خبر ولدت السلطة ملحقا لدولة الاحتلال، وتبقى كذلك .. د. بشير موسى نافع

الساعة 12:25 م|08 أكتوبر 2009

ولدت السلطة ملحقا لدولة الاحتلال، وتبقى كذلك

د. بشير موسى نافع ـ القدس العربي 8/10/2009

كان الحدث الذي شهدته اجتماعات مجلس حقوق الإنسان بمدينة جنيف يوم الجمعة الماضي (3 تشرين الاول/أكتوبر) أقرب إلى اللامعقول السياسي منه إلى الدبلوماسية الدولية. فبعد أن كان من المفترض أن يصوت المجلس على قرار، رعته مجموعة الدول العربية والإسلامية ودول عدم الانحياز، يدين تقاعس الدولة العبرية عن التعاون مع فريق الأمم المتحدة للتحقيق في جرائم الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، الذي قاده القاضي الجنوب إفريقي ريتشارد غولدستون، ويتبنى تقرير غولدستون ويرفعه إلى مجلس الأمن، تقدمت باكستان، نيابة عن الدول الراعية للقرار، بطلب إرجاء التصويت حتى موعد الجلسات العادية التالية للمجلس في آذار/مارس المقبل.

وقد برر المندوب الباكستاني في المجلس، الذي يضم 47 دولة من أعضاء الأمم المتحدة، الطلب بأن التأجيل سيتيح مزيداً من الوقت من أجل بحث شامل وواسع للتقرير. قلة، بالطبع، تعتقد أن تقرير غولدستون سيجري بحثه في المجلس من جديد، إن ترك الوضع على ما هو عليه؛ لأن الدوافع خلف التأجيل لا علاقة لها بمزيد من الوقت أو مزيد من البحث.

طبقاً لمصادر إسرائيلية وأمرdكية وفلسطينية، ولما أشار إليه الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي، كان التأجيل قراراً فلسطينياً في أصله، وافقت عليه مجموعة الدول الراعية لمشروع القرار. الدبلوماسي الفلسطيني بصفة مراقب، المتواجد على هامش اجتماعات مجلس حقوق الإنسان (كون السلطة الفلسطينية ليست عضواً في المجلس)، السفير إبراهيم خريشة، والذي يفترض أن يكون ممثلاً للضحية، هو الذي طلب تأجيل التصويت على القرار، الذي كان يؤمل أن يوفر فرصة نادرة لإدانة الجلاد في محفل دولي. بمعنى أن الموقف الفلسطيني في المجلس، وفي اللحظة الأخيرة، مد يد العون لدولة الاحتلال، وقدم المساهمة الأهم لإنقاذها من الإدانة. وكان تقرير القاضي غولدستون قد وجه اتهامات للدولة العبرية بارتكاب جرائم حرب في قطاع غزة (إضافة لاتهامات مشابهة، ولكن أقل خطورة لحماس)، وحض مجلس الأمن الدولي على إحالة الاتهامات على المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي، إذا لم تحقق السلطات الإسرائيلية وحركة حماس، على السواء، مع المشتبه بتورطهم في هذه الجرائم وتقدمهم للقضاء في غضون ستة أشهر. بالنظر إلى خطورة الأمر والاهتمام العالمي به، فإن طلب التأجيل الذي تقدم به السفير الفلسطيني لمجموعة الدول الراعية لم يكن بالتأكيد مبادرة أو اجتهاداً شخصياً، ولابد أن يكون قد صدر مباشرة عن رئيس سلطة الحكم الذاتي محمود عباس. ما أن أخذت التقارير الصحافية في تسريب حقيقة الموقف الفلسطيني، في المساء السابق لانعقاد جلسة مجلس حقوق الإنسان، حتى أصاب السلطة الفلسطينية الارتباك؛ وقد تراوحت تصريحات مسؤوليها بين الكذب الصريح والتبرير الهش والصمت المطبق. صائب عريقات، المتواجد في واشنطن للتباحث حول استئناف المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية، أعطى الانطباع بأن موقف السلطة لم يزل على ما هو عليه. رياض المالكي، وزير خارجية حكومة فياض في رام الله، تحدث عن ضغوط أمريكية هائلة خلف قرار التأجيل. أما رئيس الحكومة سلام فياض، المخطط الكبير لإقامة دولة فلسطينية، والرئيس عباس، صاحب التصريحات الصارخة في إدانة المقاومة الفلسطينية، فقد أصابتهما حالة من الصمت، وكأن لا شأن لهما بما يجري. الحقيقة، أن سلطة الحكم الذاتي لم تذعن للضغوط الامريكية وحسب، بل وللإسرائيلية أيضاً. قبل أيام من انعقاد مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، كان وزير الخارجية الإسرائيلي ديفيد ليبرمان قد وجه الإنذار المستبطن الأول للسلطة الفلسطينية عندما كشف في حديث صحافي أن السلطة كانت تطالب الإسرائيليين بمواصلة الحرب على قطاع غزة وإطاحة حكومة حماس. ثم جاء دور رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، الذي هدد بأن التصويت على رفع تقرير غولدستون إلى مجلس الأمن سيوجه ضربة قاضية لمباحثات السلام، إضافة إلى أنه سيؤدي إلى إيقاف الدولة العبرية لترخيص شبكة هاتف محمول فلسطينية جديدة.

