خبر القضية الفلسطينية وطريق التنازلات .. منير شفيق

الساعة 10:15 ص|04 أكتوبر 2009

القضية الفلسطينية وطريق التنازلات

 

منير شفيق ـ الجزيرة نت 3/10/2009

ليس ثمّة من قضيّة أشدّ وضوحاً من القضيّة الفلسطينيّة في ما يتعلق بأصولها ونشأتها وتطورّها وما تحمله من حقوق وثوابت فلسطينيّة وعربيّة وإسلاميّة.

وليس هنالك من مشروع أشدّ وضوحاً من المشروع الصهيوني من حيث أصوله ونشأته وتطورّه، وما يتسّم به من احتلال خارجي لأرض شعب آخر واغتصابها، بالقوّة والمجازر. وفرض دولة كيانه عليها، وبدعم دولي سياسي وعسكري لا مثيل له.

فلا أحد من الفلسطينيين والعرب والمسلمين ولا من مؤيّدي الكيان الصهيوني يمكنه أن يخالف بالحقائق التاريخيّة التي تأسّست عليها الحركة الصهيونية والإستراتيجيّة البريطانية الغربية، ولا في المسار الذي اتخذته عملية زرع الكيان الصهيوني في فلسطين. وذلك منذ أوّل يوم بدأت فيه الهجرة وإقامة المستعمرات أو المستوطنات وصولاً إلى قيام الدولة في العام 1948. ثمّ ما تلا ذلك من أحداث.

فالقضيّة الفلسطينيّة من منتجات المرحلة الاستعمارية بلا جدال، كما أخذت تجليّاتها الأخيرة في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وفي ظل الحرب الباردة وصولاً إلى يومنا هذا.

ومن هنا فإن القانون الدولي، وليس القرارات الدولية ابتداء من القرار 181 لعام 1947، يُعطي حق تقرير المصير، كما هو الحال بالنسبة إلى شعوب المستعمرات كافة، للشعب الفلسطيني الذي كان على الأرض لحظة وقوع الاحتلال الاستعماري. وهو حق حصري لا يعترف بأي تغيير أحدثه الاستعمار في أثناء ولايته سواء أكان سكانياً بزرع مستوطنين أجانب أم تهجير للسكان الأصليين أم كان جغرافياً مثل تقسيم البلد مثلاً.

ولهذا لا يُعتبَر قرار التقسيم الذي صدر في العام 1947 عن هيئة الأمم، قراراً شرعياً، أو قانونياً، من وجهة نظر القانون الدولي، أو ميثاق هيئة الأمم المتحدة نفسها، إذ ليس من حق أحد أو أية دولة أو هيئة دولية أن تقرّر مصير شعب من شعوب المستعمرات أو بلد بعينه من بلدان المستعمرات. لأن هذا الحق هو لذلك الشعب وحده من زاوية وجهة نظر القانون الدولي، وميثاق هيئة الأمم المتحدة. فقرار التقسيم الذي قامت، بالاستناد إليه، دولة الكيان الصهيوني التي أسمت نفسها "دولة إسرائيل" قرار باطل.

طبعاً لا يقوم باطل إقامة دولة الكيان الصهيوني على أساس القانون الدولي وميثاق هيئة الأمم المتحدة فحسب، وإنما أيضاً، وحتى قبل ذلك، على جملة من الحقوق والثوابت الفلسطينيّة والعربيّة والإسلاميّة في فلسطين.

ومن هنا ليس ثمّة من قضيّة أشد وضوحاً من القضيّة الفلسطينيّة، وليس هنالك من زرع كيان على أرض الغير، بالقوّة الاستعمارية، أشدّ وضوحاً من حالة المشروع الصهيوني ودولته. وهو ما لا يسمح لأحد بأن يجادل في أساسات القضيّة الفلسطينيّة إلاّ من خلال اعتبارات لا علاقة لها بالتاريخ والوقائع، أو الحق والباطل، من وجهة نظر القانون الدولي وميثاق هيئة الأمم، أو وجهة نظر أية مرجعية مُعتبَرة في تقرير ما هو حق وما هو باطل في ما يتعلق بحقوق الشعوب أو الحقوق والثوابت بالقضيّة الفلسطينيّة.

