خبر تقرير جولدستون ونقد العقل الاوسلوي ..حيدرعيد*

الساعة 04:21 م|12 أكتوبر 2009

تقرير جولدستون ونقد العقل الاوسلوي

حيدرعيد*

يقول المناضل الجنوب افريقي الأسود (ستيف بيكو) الذي استشهد في أقبية تحقيق المخابرات الجنوب افريقية البيضاء عام 1977ما يلي:

 

لم يكن  البيض فقط مذنبين بكونهم يهاجموننا ولكن أيضا ومن خلال مناورات ذكية تمكنوا من توجيه ردة فعل السود على جرائمهم. لم يرفسوا الأسود فقط في مؤخرته ، بل وجهوا ايضا ردة فعله للرفسة. ولكن وببطئ مؤلم يتعلم الأسود أن يظهر إشارات مهمة أن من حقه بل ومن واجبه أن يرد على هذه الرفسات وبالطريقة التي يراها.

 .

إن ضرورة هذا الاقتباس تنبع من أهمية توضيح ردة فعل المضطهد المستعمَر لاضطهاد المستعمِر الغاشم وعنصريته.

 

ومما لا شك فيه أن ردة فعل السلطة الوطنية الفلسطينية على تقرير القاضي الجنوب افريقي ريتشارد جولدستون تنبع من سياق معين ونهج محدد متبع منذ فترة زمنية ليست بالقصيرة يبرز فيها عام 1993م كنقطة تحول نحو عملية تراكمية أدت في المحصلة النهائية إلى ما وصلنا اليه اليوم.

 

لقد كان أهم نتائج مجزرة غزة 2009م هو التأييد الشعبي والدولي الغير مسبوق الذي بدأت ترجمته على الأرض من خلال حملة مقاطعة متنامية بشكل ولا شك أنه قد أقلق إسرائيل. مما لا شك فيه أن عودة شعارات التحرير بدلا من "الاستقلال" قد ساهمت في خلق معضلة ليست فقط لمثقفي وسياسيي أوسلو ولكن أيضا لما يسمى باليسار الذي كان قد أتم عملية أسلوة وأنجزة قد أفرغته من مضمونه الثوري والتغييري.

 

إن حادثة تقرير جولدستون إنما تعبر عن نهج كان يتنامى بشكل متصاعد،نهج أود أن أطلق عليه "أسلوة". يتميز هذا النهج بفساد مطلق، أنجزة، وتخلي عن الشعارات الثورية التغييرية التي كانت سائدة في مرحلة الستينات والسبعينات والثمانينات، بالاضافة لنمو خرافة ما يسمى حل الدولتين بأي ثمن كان. مما يثير القلق ومن خلال متابعة دقيقة لتصريحات الكثير من القيادات الفلسطينية الوطنية، الحمساوية, واليسارية فإن الهدف الرئيسي للنضال الفلسطيني أصبح الان إقامة دولة فلسطينية "مستقلة" على 22% من ارض فلسطين التاريخية وبغض النظر عن شكل ومضمون هذه الدولة. ولكن التناقض الكبير من ناحية بين التأييد الدولي الشعبي الهائل وتنامي حملة المقاطعة bds والمطالبة الشعبية الدولية بمحاكمة قادة اسرائيل كمجرمي حرب ، ومن ناحية اخرى ،الاصرار على حل الدولتين "السجنين" إنما يشير الى اهمية ايجاد والعمل على تنفيذ بديل تكون اهم اولوياته هو نزع الفكر الأوسلوي المهيمن في فلسطين.

 

ولكي نفهم اتفاقيات أوسلو والخراب الهائل الذي سببته للقضية الفلسطينية وتحويلها من نضال من أجل التحرير وتقرير المصير إلى قضية إحسان, فإنه يتحتم علينا أن نحاول فهم السياق  الذي احاط بما يسمى "عملية السلام", أو ما سماه بعض المفكرين النقديين مثل إدوارد سعيد وعزمي بشارة "صناعة السلام". إن هذا الفهم ولا شك يشكل خطوة في غاية الأهمية نحو فهم نقدي خلاق  لعملية الأسلوة التي مرت بها فلسطين وتوجت بحادثة جولدستون الأخيرة التي وضعتنا في موقف تاريخي غير مسبوق حيث تعمل الضحية على تبرئة الجاني من جريمته .