على مستوى الحسابات السياسية الآنية، تأمل السلطة الفلسطينية، كما الإدارة الأمريكية، أن تستأنف عملية التفاوض من جديد، وأن يوفر التفاوض فرصة لتسوية ما ورافعة سياسية للسلطة وقيادتها في التدافع المستمر على روح الشعب الفلسطيني. وهذا هو معنى وجود عريقات في واشنطن، وتراجع المطالب الفلسطينية والامريكية عن شرط الإيقاف الكلي للتوسع الاستيطاني الإسرائيلي في الضفة الغربية. وقد سربت مصادر فلسطينية ما يفيد بأن فياض كان من أقنع عباس بالتخلي عن مشروع قرار مجلس حقوق الإنسان، استجابة للضغوط الامريكية والتهديدات الإسرائيلية، فيما يتعلق بعملية السلام وباقتصاد ومالية السلطة. ولكن الموقف الفلسطيني سرعان ما أثار غضباً عارماً في الدوائر الشعبية الفلسطينية، سيما في قطاع غزة، وفي دوائر منظمات حقوق الإنسان الفلسطينية والعربية والغربية. وعلى مستوى الحسابات السياسية الآنية، لا يمكن النظر إلى الموقف الفلسطيني سوى أنه يمثل خيانة صريحة لمصالح الشعب الوطنية، وتوكيداً على مصداقية اتهامات ليبرمان أن دوائر السلطة شجعت على استمرار الهجوم الإسرائيلي الدموي على القطاع وأهله. إن كان الأمر كذلك، فإن لجنة فتح المركزية الجديدة تقف الآن أمام أول امتحان جاد لها. بعيداً عن تصريحات عريقات البلهاء حول ما وقع في جنيف، ثمة عدد من أعضاء لجنة فتح المركزية الجدد الذين وصلوا إلى موقعهم القيادي تحت شعار إعادة بناء الحركة ودورها النضالي، وعلى هؤلاء أن يسألوا أنفسهم الآن ما إن كان من المسوغ استمرار فتح في تقديم الغطاء لحكومة سلطة الحكم'الذاتي وسياستها، وما إن كان من حق اللجنة المركزية أن تحاسب رئيسها. بيد أن التراجع الفلسطيني المخجل في جنيف لا يتعلق بالحسابات السياسية الآنية وحسب، بل أيضاً، وهذا هو الأهم، بالأسس التي اقيمت عليها السلطة، بجوهر الوظيفة التي أوكلها بها اتفاق أوسلو، الحاضنة القانونية الشرعية الوحيدة حتى الآن لسلطة الحكم الذاتي. أوسلو، كما هو معروف، لم يكن اتفاقاً لتوفير الاستقلال الوطني الفلسطيني، لم يكن اتفاقاً لإقامة الدولة الفلسطينية، ولا اتفاقاً لضمان السيادة الفلسطينية. منح أوسلو لقيادة منظمة التحرير الفلسطينية، أو لجزء من هذه القيادة، الحق في إقامة إدارة ذاتية على اجزاء متفرقة ومجزأة من الضفة وقطاع غزة، سيما تلك التي تضم كثافات سكانية عالية؛ بمعنى أنه حرر الإسرائيليين من عبء السكان الفلسطينيين ووضع هذا العبء على عاتق الفلسطينيين أنفسهم. ولكن حتى هذه الإدارة لم تعط للفلسطينيين مرة واحدة وعلى كل المناطق التي قرر الإسرائيليون أن تدار ذاتياً، بل خضعت لسياق تفاوضي قاس ومتدرج ومشروط، بدأ كما هو معروف بغزة - أريحا. كما صنفت مناطق الحكم الذاتي إلى عدة أصناف من حيث التواجد الأمني الفلسطيني، والمدى المفترض لصلاحيات الإدارة الفلسطينية. ولأن سيادة بالمعنى السياسي للحكم والدولة لم تتوفر لهذه الإدارة، فسرعان ما