خبر في الرد على أسئلة الهزيمة ..فهمي هويدي

الساعة 07:53 ص|13 أكتوبر 2009

في الرد على أسئلة الهزيمة  ..فهمي هويدي 

 

من عجائب زماننا وغرائبه أننا بعد ستين سنة من النكبة صرنا مشغولين بالتمرير وليس التحرير. حتى استبدت الحيرة ببعضنا وطرحوا علينا السؤال: هل نتواصل مع العدو أم نقاطعه؟

 

 (1)

 

لن أتحدث عن أم العجائب التي وقعت في جنيف، حين تطوعت القيادة الفلسطينية بإنقاذ إسرائيل من إدانة جرائمها التي ارتكبتها في عدوانها على غزة، فيما يعد أعلى درجات الانفضاح والانبطاح، لكنني في اللحظة الراهنة بصدد انبطاح من نوع آخر. ذلك أننا في الحالة الأولى وجدنا القتيل يحتال لكي يحمي القاتل ويمكنه من الإفلات من قفص الاتهام. أما في الثانية فإن أهل القتيل وذويه صاروا مدعوين إلى التودد للقاتل والترحيب به، وهم يرونه متمددا ومسترخيا فوق جثة الفقيد يواصل نهش لحمه وتقطيع أوصاله.

 

القاسم المشترك بين الحالتين لا يتمثل فقط في كونهما من الأفعال السياسية الفاضحة، ولكن أيضا في أن الفاعلين في كل حالة قلة لا يمثلون سوى أنفسهم أو المصالح التي تتخفى وراءهم. فلا الذين تستروا في جنيف يمثلون الشعب الفلسطيني، ولا الذين تنكروا في مصر أو في غيرها من الأقطار يمثلون الشعب المصري أو العربي. فالأولون خطفوا القرار الفلسطيني بليل، والآخرون قطرة في بحر، وحضورهم في وسائل الإعلام ومواقع الإنترنت المتاحة لكل من هب ودب، لا علاقة له بحضورهم على أرض الواقع.

 

سؤال التواصل أو التقاطع طفا على السطح في مصر خلال الأسابيع الأخيرة، في أعقاب الفرقعة الإعلامية التي حدثت حين زار السفير الإسرائيلي رئيسة تحرير مجلة الديمقراطية التي تصدرها مؤسسة الأهرام. وتصادف أن تمت الزيارة في حين كان الجدل حاصلا حول مشاركة السينمائيين المصريين في مهرجان للأفلام في تورنتو الذي أهدى دورته هذا العام لمدينة تل أبيب. وهي الأجواء التي دعت برنامج «العاشرة مساء» الذي تقدمه قناة «دريم» الفضائية إلى عقد مناظرة بين أنصار التطبيع والمقاطعة يوم السبت 3 أكتوبر الحالي. ثم حين حلت الذكرى السادسة والثلاثون لحرب السادس من أكتوبر، ظهرت على موقع «فيس بوك» عدة جماعات شبابية دعت إلى التطبيع وأخرى رفضته. وهؤلاء وهؤلاء ظلوا يتراشقون بالحجج والشتائم ولا يزالون، ولأن الساحة مفتوحة للجميع، فقد شارك في الجدل عرب آخرون وإسرائيليون، ولا يزالون.

 

استعادة سؤال التواصل أم التقاطع محسوم منذ وقعت النكبة عام 1948، ثم تجدد حسمه في أعقاب النكسة، من خلال اللاءات الثلاثة الشهيرة التي أعلنت في قمة الخرطوم عام 1967، وهذه الاستعادة تجسد حالة الالتباس والبلبلة المخيمة على العالم العربي. إذ من الواضح أن أجواء انهيار النظام العربي لم تؤد فقط إلى شيوع الوهن في أداء الأنظمة وسياساتها الخارجية، وإنما أدت أيضا إلى استنبات أسئلة الهزيمة التي لم تعد تميز بين العدو والصديق، ولا تعرف بالضبط حدود الصواب والخطأ والحلال والحرام في السياسة، وما كان لشيء من ذلك أن يحدث لولا غياب «البوصلة» الهادية. ذلك أنه حين تغيب البوصلة يصبح الوقوع في التيه أمرا طبيعيا، من ثم فحين يتساءل البعض عما إذا كان العدو هو إيران أم إسرائيل، وحين توصف المقاومة بأنها إرهاب، وحين يسمى التخابر مع العدو تنسيقا أمنيا، وحين تحاصر غزة إسرائيليا ودوليا وعربيا أيضا، وحين تعرض الأوطان للمقايضة والبيع بدعوى تبادل الأراضي... حين يحدث ذلك كله فلا غرابة في أن يستسلم البعض للحيرة ويتساءلون: هل نتواصل مع العدو أم نقاطعه؟

 

 

(2)

 

عندما لاحت إرهاصات التطبيع قبل عدة سنوات تطرقنا إلى الموضوع في إحدى جلسات الحوار، التي كان من بين حضورها الدكتور أحمد صدقي الدجاني المثقف والسياسي الفلسطيني البارز والدكتور عبد الوهاب المسيري (رحمهما الله) والمستشار طارق البشري. وانعقد اتفاق الجميع على أن مقاطعة إسرائيل هي الأصل الذي ينبغي أن يلتزم به كل مواطن عربي شريف، طالما ظلت إسرائيل على عدوانها وإصرارها على إهدار الحقوق الفلسطينية واحتلالها للأرض العربية. وتم الاتفاق أيضا على أنه في التعامل مع ذلك الأصل فإن وضع النخب العربية قد يختلف، من فئة إلى أخرى.