 

لقد تم الإدعاء أن اتفاقيات أوسلو ستكون الخطوة الأولى والضرورية نحو دولة فلسطينية مستقلة وأن "القدس على مرمى حجر". ولكننا الان وبعد 16 عام من الحفلة الشهيرة في البيت الابيض أبعد ما نكون عن هذه الدولة وبكل بساطة بسبب أن أوسلو ،وكما قال إدوارد سعيد ، أنكرت وجود الشعب الفلسطيني كشعب. بمعنى آخر ، إن هذه الاتفاقيات قد أسدت خدمة غير مسبوقة للصهونية. وفي هذا السياق لا بد من الإشارة الى مقولة جولدا مائيير الشهيرة عن عدم وجود" شئ اسمه شعب فلسطيني".

 

إن السلام العادل الشامل كما يعرف دولياً،لم يخلق في واشنطن أو كامب ديفد أو أوسلو أو أنابوليس. على النقيض من ذلك ، ما تم صناعته وفبركته هو خطة أمريكية إسرائيلية لحل "الصراع" بعد تدمير العراق وسقوط الاتحاد السوفييتي،وفي محاولة لخلق ما أسماه شمعون بيريز وبعده كونداليزا رايس "الشرق الأوسط الجديد"، شرق أوسط يتميز بهيمنة امبريالية صهيونية ومدعومة من قبل أنظمة استبدادية.ولكن اتفاقيات اوسلو كانت قد ولدت ميتة أصلا  لأنها وببساطة متناهية لم تضمن احقاق الحد الادنى من الحقوق الفلسطينية المشروعة. طالما أن هناك لاجئين ، كنتونات ، معتقلين، إغلاقات ، مستوطنات ، إغتيالات ، مصادرة أراضي ، احتلال وتفرقة عنصرية، فإن إمكانية خلق البيئة المناسبة لسلام عادل في الشرق الأوسط ستظل غائبة. إن السلام الأوسلوي ما هو الا عبارة عن خرافة قد عششت في عقول من وقعوا هذه الاتفاقيات التي كانت محصلتها حرب إبادة همجية لم يكن من الممكن أن تحصل لولا هذه الاتفاقيات والتي أعطت الانطباع الخاطئ أن هناك طرفان متساويان في القوة وحتى في الحق.

 

إن هذه الاتفاقيات قد أدت لتشكيل ما سمي" بالحكم الذاتي الإداري" في قطاع غزة وبعض من أجزاء الضفة الغربية وقد تم التصدق على "السكان المحليين" بأن يشكلوا" سلطة" من الممكن تسميتها"وطنية". ولكن السؤال الذي لا بد من طرحه هو عن طبيعة هذه السلطة والسبب الذي يجعلها خارج المساءلة الوطنية حتى من قبل التيارات المحسوبة على اليسار الثوري،وقبول التيار الاسلامي الأكبر بالمشاركة في هذه السلطة! ان الاجابة وبكل بساطة  تقودنا مرة أخرى إلى اتفاقيات أوسلو التي خلقت واقعا، وبالتالي نهجا جديدا لمفهومي التحرير وتقرير المصير.

 

ولكن أصبح الآن واضحا ، وعلى الرغم من الابتسامات والقبلات والاحتفالات أمام الكاميرات وانعقاد المؤتمرات والحديث عن التفاؤل بإقامة سلام دائم في الشرق الأوسط "الجديد"  فإن الواقع يشير في اتجاه آخر ألا وهو أن هذه الاتفاقيات وبسبب تناقضها مع القانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية لم تؤدي لا إلى إقامة دولة فلسطينية على 22% من أرض فلسطين التاريخية ولا لعودة اللاجئين الفلسطينيين "تبعا لقرار الأمم المتحدة 194"

ولا حتى ازالة المستعمرات الصهيونية ولا تعويض المواطنين عما فقدوه ، ولا زالوا يفقدون من أراضيهم وبيوتهم، ولا حتى تقليص عدد الحواجز العسكرية الاسرائيلية......الخ على الرغم من كل القبلات والابتسامات والسلامات فإن  إسرائيل توجت هذه المسيرة بحرب همجية أدت إلى استشهاد ما لا يقل عن 1500 مواطن من بينهم 434 طفل ، ودمرت ما لا يقل عن 60 ألف مؤسسة وبيت ، وحرقت الأخضر واليابس بقنابل فسفورية لم تستخدم في التاريخ حتى ضد الحيوانات . ومن البديهي ان هذه المحصلة لم تذكر في اتفاقيات أوسلو ولكن أيضا لم يتم ذكر أي شئ يؤدي إلى منع حدوث مثل هذه المجزرة التي تأتي في سياق الحصار القروسطي الخانق على قطاع غزة.

