خبر كرة النار التي دخلت مرمى الرئاسة الفلسطينية .. رغيد الصلح

الساعة 03:13 م|09 أكتوبر 2009

بقلم: رغيد الصلح

لا يحتاج الفلسطينيون إلى الانتظار كثيراً للاطلاع على نتائج التحقيق في ملابسات موافقة الرئيس الفلسطيني على تأجيل النظر في تقرير غولدستون. فأحد مستشاري الرئيس عباس أوضح قائلاً إن التحقيق مهم لأنه سوف يتيح للجنة المكلفة به القيام بشرح الحقائق والمعطيات التي دعت الوفد الفلسطيني إلى الموافقة على التأجيل. بتعبير آخر فإن اللجنة لن تقوم بتقصي الحقائق وأنها ليست من نوع اللجان التي تشكلها المجالس النيابية بقصد تجميع المعلومات إتماماً لمهمة مراقبة السلطة ومحاسبتها. إنها مجرد لجنة "توعية" الهدف منها إعلامي وتبريري والرد على الانتقادات العارمة الموجهة إلى الرئاسة الفلسطينية بسبب موقفها تجاه تقرير غولدستون. أما البيان الذي ستخرج به اللجنة على الفلسطينيين-هذا إذا استمرت في تنفيذ مهمتها- فهو معروف سلفاً. فاللجنة ستكرر ما قيل في أن الموقف الفلسطيني تجاه التقرير اتخذ نزولا عند رغبة إدارة أوباما وحرصاً على استمرار مساعي التسوية.

التوقف عند هذه النقطة الأخيرة مهم وضروري. أهمية النظر في هذا التبرير لا تنحصر في كشف الكثير من الملابسات المتعلقة بالموقف من تقرير غولدستون، ولكن في التدقيق في واقع السياسة الأمريكية تجاه المنطقة وطبيعة المتغيرات في هذه السياسة، بل وحتى في طبيعة الصراعات الدولية. إدارة أوباما، مثل أية إدارة أمريكية أخرى، تحرص أشد الحرص على أمن "إسرائيل" وتفوقها العسكري والسياسي والاقتصادي على العرب. باراك أوباما خاطب اللوبي "الإسرائيلي" (آيباك) خلال حزيران/يونيو عام ،2008 أي قبل دخوله البيت الأبيض، بقوله: "... نعرف أن إنشاء "إسرائيل" كان عادلاً وضرورياً، متجذراً في قرون من النضال وعقود من العمل الصبور(...) نعرف أنه لا يمكننا التراخي ولا الاستسلام، وإذا أصبحت رئيساً لن أساوم أبداً عندما يتعلق الأمر بأمن "إسرائيل"".

أوباما لم يغير سياسته هذه بعد دخوله البيت الابيض ولن يغيرها لاحقاً. ولكن باراك حسين أوباما هو غير جورج دابليو بوش. سواء بدافع من المعتقدات الشخصية أو خدمة للصهيونية، فالمهم أن أتباع فلاديمير جابوتنسكي، الأكثر تطرفاً وصقورية من بين مؤسسي الحركة الصهيونية، كانوا هم الذين يمسكون بزمام سياسة إدارة بوش تجاه الصراع العربي-"الإسرائيلي". هؤلاء هم أيضاً الأكثر صهيونية والأشد تطرفاً من "الإسرائيليين". وبينهم وبين الصهاينة الآخرين تنافس على زعامة الحركة الصهيونية وعلى قيادة "إسرائيل". الجابوتنسكيون يعتقدون أن الخيار العسكري هو وحده الذي ينفع مع العرب والفلسطينيين. الصهاينة الآخرون وبعضهم موجود في "اليسار" "الإسرائيلي" يعتقدون أن الحرب وحدها لن تسمح "للإسرائيليين" بالتغلب على العرب فلا بد من استخدام كافة الأسلحة الأخرى في مثل هذا الصراع. الصهاينة الجابوتنسكيون كانوا مشاركين أساسيين في قرار إدارة بوش. على هذا الصعيد تختلف إدارة أوباما عن الإدارة السابقة: صهاينة إدارة أوباما هم غير صهاينة جورج بوش. وصهاينة إدارة أوباما ليسوا في نفس موقع القوة التي تمتع بها صهاينة إدارة بوش.

