خبر « فلسطينيون جدد » في الضفة الغربية! .. ياسر الزعاترة

الساعة 12:24 م|08 أكتوبر 2009

"فلسطينيون جدد" في الضفة الغربية!

 

ياسر الزعاترة ـ الجزيرة نت 6/10/2009

أفاض كثيرون خلال الشهور الماضية في الحديث عن "الفلسطيني الجديد" الذي أعلن الجنرال كيث دايتون عن إبداعه في الضفة الغربية.. أعني ذلك الذي انخرط في أجهزة الأمن الفلسطينية على قاعدة الصفقة الجديدة بين سلطة محمود عباس وسلطات الاحتلال، والتي خلاصتها أمن للإسرائيليين مقابل هدوء واستقرار وشيء من الرفاه للفلسطينيين، بصرف النظر عن نتائج المفاوضات.

هذا "الفلسطيني الجديد" جاء من أجل "أكل العيش" وليس إيمانا بأية نظرية سياسية (هم حاولوا ويحاولون حشو رأسه بتنظير سياسي يبرر ما يفعل)، ربما لأنه لا يفهم في السياسة أصلا (كان ذلك شرطا مهما للاختيار)، ولم يسبق له الانخراط في أي فعل نضالي ضد الاحتلال (يشذ عن ذلك بعض القادة الذين حسنت سيرتهم خلال السنوات الماضية وأثبتوا ذلك فعلا وقولا)، مع العلم أن صياغة الفلسطيني المذكور قد سبقتها إعادة هيكلة لجهاز الأمن الفلسطيني ترتب عليها إقالة آلاف الضباط (المشكوك في قابليتهم للتعامل مع متطلبات المرحلة الجديدة) رغم أن بعضهم لم يبلغ الخمسين من العمر، وبالطبع في ذات السياق الذي نحن بصدده.

على أن الذي لا يقل أهمية عن ذلك كله، هو ما يفعله مبعوث الرباعية الدولية إلى الشرق الأوسط توني بلير -والحديث لا يزال عن الضفة الغربية- وذلك بالتعاون مع جهات ذات علاقة، فلسطينية وغربية، بل وعربية أيضا.

مهمة بلير تبدو أكثر أهمية وإثارة من مهمة الجنرال دايتون، لأن الأخير يركز على بضع عشرات من الآلاف يعملون في جهاز الأمن، بينما يركز الآخر على صياغة قرابة 2.5 مليون فلسطيني في الضفة الغربية (لو تحررت غزة من أسر حماس لأدمجت في البرنامج!!)، وذلك عبر إشغالهم بقضايا المال والأعمال والرفاه الاقتصادي مع إشعارهم بأهمية التحولات الجديدة، وجزء منها يتعلق بتسهيلات الحياة اليومية، من حيث تقليل عدد الحواجز وسهولة التنقل بين المدن والقرى.

في هذا السياق تفتح شركات جديدة برعاية بلير نفسه (سحب السلطة لتقرير غولدستون جاء بعد تهديد الإسرائيليين بتعطيل ترخيص شركة موبايل جديدة لنجل الرئيس عباس حصة فيها)، ويُجلب مستثمرون من الخارج (بعضهم خليجيون وعرب آخرون)، بينما تفتح فرص الاستيراد من الخارج بطرق مغرية (البضائع الصينية تغزو الضفة الغربية ويقبل عليها فلسطينيو الأراضي المحتلة عام 48 بسبب رخص أسعارها)، ويتحدث الناس بشكل يومي عن تلك الفرص، وتتركز الحوارات اليومية في البيوت والدواوين عن رواتب الأبناء وفرصهم، بينما يجري التأكيد من قبل كثيرين على أهمية هذا الوضع المريح، ومن ثم رفض العودة إلى الوضع السابق أيام "التفجيرات الانتحارية"، مع إضافة نكهة تبريرية لذلك كله خلاصتها انطفاء الأمل، بل و"عدم جدوى مسار الانتفاضة والمقاومة في ظل الانقسام"، وبعدما تبين أن "حماس مثل فتح"، وأن "العالم العربي قد تخلى عنا"، إلى غير ذلك من المبررات التي تريح النفس البشرية الذاهبة نحو وضع تحوم حوله الشبهات من الناحية المبدئية.

تزداد هذه النظريات والقناعات شيوعا في ظل غياب شبه شامل للرأي الآخر، والذي تمثله حماس من الناحية العملية، فرموز الحركة يتوزعون أو يترددون بين السجون الفلسطينية والإسرائيلية، أما من يخرج منهم لبعض الوقت، فليسفي بوسعه الاختلاط بالناس، سواء كان ذلك بسبب ابتعادهم عنه خشية الشبهة، أم بسبب خوفه هو من تكرار الاعتقال إذا مارس أي نشاط عام في ظل أوضاع تحصي على الناس أنفاسهم، مع العلم أن بشاعة الاعتقال والتعذيب من طرف السلطة قد أصاب كثيرا من أولئك الشبان بالإحباط (ظلم ذوي القربى أشد مضاضة، فكيف حين يغيب التعاطف المعلن مع المعتقلين والمستهدفين بكل الوسائل، إما خوفا أو بسبب الانقسام؟!)، والنتيجة أن الصوت الآخر غائب تماما عن المشهد، ما يعني إفساح المجال أمام مرور اللعبة واقعيا ونفسيا في آن.