 

هذا هو الواقع  السياسي الذي لا يرغب المسؤولين الفلسطينيين الذين وقعوا ودافعوا عن هذه الاتفاقيات ان يتم تذكيرهم بها. إن ما تم تصنيعه في بعض أجزاء الضفة الغربية وقطاع غزة م هو إلا كيان غريب الشكل والمضمون ، كيان أبارتهيدي على نمط المعازل العرقية "البانتوستانات" الجنوب أفريقية ، ولكن بدعم واعتراف دولي هذه المرة!ولكل هذه الاسباب فإن غزة 2009 هي الصورة المرئية المعكوسة "mirror_image"   لأوسلو.علينا أيضاً أن نذكر في هذا السياق السياسي التاريخي ان 75_80% من سكان غزة عبارة عن لاجئين لم يتم التطرق لهم على الإطلاق في إطار هذه الإتفاقيات ، مما يوضح سبب نتائج إنتخابات عام 2006"المفاجئة" ليس فقط في سياقها المعادي للكولونيولية الاحتلالية بل أيضاً في سياق سياسي إجتماعي. .إن ما خلفته هذه اللإتفاقيات في الضفة وغزة هو في واقع الأمر عالمين مختلفين طبقياً, إن لم نقل متناقضين, ويتميزان بمؤسسات لا ديمقراطية ،أجهزة أمنية متععدة ، محكمة عسكرية عالمثالثية ، فساد ، سوء إدارة ، محاباة........إلخ. لاشك أن هذه الصفات بالإضافة لكونها نتاج إحتلال كولونيالي تعبر أيضاً عن صفات نيوكولانيالية متنامية في العالم الما بعد إستعماري .

 

لاشك وأن إنتصارات إسرائيل في عدة حروب "48م ،67م ،82م" وبعد حصولها على اعتراف فلسطيني وعربي ودولي "بحقها" في ممارسة سياستها كدولة استعمار استيطاني ،كانت قد رغبت بالدخول في مرحلة جديدة ،مرحلة تتميز بتشكيل وعي جديد لدى الشعب الفلسطيني المحتل. وهنا بالضبط يكمن خطر أوسلو "الوجودي" .

إن عملية الأسلوة، وفي هذا الإطار الصهيوني الجديد ، يعني خلق خطاب ايدولوجي جديد يؤدي إلى إزاحة كاملة لوعي الآخر واستبداله بعقلية أحادية الجانب من خلال خلق خرافة أسطورية جديدة دائمة الانزلاق ولا يمكن تحقيقها ، على نمط حل الدولتين . هل من الغريب الآن أن حتى الوزير الفاشي أفيغدور ليبرمان يعزف لحن الدولتين ؟!.

 

وبكلماتٍ أخرى فإن العمل على خلق " الفلسطيني الجديد " المدافع وباستماتة عن حل الدولتين هو في نفس الوقت  محاولة لخلق وعي زائف يتم توجيهه من قبل "إنتلجندسيا" تم إستيعابها في إطار أوسلوي وتتميز بسجل ثوري تم تطويعه. وهكذا تصبح شعارات "حل الدولتين" و" دولتين لشعبين" و"العودة لحدود67" وحتى "هدنة لمدة 10 أو 20 عام" كلها تعبيرات عن نهج يضمن رضوخ وانصياع الفلسطينين ، وبالذات أولئك الذين يتميزون بماض ثوري نقي . ما لم يذكر في حمى هذه الشعارات والتي تردد بطريقة روبوتية ببغاوية هو حق عودة 6 مليون لاجئ وتعويضهم، والحقوق الثقافية والقومية لأكثر من 1.2 مليون فلسطيني يعاملون كمواطنين درجة رابعة في إسرائيل  . إن مجرد ذكر هاتين الفئتين جدير بإفساد أي حفلة عن "السلام و"الود" و"التعايش " واللغة السياسية "الجديدة" للإدارة الأمريكية التي ، وتبعا لبعض الأقطاب السياسية التي من المفروض أن تكون معادية لأوسلو ، تختلف كثيرا عن إدارة بوش. ما تنساه هذه الأصوات هو أن الامبريالية الامريكية قد رغبت بوضع قناع أسود جديد على وجهها ليس له علاقة بأي تغيير جدي في مضمون سياستها تجاه القضية الفلسطينية .

