خبر كم منتظر الزيدي يحتاج الفلسطينيون؟ ..د. انيس فوزي قاسم

الساعة 06:14 ص|07 أكتوبر 2009

كم منتظر الزيدي يحتاج الفلسطينيون؟ ..د. انيس فوزي قاسم

في اواسط شهر ايلول/سبتمبر الماضي تمّ نشر تقرير اللجنة الدولية لتقصي الحقائق في الممارسات الاسرائيلية اثناء اجتياح غزة في الشتاء الماضي، وكان رئيس اللجنة القاضي الدولي ريتشارد غولدستون، وهو من اصدقاء اسرائيل المعروفين وله نشاطات في خدمة اسرائيل. ويقع التقرير في حوالي 600 صفحة، وقدم الى مجلس حقوق الانسان للنظر في محتوياته والتقرير بشأنه في اجتماعه المقرر في الثاني من تشرين الاول/اكتوبر الجاري.

ومنذ نشر التقرير ومنظمات حقوق الانسان العربية والدولية واصدقاء الشعب الفلسطيني على النطاق الدولي يعيشون حالة نشوة فريدة، ذلك لاعتقادهم ان يد العدالة الدولية لا بدّ وان تصل قريباً الى رقاب مجرمي الحرب الاسرائيليين الذين لم يتركوا جريمة حرب الاّ وارتكبوها اثناء اجتياحهم قطاع غزة. وفي نفس الوقت اصاب الهلع القيادات الاسرائيلية العسكرية والسياسية وبدأوا في تجريد حملة منظمة لتشويه تقرير غولدستون واستنجدوا بالقيادات الامريكية لمساعدتهم في الخروج من هذه الورطة. ومنذ نشر التقرير، والقيادة الفلسطينية في وجوم وحيرة وكأن الطير ضرب على رأسها.

يضم التقرير كشفاً مفصلاً بالموبقات والكبائر التي ارتكبتها القوات الاسرائيلية. وقد عدد التقرير (36) حالة محددة ارتكب فيها الجيش الاسرائيلي جرائم حرب بالمخالفة للقوانين والاعراف الدولية. ويشرح التقرير استخدام القوة المفرطة وغير الضرورية مما سبب في وفاة مدنيين، ويبين فشل القوات الاسرائيلية في التفريق بين الاهداف المدنية والاهداف العسكرية. واعلن غولدستون في تقريره، وبتلخيص شديد، التهمة الموجهة لاسرائيل، وهي 'ان جميع السكان في غزة' كانوا مستهدفين في تلك الحرب. واتهم التقرير كلاً من اسرائيل وحماس بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الانسانية، مع وجوب جلب القيادات العسكرية للمحاسبة امام العدالة الدولية.

وبعد نشر التقرير بيومين، كتب القاضي غولدستون في جريدة نيويورك تايمز ان 'الفشل في تحقيق العدالة لمحاسبة الخروقات خلال الحرب سيكون له تأثير سلبي على العدالة الدولية ويظهر هرطقة غير مقبولة.' وهذا الذي يقوله غولدستون، سبق وان قال ما يشبهه في محاضرة له في القدس في العام 2000، حيث قال آنئذٍ ان جلب مجرمي الحرب الى قوس العدالة ينبثق في الواقع من دروس المحرقة.

وفي الجلسة التي عقدها مجلس حقوق الانسان في الثاني من الشهر الجاري، فوجىء العالم، بان الوفد الفلسطيني يطلب من المجلس ترحيل النظر في التقرير الى الجلسة القادمة للمجلس. ومن متابعة تصريحات الرسميين الفلسطينيين يلحظ التناقض والتضارب في التصريحات وما يلحق ذلك من تأتأة وفأفأة، وتحوّل الأمر الى 'فعل مبني للمجهول' على حد قول شاعرنا مظفر النواب. وبسبب الضجة والاحتجاجات التي مازالت تنهال على مقرّ الرئاسة الفلسطينية، قرر الرئيس محمود عباس تشكيل لجنة تحقيق لبيان الاسباب والظروف التي ادت الى اتخاذ ذلك القرار. أي ان الرئاسة الفلسطينية شكلت لجنة للتحقيق مع الرئاسة الفلسطينية للبحث في الاسباب والظروف التي ادت بالرئاسة الفلسطينية لاتخاذ ذلك القرار، اذ من المعلوم ان الرئاسة هي بؤرة القرار.