استباحت القوات الإسرائيلية كل مناطق الحكم الذاتي بعد انطلاق الانتفاضة الذاتية، بغض النظر عن التصنيف الذي قرر لها. طبقاً لأوسلو، تسيطر الدولة العبرية على حدود وفضاء وأرض ومقومات اقتصاد ومالية وتجارة مناطق الحكم الذاتي. ولكن سلطة الحكم الذاتي هي المسؤولة في مناطقها عن إدارة شؤون السكان، وضمان أمن الدولة العبرية، بما في ذلك منع ومحاصرة وتقويض كل توجهات المقاومة الوطنية التي تراها الدولة العبرية مصدر تهديد لأمنها. وعندما تدخلت الإداة الامريكية'لإيجاد طريقة لإخماد الانتفاضة الثانية، أعادت خارطة الطريق التوكيد على مسؤوليات السلطة الأمنية. وتحمل السلطة إضافة إلى ذلك مسؤولية استجداء المجتمع الدولي لجلب المساعدات الضرورية لحياة السكان الواقعين ضمن دائرة إدارتها، على أن تتحكم الدولة العبرية في مستوى تدفق هذه المساعدات، كما في معظم موارد السلطة المالية أيضاً. ليس ذلك وحسب، بل أن الدولة العبرية تتحكم في حاجات السلطة التنموية والحياتية، من مؤن وبضائع وأدوات انتاج وصناعة. ولأن لا سيادة للسلطة على أرض وشعب محددين (وهو المقصود بالدولة القومية الحديثة)، فقد صمت أوسلو كلية عن النشاطات الاستيطانية الإسرائيلية في الضفة الغربية. ولم يتم التطرق للاستيطان إلا بعد ان اكتشف المفاوض الامريكي لخارطة الطريق فداحة التوسع الاستيطاني وتهديده لفكرة الدولة الفلسطينية، التي افترضت الإدارة الامريكية أنها ستكون نتاج الحل النهائي للمسألة الفلسطينية. وقع اتفاق أوسلو في خريف 1993، وبعد 16 عاماً على توقيعه، يبدو واضحاً أن الدولة العبرية حصلت على ما ضمنه لها الاتفاق وزيادة، بينما لم يحصل الجانب الفلسطيني إلا على ما حمله الاتفاق إياهم من أعباء، بدون تحقق للوعود. منذ توقيع أوسلو، وحتى بعد اتفاق خارطة الطريق، استمر الاستيطان بلا هوادة، وحافظت الدولة العبرية على مستوى تحكم مذل بمقدرات الحكم الذاتي وحياة سكانه واستباحة مناطقه. في الجانب الآخر، خاضت سلطة الحكم الذاتي معركة تلو الأخرى ضد شعبها، بهدف توفير الحماية والأمن والسلام لدولة الاحتلال. ما أسس له اتفاق أوسلو كان إقامة إدارة فلسطينية ملحقة بنظام الاحتلال، إعادة بناء لنظام الاحتلال هذا بحيث تلعب إدارة فلسطينية وطنية دوراً رئيسياً في إدامته وتأمين أهدافه الكلية والنهائية. قيادات السلطة الفلسطينية هي بالطبع قيادات وطنية، ولكن هذه ليست المرة الأولى في تاريخ حركات التحرر الوطني التي تنقلب فيها قيادات وطنية على شعبها ونضاله. وربما من الإنصاف القول أن عرفات، المسؤول الرئيسي عن توقيع اتفاق أوسلو، حاول في الانتفاضة الثانية التصدي للخل الفادح في علاقات القوة التي أسس لها أوسلو بين السلطة ودولة الاحتلال. عباس، المسؤول الرئيسي عن التفاوض الذي أوصل إلى الاتفاق، خضع كلية لهذا الخلل وللدور الذي أوكله الاتفاق لسلطة الحكم الذاتي. وتراجع جنيف ليس إلا تعبيراً عن هذا الخضوع.