"الأوباميون" يتعاطفون مع "إسرائيل" ولكن مواقفهم تجاهها وتجاه الصراع العربي- "الإسرائيلي" تتأثر باعتبارات أمريكية عامة تتجاوز في بعض الأحيان مصالح "إسرائيل" ورغبات "الإسرائيليين". إنهم أقرب إلى رأي بات منتشراً بين أوساط سياسية في الغرب مفاده أن السياسة التي يتبعها "الإسرائيليون"، وخاصة قادة اليمين "الإسرائيلي"، تجاه العرب وتجاه الفلسطينيين تهدد "إسرائيل" نفسها بالخطر.

في هذا السياق الأخير يمكننا أن نفهم الموقف الذي تتخذه إدارة أوباما تجاه مسألة المستوطنات "الإسرائيلية". وفي هذا السياق نفسه نفهم سعي أوباما إلى كسب ود المسلمين. وفي هذا السياق أيضا نستطيع أن نقدر موقف إدارة أوباما تجاه مسألة موافقة الوفد الفلسطيني على تأجيل النظر في تقرير غولدستون عندما سارع ناطق باسم هذه الإدارة إلى نفي قيامها بالضغط على الفلسطينيين من أجل قبول التأجيل. فهذا الموقف هو بمثابة كرة النار التي تحرق من يحملها. ومن يحمّل إدارة أوباما مسؤولية الضغط من أجل تأجيله يضعها في مركز الانحياز الشديد لمصلحة "إسرائيل". أليس هذا معنى الضغط على الفلسطينيين لكي يتخذوا موقفاً سلبياً تجاه تقرير قدمته لجنة تقصي حقائق دولية برئاسة شخصية يهودية لأنه تضمن انتقادات إلى "الإسرائيليين"؟ ومن يحمّل واشنطن أوباما هذه المسؤولية فإنه يعكر على مجمل سياستها الأوسطية والفلسطينية وعلى سياستها تجاه الإسلام والمسلمين. أما إذا مضت لجنة تقصي الحقائق في بحث التقرير فليس لإدارة أوباما ما تخسره، بل بالعكس فإنها تستطيع أن تفيد من هذه الضغوط الدولية من أجل "إقناع" حكومة نتنياهو بتقديم تنازلات إلى الفلسطينيين مقابل ما يقدمه الفلسطينيون والعرب من تنازلات كثيرة.

الأرجح هو أن الذين اتخذوا قرار التأجيل فعلوه خشية من إغضاب "الإسرائيليين" وليس الأمريكيين، ولأنهم باتوا، موضوعياً وبصرف النظر عن عواطفهم ومشاعرهم، في قبضة "إسرائيل" وتحت رحمتها. فتقرير غولدستون هو تقرير دولي وليس أمريكياً. وليس "للإسرائيليين" أن يحاسبوا إدارة أوباما على صدوره. ومن ثم ليس من مبرر خاص يحمل واشنطن على ممارسة الضغط الشديد على الفلسطينيين حتى يقبلوا باتخاذ موقف أدى إلى "إنقاذ "إسرائيل"" من مواجهة الإدانة العالمية كما وصف ريتشارد فولك، مقرر الأمم المتحدة الخاص لحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة. هناك بالطبع مبرر خاص لنتنياهو حتى يمارس مثل هذا الضغط على رئاسة السلطة الفلسطينية حتى تهرب "إسرائيل" من يوم الحساب. الواضح أن رئيس حكومة "إسرائيل" لم يكن في حاجة إلى ضغط كثير يمارسه على هذا الصعيد. فقد أثبتت الرئاسة الفلسطينية أنها شديدة "التفهم" لحاجات "الإسرائيليين" وطلباتهم ورغباتهم وحريصة كل الحرص على تلبية هذه الرغبات ربما حتى قبل إبلاغها صراحة إلى الجانب الفلسطيني.