نعلم ان انشاء لجنة للتحقيق هو امرٌ مرغوب فيه اذا كانت هناك مشكلة غامضة او معقدة او ان الحادث غير مفهوم الاسباب او له اسبابه الغامضة او لتوضيح دور اشخاص زج باسمائهم حقاً او باطلاً، او ان اخطاءً معينة قد ارتكبت. اما لجنة الرئيس محمود عباس، فهي بدعة لا تبرير لها لأن ما حدث ليس خطأ او خطيئة او مشكلة تحتمل الرأي والرأي الآخر. ان ما حدث هو سياسة ثابتة ومسار واضح ولم يكن فيه مجال للاجتهاد أو التفسير. فكيف يتم الاجتهاد من فلسطيني حول تقرير يدين اسرائيل عن جرائمها؟ ان الأمر يمتلىء وضوحاً ولا يحتاج الى تفسير او اجتهاد. فضلاً عن ان هذه ليست المرّة الاولى التي تبدد فيها القياده الفلسطينية ثروات قانونية وسياسية ومنجزات في غاية الاهمية.

هل نبدأ بمجزرة مخيم جنين في العام 2002 والتي اطاحب القيادة الفلسطينية حينئذ بمنجزات اللجنة الدولية آنئذٍ حول جرائم اسرائيل اثناء اجتياح مخيم جنين؟ ام نبدأ بالمؤتمر الدولي الذي حضرته (192) دولة فضلاً عن العشرات من منظمات حقوق الانسان والذي عقد في جنيف في صيف العام 1999، وذلك لحمل اسرائيل على التقيد بما ورد في المادة الاولى من اتفاقيات جنيف الاربع، ثم حضر ممثل القيادة الفلسطينية وألقى خطاباً في المؤتمر وكأنه سطل ماء بارد أُلقى به على الحضور، اذ قال ان الوفد الفلسطيني يعبّر عن ارتياحه لانتخاب ايهود باراك رئيساً للوزراء آنئذٍ ويود ان يمنح السلام فرصة اخرى. وانفضّ المؤتمر الدولي بعد أقلّ من ربع ساعة من خطاب الممثل الفلسطيني.

هل من الضروري ان نذكّر كيف بددت القيادة الفلسطينية الثروة الذهبية التي سقطت عليها من السماء حين اصدرت محكمة العدل الدولية الفتوى القانونية في قضية الجدار العازل؟ ماذا فعلت القيادة الفلسطينية وكيف استثمرت هذا الانجاز التاريخي الهام والذي صدر عن أعلى مرجع قضائي في العالم، وصدر عن قضاة يمثلون جميع المدارس الفقهية والقانونية المعروفة في العالم، وصدر بأغلبية اربعة عشر صوتاً ضد صوت واحد؟ ما هي المقايضة التي جرت بين القيادة الفلسطينية والقيادة الاسرائيلية التي أدت الى إهمال هذه الفتوى القانونية؟ هل تدرك القيادة الفلسطينية ان محكمة العدل الدولية أقرّت بحق الفلسطينيين بالتعويض عن الاضرار التي لحقت بهم بسبب بناء الجدار، وانشأت الامم المتحدة بسبب ذلك هيئة خاصة لحصر الاضرار. فماذا فعلت القيادة من جانبها؟!.