والواقع الذي لا يمكن إنكاره هو أن الوضع الاقتصادي قد تحسن بالفعل بالنسبة لقطاع لا بأس به من الناس، وبالطبع بسبب تدفق المعونات والاستثمارات (سجلت مناطق السلطة نموا اقتصاديا جيدا خلاف أكثر دول العالم في ظل الأزمة المالية!!)، مع تحسن لمسه الجميع بسبب غياب الانفلات الأمني وتراجع عدد الحواجز الإسرائيلية التي كانت تنغص حياة الناس (نتنياهو ذكّر أوباما في القمة الثلاثية بالتسهيلات التي يقدمها للسلطة على هذا الصعيد).

ويبقى أن الجزء الأول لم يشمل الجميع بالضرورة، فضلا عن التفاوت الكبير في حجم الاستفادة، إذ سيغدو بعض المحسوبين على قيادات السلطة من كبار المستثمرين كما هو حال أبناء السيد الرئيس على سبيل المثال لا الحصر، بينما ستكون حصيلة الآخرين محدودة، الأمر الذي يذكّر بواقع الحال خلال النصف الثاني من تسعينيات القرن الماضي، مع العلم بأن الوضع سيكون مختلفا بعض الشيء من حيث مستوى الفساد في السلطة، وبالطبع بسبب الرقابة الصارمة هذه المرة من طرف المانحين الدوليين.

هذا هو بالضبط السلام الاقتصادي الذي تحدث عنه نتنياهو ويرعاه توني بلير وآخرون، وهذه هي الدولة المؤقتة (على نحو نصف الضفة) التي يرفضونها في العلن ويقيمونها على الأرض (دولة الأمر الواقع بحسب سلام فياض)، وهذه بالضبط هي نظرية شارون الشهيرة التي أعلنها منذ أن كان في المعارضة عام 2000 والتي سماها الحل الانتقالي بعيد المدى، وأسس من أجلها حزب كاديما بعد الانسحاب من قطاع غزة، وهي بالمناسبة موجودة في بنود خريطة الطريق بوصفها المرحلة الثانية بعد المرحلة الأولى التي تنص على نبذ العنف والإرهاب والتحريض من الطرف الفلسطيني مقابل وقف الاستيطان من الطرف الإسرائيلي.

خلاصة هذه النظرية هي القناعة بصعوبة حسم القضايا الكبرى (القدس، اللاجئين، السيادة، وحتى الأرض)، الأمر الذي يعني الموافقة على هذه الصيغة المؤقتة التي يمكن للفلسطينيين من خلالها إثبات أهليتهم لجوار الدولة العبرية، وصولا إلى تحويل المؤقت إلى دائم، ربما مع تغييرات طفيفة لا تمس الجوهر.

هذا هو المشروع الذي عمل عليه شارون، وهو المشروع الذي من أجله أسس كاديما وانسحب من القطاع كما أشرنا من قبل، ومن أجله أيضا قتل الشيخ أحمد ياسين والرنتيسي ومن ثم ياسر عرفات، والأهم من أجله جيء بالقيادة الفلسطينية الجديدة التي ترفض المقاومة وتؤمن بالمفاوضات وبتكريس واقع السلطة/الدولة ولو إلى يوم الدين.

والسؤال الذي يطرح نفسه في مواجهة ذلك كله هو: هل يمكن لسلام كهذا أن ينجح في تمرير الواقع الذي يريده الإسرائيليون، أي تحويل المؤقت إلى دائم، وإن بإضافة بعض الرتوش، أم أنه سيصطدم لاحقا بإصرار الفلسطيني على استعادة أرضه وكرامته؟

الذين يشرفون على بناء هذه المعادلة لا يقرؤون التاريخ، تماما كما كان حال أصحابهم الذين ذهبوا إلى العراق معتقدين أن شعبه سيقابلهم بالورود، بينما كتبنا وغيرنا مؤكدين أن المقاومة لن تلبث أن تندلع في وجوههم، وهو ما كان.

إنهم لا يفهمون أن الفلسطيني لن يبيع أرضه وكرامته ويتعايش مع عدوه مقابل فتات الحياة اليومية، وإذا كان هناك من يقبل ذلك، فهم القلة التي لم تكن منخرطة في النضال من الأصل، وسيأتي اليوم الذي سينقلب فيه قطاع لا بأس به من الفلسطينيين على هذا الوضع لتعود المقاومة من جديد، لا أعني فقط أبناء المخيمات والفقراء، بل والكثير من أبناء الطبقة الوسطى وبعض الغنية كذلك، وهو بالضبط ما حدث نهاية سبتمبر/أيلول 2000 بعد قمة كامب ديفد الشهيرة بنحو شهرين اثنين. وهم يعولون على شطب حماس والجهاد وروح المقاومة بوسائل القمع الرخيصة المتبعة، غير أن الحركات المتجذرة في وعي شعبها لا يمكن شطبها بهذه السهولة.

ربما كان هذا التحول صعبا في ظل الوضع الراهن، لكن الموقف لن يلبث أن يتغير بمرور الوقت واتضاح حقيقة اللعبة وتفريطها في أهم الثوابت، مع شيوع الفساد في سلطة قوامها الفاسدون (هل ثمة فساد أكثر من التحالف مع العدو؟).

بقي القول إن الطريقة التي سيجري من خلالها حل معضلة قطاع غزة وورطة مشاركة حماس في الانتخابات في ظل سلطة أوسلو المصممة لخدمة الاحتلال، ستساهم في تسريع أو تأجيل الانقلاب على هذه اللعبة، فضلا عن تحولات عربية وإقليمية أخرى، وهو ما يدفعنا إلى الدعاء بأن تنتهي هذه المعضلة بانقلاب حماس والجهاد والرافضين من حركة فتح على اللعبة برمتها والعودة إلى مسار المقاومة بكل الوسائل المتاحة.