق دولي يساعد في تمرير التقرير وتوصياته المعروفة، في مجلس حقوق الإنسان في جنيف أولا، ومن ثم في مجلس الأمن في نيويورك، وتلكم لعمري نوايا طيبة وأهداف نبيلة، كادت تقنعنا بخطأ ما قارفناه نحن المواطنون النزقون، من ردات فعل متطيرة وقبيحة (؟!).

لكننا وبعد أن تمالكنا أنفسنا قليلا إثر انتهاء الخطاب الجامع للرئيس، تساءلنا في قرارة أنفسنا: ولماذا إذن سارعتم يا فخامة الرئيس إلى تشكيل لجنة تحقيق في "الفعلة النكراء" إياها، ألم يكن حريا بكم تشكيل "لجنة جائزة" لكل من شارك في إعداد واستصدار وتنفيذ القرار "الحكيم" في جنيف؟.

ولماذا إذن، قررتم يا سيادة الرئيس إعادة طرح الموضوع من جديد وبصفة مستعجلة، على مجلس حقوق الإنسان، وأيدتم طرحه على مجلس الأمن، هل تم ذلك بعد أن تيقنتم بأن التوافق الدولي قد تحقق، وأن مصائر التقرير باتت في أيدي أمينة، وأن "أسبوع الإسفاف والمهاترات" حمل معه أنباء سارة عن تغير دراماتيكي في اتجاهات هبوب الريح الدولية لصالح التقرير والضحايا وغزة (عذرا الامارة الظلامية).

وكيف يصح يا سيادة الرئيس والحالة كهذه، أن تسمح للحلقة الضيقة من مستشاريك ومقربيك، المحسوبين عليك وحدك دون سواك، الذين لا قيمة لهم بأنفسهم، وكل ما يتمتعون به من صفات وألقاب وأدوار، مستمد منك شخصيا ومن موقعك على رأس الهرم القيادي، أقول كيف تسمح لهؤلاء أن يظهروا على شاشات التلفزة والفضائيات لنفي الخبر ابتداء (صائب عريقات 2 أكتوبر)، والتنصل لاحقا من المسؤولية عن الإرجاء وتحميلها لدول عربية وإسلامية (تصريحاتك في اليمن وتصريحات مستشارك نمر حماد)، والاعتراف بان ما حصل في جنيف كان خطأ (ياسر عبد ربه لتلفزيون السلطة في رام الله، ورئيس حكومة تصريف الأعمال بعد اجتماع لحكومته، عزام الأحمد، والسفير إبراهيم الخريشة للشرق الأوسط) وتأكيداتهم بأن الباب ما زال مفتوحا للعودة عن الخطأ وتصحيح المسار.

لقد جربتم يا فخامة الرئيس، كل الأعذار والذرائع والحجج الواهية دون جدوى، فلجأتم إلى استنفار "العصبية القبلية عند فتح" من خلال تقزيم قضية غولدستون والهبوط بها من قضية الشعب بأسره ضد المستخفين بحقوق أبنائه وضحاياه، إلى مجرد تفصيل صغير في حرب داحس والغبراء بين فتح وحماس، وحاولتم أن تستنهضوا "الوطنية الفلسطينية" برمي المسؤولية على "المتخاذلين العرب" واستحضار صيحة عرفات الشهيرة : ياوحدنا، من دون أن تدركوا أن الزمن تغير، وتغيرت معه القيادات، وأن ما كان يصح في عهد الراحل ياسر عرفات حين كان الموقف الفلسطيني أكثر تقدما من مواقف جميع الدول العربية، لم يعد صحيحا اليوم في عصر قيادات الظل والكواليس والمصارف التي انحدرت بالموقف الفلسطيني إلى أسفل سافلين.

لقد كان بمقدوركم يا سيادة الرئيس، أن تنهوا المسألة بجملة واحدة، نعم بجملة واحدة، الاعتراف بالخطأ وكشف ملابساته والاعتذار عنه وإبداء الاستعداد لتحمل نتائجه، والأهم عدم تكراره، مثل هذا الموقف كان سيغنيكم وأركان سلطتكم عن كل هذا الحرج والتلعثم و"التأتأة"، وكان سيوفر عليكم عبء معالجة الخطأ الكبير بخطأ أكبر والخطيئة القبيحة بخطيئة أقبح.

كان بمقدور موقف كهذا أن ينقذ الوحدة الوطنية وجهود المصالحة المصرية التي انتظرنا ثمارها طويلا وبفارغ الصبر، لكنكم آثرتم استلال أسواء ما في قاموس الانقسام الفلسطيني من اتهامات وشتائم، فأصبحت غزة إمارة الظلام، لكأن الضفة الغربية في ظل "ملككم السعيد" تعيش عصر النهضة والتنوير والأنوار، عصر الحرية والتحرير والاستقلال، وكأننا لم نسمع من قبل بأسماء وعناوين من نوع: دايتون وبلير والتنسيق الأمني و"الدولة تحت الاحتلال" والسلام الاقتصادي و"الحل الانتقالي المرحلي الشاروني طويل الأمد"، والاستيطان الزاحف والتهويد المبتلع للقدس والمقدسات، والاحتواء الناعم والخشن لكل قوى الشعب الفلسطيني الحية، إلى غير ما هناك مما كان كافيا وكفيلا بتبديد "غضب الضفة".

في الحقيقة يا سيادة الرئيس، أننا حائرون وضائعون في متاهات الكذب والارتباك والأداء المخجل والمثير للشفقة الذي قامت به السلطة في شرح وتفسير وتبرير ما حصل، في واحد من أسوأ الأسابيع التي مرت على الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة منذ انطلاقاتها، وأحسب أننا بتنا أمام فضيحة مركبة، أو بالأحرى أمام  مسلسل فضائحي لايتوقف فصولا ولا نهاية مرئية لحلقاته، مسلسل يفوق في مغزاه ودلالته وتداعياته المباشرة وبعيدة المدى، ما ترتب على "فضيحة جنيف" من نتائج، واقترح أن تبادر بعض مؤسسات البحث والتفكير إلى رصد جائزة مجزية لمن يستطيع البرهنة على أنه يعرف موقف السلطة مما حصل في جنيف، وما إذا كان هذا الموقف بنظرها هي (وليس من وجهة نظرنا نحن) خطأ أم صواب، حكمة وواقعية أم تهافت و"تهافت التهافت".

أما الشعب السويسري الصديق، فأقترح على حكومته ومنظماته الأهلية، رصد موازنات كافية لإعادة ترميم صورة مدينتهم الجملية في الذاكرة الجمعية الفلسطينية، فمنذ أن ارتبطت جنيف بالوثيقة إياها من قبل، وبالفضيحة المستمرة من بعد، صارت مدينة قبيحة، ليس في جُبنها اللذيذ وشكولاتتها الفاخرة أي ترياق من أي نوع، وأرجو المعذرة.