 

فالفلسطينيون الذين يعيشون تحت الاحتلال تفرض عليهم اعتبارات تسيير عجلة الحياة العملية أن يكونوا على اتصال بالإسرائيليين لهم وضع شديد الخصوصية. فهؤلاء تضر المقاطعة بمصالحهم، ولهم أن يتواصلوا معهم في الحدود التي تحقق إنجاز المصالح، تماما كما كان يفعل الفرنسيون في ظل الاحتلال النازي لبلادهم أثناء الحرب العالمية الثانية. وغني عن البيان أن ذلك الوضع لا ينطبق على الفلسطينيين في الشتات.

 

عنصر الضرورة يتوفر أيضا بالنسبة للموظفين الرسميين في الدول العربية التي وقعت في المحظور وأقامت علاقات دبلوماسية مع إسرائيل. وفرضت عليهم وظائفهم أن يتواصلوا مع دبلوماسييها أو جهاز الإدارة بها. إذ في هذه الحالة يجوز لهم أن يتواصلوا مع الإسرائيليين في الحدود الوظيفية، حيث تنطبق عليهم قاعدة الضرورات التي تبيح المحظورات.

 

الدائرة الأوسع من النخب لها خيارات أخرى. إذ بوسعها أن تنحاز إلى الأصل الملزم لأي مواطن شريف دون أن يلحقها ضرر جسيم يهدد مستقبلها الوظيفي أو المهني. ليس ذلك وحسب، وإنما يفرض عليهم وضعهم كنخب أن يقدموا نموذجا وطنيا وأخلاقيا، يحتذيه غيرهم من الناس. وهو ما يمثل عنصرا إضافيا يشدد على أهمية التزامهم بالمقاطعة. والذين يتجاهلون هذه الملابسات، مرة بدعوى أن الحكومة أهم طرف مارس التطبيع، ومرة أخرى بدعوى القيام بالواجبات المهنية يسيئون إلى أنفسهم وإلى المهن التي ينتسبون إليها. هم يسيئون من حيث إنهم يعتبرون أنفسهم تابعين لموقف السلطة وملحقين بسياساتها، في حين أنهم ليسوا مضطرين لذلك. من ثم فإن ادعاءهم هذا يجرح استقلالهم ولا يشرف صورتهم، أما الذين يتذرعون بالاعتبارات المهنية فإنهم يسيئون أيضا، من حيث إنهم يجردون مهنهم من الالتزامات الأخلاقية، ويقيمون من حيث لا يشعرون حاجزا بين القيم المهنية وبين القيم الأخلاقية والوطنية.

 

 

(3)

 

إذا كان لابد من العودة إلى شرح المسلمات والبديهيات، والإجابة عن السؤال لماذا يجب أن نقاطع إسرائيل، فعندي في الرد على ذلك أربعة أسباب هي:

 

 

* أسباب أخلاقية تفرض على الشرفاء أيا كانت جنسيتهم أو ملتهم، وقف أي تعامل مع النظام العنصري والاستيطاني القائم في إسرائيل، الذي يحفل سجله بقائمة طويلة من جرائم الحرب وانتهاكات المعاهدات الدولية، وهذه الجرائم أثبتها حكم محكمة العدل الدولية الذي قضى ببطلان بناء الجدار والمستوطنات في الأرض المحتلة، كما وثقها مؤخرا تقرير اللجنة الدولية التي تقصت حقائق العدوان على غزة. تلك الأسباب الأخلاقية تتكئ عليها الآن مئات المنظمات الأهلية والنقابات في أوروبا والولايات المتحدة وكندا، في دعوتها إلى مقاطعة النظام الإسرائيلي، رغم أن حكومات تلك الدول تحتفظ بعلاقات قوية مع حكومة تل أبيب، وقد سبق أن أشرت خلال الأسبوعين الماضيين إلى نماذج من تلك التجمعات الغربية التي حققت نجاحات في مقاطعة إسرائيل على الأصعدة التجارية والأكاديمية والثقافية. وللعلم فإن هذه الأسباب الأخلاقية هي التي فضحت النظام العنصري في جنوب أفريقيا وأسقطته، وكانت الحجة التي استند إليها المقاطعون بسيطة وواضحة للغاية، وهي أن الذين يرتكبون جرائم ضد الإنسانية ينبغي ألا يلوث الشرفاء أيديهم بمصافحتهم والتعامل معهم تحت أي ظرف.