 

ولكن هذه الرؤية الصهيوأمريكية لا تأخذ بعين الإعتبار النقيض الأساسي الذي تخلقه نتيجة الاضطهاد والقهر.

إنها ، وبمعنى آخر, تتجاهل الوعي الثوري التغييري واللذي تم تشكيله خلال المراحل التاريخية المختلفة للمعاناة الفلسطينية ، وهي أيضاً لا تأخذ بعين الإعتبار تراث النضال المدني والمقاومة الشعبية والتي أصبحت علامة مميزة للنضال الفلسطيني .

 

ومن هنا فإن هناك ضرورة مُلحّة لإيجاد سياسة فلسطينية بديلة.  إن الوعيَ بمدى الفساد الذي وصلت إليه السلطة الوطنية الفلسطينية, والوعي بالفوارق الطبقية الهائلة التي خلقتها الاتفاقيات المذكورة, والطبيعة الوظيفية للسلطة نفسها  والتي توجت بقرار تأجيل مناقشة تقرير القاضي جولدستون في مجلس حقوق الانسان التابع للأمم المتحدة ، إنما هي بجلها محصلة لعملية تحرير الانسان الفلسطيني من أوسلو"De_osloization "   وهذه العملية التراكمية بدأت تنضج من خلال انطلاقة انتفاضة الاقصى مرورا بنتائج انتخابات 2006 والتي كانت مؤشرا واضحا لرفض شعبي لنهج أوسلو وليس بالضرورة تأييد لفصيل سياسي محدد. إن هذا الوعي اللاأوسلوي هو الوعي المعارض الذي أبدى معارضة جماهيرية كاسحة لما حصل في جنيف في المرحلة الاخيرة.

 

إن قادة القبائل الجنوب أفارقة ومن خلال اتفاقيات مع قادة النظام العنصري كانوا قد وصلوا لقناعة مطلقة بأنهم رؤساء دول مستقلة سميت كذلك"independent homelands"ولكن حزب المؤتمر الوطني الافريقي وعلى الرغم من التنازلات الهائلة التي قدمها للحزب الوطني الأبيض, ممثل الأفريكانس, فإنه لم يساوم مطلقا على فكرة وحدة جنوب افريقيا وتقسيمها الى بانتستونات. ولكن القيادة الفلسطينية وفي بداية القرن الواحد والعشرين تتفاخر بأنها قد وضعت الأرضية الصلبة لبانتوستان جديد في الشرق الأوسط ، مدعية أنه مشروع "دولة مستقلة". و مما لا شك فيه أن الصهيونية ستناور على أساس أن هذه أكبر تضحية وتنازل تم تقديمهما "للآخر الفلسطيني" بعد نفي وجود هذا الآخر لأكثر من قرن ، وبعد أن أثبت هذا الآخر أنه انسان. ولكن لضمان استمرارية المشروع الصهيوني في فلسطين يجب أن يتم احتواء هذا الاخر واستعباده بطريقة لا يعي فيها أنه مستعبد. وهذا ما يبرر منح مناطق حكم ذاتي إداري في أكثر المدن الفلسطينية إكتظاظاً وما يبرر أيضا الموقف الفلسطيني"المفاجئ" في جنيف.

 

إن رفع العلم الفلسطيني وعزف النشيد الوطني،وفرش البساط الأحمر ،وتسمية الضفة الغربية المقسمة بأكثر من 600حاجز باسم فلسطين ،كلها تعني كلمة واحدة :أوسلو. لكن الرديف لهذه الكلمة هو العبودية. العبودية وبموافقة العبد وبمشاركته في الدفاع عن السيد الأبيض .

 

إن الوصول لما نحن فيه الان من فساد غير مسبوق ، و تنسيق أمنى مع اسرائيل وبإشراف جنرال أمريكي ، وحصار على غزة بعد تحويلها إلى معسكر إعتقال أكبر من أوشفتز, وبمباركة عربية ودولية ، هو السياق المنطقي الذي تم من خلاله اتخاذ السلطة الوطنية الفلسطينية قرار تأجيل اعتماد توصيات القاضي الجنوب أفريقي جولدستون في مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة .و هكذا فان اسرائيل, كبيض جنوب أفريقيا العنصرية, نجحت في توجيه ردة الفعل الرسمية الفلسطينية على جرائم ارتكبتها نهارا جهارا.

 

*محلل سياسي مستفل و ناشط في حملة المقاطعة