فالقرارات الدولية ابتداء من قرار 181 لعام 1947 سواء أكانت تلك الصادرة عن مجلس الأمن، أم الجمعية العمومية، أم أية مجموعة من الدول الكبرى، أم الهيئات الدولية، وصولاً إلى الجامعة العربيّة ومنظمة مؤتمر الدول الإسلاميّة لا يمكنها إعطاء شرعية لدولة الكيان الصهيوني وتهجير الشعب الفلسطيني من أرضه، أو فرض الحلول والتسويات على القضيّة الفلسطينيّة.

صحيح أن القانون الدولي وميثاق هيئة الأمم المتحدة وكل الأعراف الدولية المُعتَبَرة يَحصر كل الحق في تقرير مصير فلسطين بالشعب الفلسطيني وحده، مما يترتب عليه، من خلال إرادته الحرّة، حق التنازل أو عدم التنازل كلياً أو جزئياً في إعطاء شرعية لدولة الكيان الصهيوني.

فالشعب الفلسطيني وحده الذي يمكن أن يعطي شرعية لتلك الدولة، وهو ما لا تمنحها إيّاه كل القرارات الدولية أو الاعترافات الدبلوماسية، بما فيها الإسلاميّة أو العربيّة. ولهذا تدور الآن كل الضغوط من أجل انتزاع الاعتراف الفلسطيني بشرعية تلك الدولة الفاقدة للشرعية. وهو ما يفسّر لماذا تصرّ قيادات الكيان الصهيوني على اعتراف فلسطيني بيهودية الدولة. أي باعتبارها دولة لليهود، ولا يكتفون بما يتمتعون به من اعتراف دولي أو حتى عربي بـ"دولة إسرائيل".

هذا من زاوية القانون الدولي وميثاق هيئة الأمم المتحدة والأعراف الدولية. ولكن هذا الحق من زاوية وجهة النظر الإسلاميّة والعروبيّة والمستقبليّة الفلسطينيّة لا يملكه جيل بعينه من أجيال الشعب الفلسطيني إذ ليس من حقه التنازل عن حقوق وثوابت فلسطينيّة تخصّ الأجيال القادمة كما ليس من حقه التنازل عن حقوق وثوابت عربيّة وإسلاميّة في فلسطين. وهو ما يجب أن يدركه هذا الجيل الفلسطيني ويكون مؤتمناً عليه وإلاّ ارتكب جريمة بحق نفسه وأرضه وأجياله القادمة، كما بحق أمته العربيّة والإسلاميّة.

والمسألة هنا لا تقتصر على مجرّد الحقوق فحسب، وإنما أيضاً، ستكون لها أبعاد كارثيّة على حال الفلسطينيين والعرب والمسلمين راهناً ومستقبلاً. لأن تداعيات الاعتراف الفلسطيني بالكيان الصهيوني اليهودي ستولّد وقائع ومتغيّرات باتجاه المزيد من التجزيء والتفكيك والانحلال في الجسم الفلسطيني والعربي والإسلامي أو حتى العالم الثالث. وذلك إذا ما اتخذ هذا الاعتراف مُدخلاً لضرب كل مقاومة وممانعة، ومُخرجاً لتفشي النفوذ الصهيوني أضعاف ما هو عليه الآن.

ومن هنا فإن المسؤولية الملقاة على عاتق هذا الجيل من الشعب الفلسطيني هي الأخطر في تاريخ القضيّة الفلسطينيّة. وقد وصلت الأمور إلى حدّ البحث في الحلول الدائمة والنهائية تحت عنوان الحل التصفوي الذي يحمل اسم "حلّ الدولتين". فالمفاوض الفلسطيني الذي قبِلَ على نفسه أن يهبط إلى هذا الدرك، وفي ظروف نظام عربي بلغ حدّاً من التنازلات والهزال وحتى التواطؤ غير مسبوق، راح يدعمهُ ويشجعه ليكون مخلب القط في تلك التسوية، أصبح (هذا المفاوض الفلسطيني) الأخطر على القضيّة لأنه يريد، ويُراد له، أن يحلّ مكان الشعب الفلسطيني في ممارسة حق تقرير مصير فلسطين.