 

 

* إذا كانت الأسباب الأخلاقية تدفع شرفاء العالم إلى مقاطعة إسرائيل، فإن شرفاء العرب لهم أسباب أخرى إضافية، ذلك أن إسرائيل وهي دولة محتلة للأرض العربية، لا تعد دولة غاصبة فحسب ولكنها أيضا تهدد الأمن القومي للأمة العربية. وهذا التهديد لا يتمثل في احتلال الأرض فقط، ولكنه أيضا يتجلى في نهب الموارد (المياه مثلا) ونصب المؤامرات (في دارفور وجنوب السودان) وممارسة الأنشطة التي تستهدف الضغط على مصر وابتزازها (السدود التي تسعى لإقامتها عند منابع النيل).

 

من ثم فإذا لم تكن النخوة دافعا والتضامن مع الشعب الفلسطيني واجبا، فإن الدفاع عن الأمن القومي مما لا يجب التفريط فيه، وإزاء ذلك فإن المقاطعة تعد أضعف الإيمان. ولئن قيل إنها لم تؤد إلى إضعاف العدو، فإن استمرارها من شأنه أن يحول دون استقواء العدو برفعها، إضافة إلى أن إشهار سلاح المقاطعة يظل إعلانا عن أن العرب لن يغفروا لإسرائيل جريمتها إلا إذا أعادت للفلسطينيين حقوقهم.

 

 

* هناك أسباب شرعية أيضا تفرض على جماهير المتدينين واجبات محددة إذا تعرضت بلاد المسلمين للغزو والاغتصاب، حدها الأقصى أن يصبح الجهاد فرض عين على كل قادر على القتال. أما حدها الأدنى فهو أن يمتنع المسلمون عن موالاة العدو، باعتبار أن التواصل معه مع استمرار عدوانه منهي عنه شرعا بنصوص صريحة في القرآن.

 

 

* هناك أسباب تربوية رابعة لا يمكن تجاهلها، ذلك أن أبسط قواعد التربية الصحية أن تنشأ الأجيال الجديدة على قيم النخوة والعزة والتمسك بالحق ورفض الاستكانة والظلم، ومن ثم إذكاء روح المقاومة التي تحفز تلك الأجيال للذود عن كرامة الوطن والأمة. والمقاطعة تجسد ذلك كله.

 

 

                            (4)

 

للمقاطعة في مصر تاريخ وسجل حافل. فقد كانت أحد الأسلحة التي رفعها الشعب في مواجهة الاحتلال البريطاني، وهو ما برز في أعقاب انتفاضة عام 1919، حين دعت صحيفة «الأمة» القريبة من الحزب الوطني في عام 1921 إلى مقاطعة كل البضائع البريطانية، حتى إن الصحيفة أعلنت أنها لن تنشر إعلانات للمتاجر الإنجليزية. وبلغ الحماس بالبعض أن دعوا إلى مقاطعة اللغة الإنجليزية أيضا، وقد تضامنت بقية الصحف مع الدعوة فانضمت إليها «الأهرام» و«الأخبار»، ونشرت صحيفة «المنبر» المعبرة عن حزب الوفد مقالا وجهه إلى الإنجليز أحمد حافظ عوض قال فيه: السلاح في أيديكم وليس لنا سلاح مثله، ولكن لنا سلاح شديد هو سلاح المقاطعة، وظل خطاب تلك المرحلة يركز على أن مقاطعة المحتل من أعظم الأعمال وأشرفها.

 

في المرحلة الناصرية كان النظام المصري حاسما في موقفه إزاء مقاطعة إسرائيل، لكن هذا الموقف اهتز في المرحلة الساداتية بتوقيع اتفاقيات كامب ديفد عام 1979. وكانت تلك بداية الالتباس الذي أوصلنا إلى ما وصلنا إليه. إلا أن انتفاضة الأقصى في عام ألفين فجرت في أنحاء العالم العربي مشاعر الغضب والرفض للممارسات الإسرائيلية، المحتمية بالغطاء الأميركي، وتبلورت تلك المشاعر في لجان المقاطعة الشعبية التي تشكلت في مشرق العالم العربي ومغربه. وأثبتت تلك اللجان فعالية وجهت ضربات موجعة للعديد من الشركات الأميركية التي لها فروعها في إسرائيل. ولكن هذه الموجة هدأت بمضي الوقت لأسباب عدة منها ضعف منظمات المجتمع المدني وتراجع دور الأحزاب السياسية وتنامي قوة التيار المعاكس المؤيد من الأنظمة «المعتدلة» (!)، إضافة إلى تعاظم دور السياسة الأميركية في العالم العربي.

 

وفي الحالة المصرية فإن العناصر الوطنية التي قادت دعوة المقاومة انتقل معظمهم إلى ساحة أخرى أوسع، حيث انخرطوا في حركة «كفاية»، التي لفتت الأنظار لبعض الوقت ثم خفت صوتها بعد ذلك. وحين أدى ذلك إلى تراجع دور العناصر الوطنية الداعية إلى التمسك بالمقاطعة، فلم يكن غريبا أن تتقدم عصبة دعاة التطبيع وأن تنثر في الفضاء العربي مختلف أسئلة الهزيمة، باعتبارها الأسئلة المناسبة للمناخ العربي المناسب.