اما ما قاله رموز القيادة الفلسطينية من تبريرات في سحب قرار النظر في تقرير غولدستون او ارجاء النظر فيه، فهي اعذار اقبح من مسلسل الذنوب التي ارتكبت. قالوا وليتهم ما قالوا ان فلسطين ليست عضواً في مجلس حقوق الانسان وبالتالي ليست فلسطين هي التي اتخذت القرار بل بعض الدول العربية وروسيا والصين وامريكا. هذه مقولة فاسدة ولا تستقيم والتجارب التي تؤكد من انه جرى العمل ديبلوماسياً- ان لا يتم طرح مشروع قرار او التصويت على قرار في اي محفل دولي او اقليمي ويتعلق بفلسطين الاّ بالتنسيق ما بين المجموعة العربية ودول عدم الانحياز ومنظمة المؤتمر الاسلامي ودول الوحدة الافريقية والدول الاخرى من امريكا اللاتينية من جانب، والممثل الفلسطيني من جانب اخر. وجرى العمل على ذلك منذ قبول منظمة التحرير الفلسطينية مراقباً في الامم المتحدة في مطلع السبعينيات. ولذلك، فان ما يردده ممثلو القيادة الفلسطينية فيه استهتار بشع بذكاء الناس ومعلوماتهم.

يضاف الى ذلك ان الصحف العبرية (ها آرتس) قد صدرت صباح الجمعة بتاريخ 2/10، بعنوان ان القيادة الفلسطينية قررت (في 1/10) ان تسحب مشروع القرار الذي يدين اسرائيل. ولذلك لم تكن هناك مفاجآت او اضطراب في اتخاذ القرار، بل ان المصادر الاسرائيلية كانت على علم مسبق قبل انعقاد مجلس حقوق الانسان بالقرار الفلسطيني.

ثم يلحظ التسابق بين بعض قادة منظمة التحرير الذين بدأوا يتبرأون من القرار، في محاولة بائسة لغسل اليدين من 'دم يوسف'. ولا يشفع التسابق بين هؤلاء للتطهير الذاتي ذلك انهم شركاء في هذا النهج الذي سارت عليه القيادة في تبديد مصادرها وثرواتها المحدودة وعدم الاستفادة مما تيّسر لها من عناصر قوة. والاّ كيف يستساغ ان تعلم القيادة بأن يقوم عضو في اللجنة التنفيذية علناً بتوقيع الملحق الامني في مبادرة جنيف (وهو ملحق يقع في 400 صفحة) وهو أشدّ ضرراً من الملاحق الامنية في اتفاقيات اوسلو، في نفس الفترة الزمنية التي كان العالم ينتظر عرض تقرير غولدستون على مجلس حقوق الانسان ولا تعلم بقرار بالتأجيل؟

ثم قال بعض هؤلاء الرموز ان القيادة الفلسطينية تعرضت لضغوط شديدة من قبل اسرائيل والولايات المتحدة الامريكية. وهذا عذر فيه فجاجة مقيتة، ذلك ان الطرف المضغوط عليه عادة يرضخ للضغط خشية من ضياع فوائد أو مكاسب معينة، أما بالنسبة للوضع الفلسطيني فما هي الفوائد والمكاسب التي تخشى القيادة ضياعها؟ هل تخشى القيادة ان تقوم اسرائيل باحتلال الضفة الغربية وغزة؟ أم هل تخشى ان تزيد اسرائيل من عدد الحواجز؟ أم تخشى من تشديد الحصار؟! ليس لدى الفلسطيني ما يخشى من ضياعه اللهم الاّ خشية اصحاب ترخيص الهاتف النقّال من سحب تراخيصهم!!!

ان هذا الفصل الأخير لمسار القيادة الفلسطينية ومنهجها يدلل على مستوى السفاهة التي انحدرت اليها القيادة، وهي سفاهة تجرح كل التضحيات والدماء وقوافل الشهداء وسفاهة تدنّس قدسية هذه القضية، وعلى هذه القيادة ان تنزل عن المكان الذي جلست عليه باختيارها قبل ان يقيّض لها الله منتظر زيدي واحد أو أكثر. والله لا ينسى من فضله أحداً!!

 

' رجل قانون وأحد مؤسسي منظمة التحرير الفلسطينية