وبدهي أن هذا المفاوض إذا ما فعل ما يُراد له أن يفعل، وصل إلى التسوية التي يرعاها، في هذه المرحلة، أوباما ميتشل يكون المشروع الصهيوني والإستراتيجيات الدولية التي رعتها الدول الكبرى قد حققا ما لم يحققاه منذ مائة عام. وهو انتزاع الاعتراف الفلسطيني بدولة الكيان الصهيوني ليس اعترافا موارباً بدأ بالالتزام بالقرارات الدولية ومشروع النقاط العشر وإعلان الدولة الفلسطينيّة (1988) ومروراً باتفاق أوسلو وتداعياته حتى خريطة الطريق ومفاوضات أنابوليس وإنما اعتراف "كامل الأوصاف".

هذا المفاوض مطعون بشرعيته فلسطينياً، وهو لا يملك حق التنازل عن أي ثابت من ثوابت القضيّة الفلسطينيّة، وابتداء الاعتراف بحق الوجود للكيان الصهيوني في فلسطين ولو في حدود قرار التقسيم رقم 181 لعام 1947. ولكن مع ذلك تقرّر فرضه دولياً ومن خلال الجامعة العربيّة ليقوم بمهمّة تصفية القضيّة الفلسطينيّة. ومن ثمّ سوف يُسْعى لإجراء استفتاء تحوطه شبهات التزوير لما يمكن أن يُعلَن من اتفاق حول "حلّ الدولتين".

المأساة في ما يجري من مفاوضات مباشرة وغير مباشرة يرعاها أوباما ميتشل تتمثل في اعتراف المفاوض الفلسطيني، ومن يدعمه عربياً، بالقول إن العائق الذي يقف أمام التسوية ويحول دون إنجازها هو تعنّت نتنياهو وزيادة مطالبه التي راحت تتعدّى السقف الأميركي (المنحاز كلياً للمشروع الصهيوني). أما هو (المفاوض الفلسطيني ومن يدعمه من حكومات عربيّة) فضمن السقف الذي وضعه أوباما ميتشل أو سيَضعانه للتسوية. فالكرة الآن هي في ملعب ميتشل نتنياهو. وهذا ما جعل رهان بعض معارضي التسوية من فصائل م ت ف يعود إلى المربّع إيّاه: وهو الرهان على "وطنية" نتنياهو.

ولكن هذا الرهان على وجاهته، كما أثبتت التجربة حتى الآن، لا يجوز الركون إليه ما دام موقف المفاوض الفلسطيني (محمود عباس) مع الموقف المصري يهبط درجة مع كل زيارة من زيارات ميتشل، مثلاً هبط إلى الاستعداد ببدء خطوات تطبيعية مع تقدّم المفاوضات، إذا ما توّقف النمّو الاستيطاني بالكامل. ثم هبط درجة أخرى بقبول اللقاء الثلاثي في قمة واشنطن الأخيرة مع استمرار النموّ الإستيطاني، وهذه القمّة تتضمن، عملياً، الدخول في مفاوضات، مهما أُعطيت من أسماء ومسوّغات، ثم انبثق عنها إجراء لقاءات أخرى في واشنطن ابتداء من الشهر القادم (أكتوبر/تشرين الأول). أي انطلقت المفاوضات، مع استمرار الاستيطان واستثناء القدس مما حدّ نتنياهو منه في الضفة الغربية.

الأمر الذي يفرض الحذر من الرهان على "وطنية" نتنياهو مع القرار الفلسطيني العربي بضرورة تشجيع أوباما ودعمه. لأن كلمتيْ تشجيع ودعم هنا تعنيان تقديم تنازلات لأوباما. وهو ما راح نتنياهو يراهن عليه بدوره. وهذا ما يمكن أن يسّمى الرهان على "مرونة" المفاوض الفلسطيني المصري لتشجيع أوباما ودعمه.

هذه "المرونة" هي التي تضع الحَبَّ في طاحونة نتنياهو وأوباما لطلب المزيد من التنازلات الفلسطينية والعربيّة. بل تتحمّل أيضاً مسؤولية في ما يجري من تمادٍ استيطاني وتهويدي في القدس وانتهاكات لحرمة المسجد الأقصى.