خبر خطوة أخرى في العلاقات السورية ـ التركية .. د. بشير موسى نافع

الساعة 08:23 م|24 سبتمبر 2009

خطوة أخرى في العلاقات السورية ـ التركية

 

د. بشير موسى نافع ـ القدس العربي 24/9/2009

استقبلت اسطنبول العدالة والتنمية الرئيس السوري استقبالاً حافلاً في حفل الإفطار الرمضاني الذي دعي إليه في العاصمة العثمانية السابقة. وبالرغم من أن الأسد ضيف مرحب به دائماً في تركيا، منذ أخذت العلاقات السورية التركية منحى التعاون والصداقة في 2004، إلا أن الواضح في حفل الإفطار أن دائرة المرحبين بالرئيس السوري تتسع، وأن ثمة إجماعاً ينمو في الدوائر السياسية والاقتصادية التركية على أن العلاقة بين البلدين باتت بالفعل علاقة استراتيجية.

اجتمع في قاعة الإفطار أكثر من ثلاثة آلاف من الشخصيات التركية، في مقدمتهم رئيس الحكومة الطيب رجب إردوغان، الذي ألقى خطاباً ترحيبياً كبيراً، لم يذكر فيه بالتطورات المتسارعة على صعيد العلاقات بين البلدين وحسب، ولكنه استعاد أيضاً التاريخ المشترك الطويل للبلدين والشعبين. في رده، ألقى الأسد كلمة مطولة، مشيراً إلى ما تم إنجازه وإلى الصعوبات المتوقعة في مسار العلاقات؛ كما أكد على ثقة دمشق بالدور الذي تقوم به أنقرة على صعيد المباحثات السورية الإسرائيلية المتوقفة.

كانت أجواء لقاء الإفطار أقرب إلى الاحتفالية بلا شك، ولكن أحداً لا ينبغي أن يغفل دلالتها في منطقة تفتقد أي مستوى من الاحتفال في العلاقات الثنائية بين بلدانها. سورية نفسها تعيش هذه الدرجة أو تلك من القلق في علاقاتها بجوارها العربي، وهذه ربما احد الدوافع والمسوغات للتقدم الكبير في العلاقات السورية التركية. ولكن بالرغم من الشكوك التي تحيط بالمشروع السوري التركي، فإن ما نشهده يحمل إمكانات هائلة للبلدين وللمنطقة ككل. الخطوة التي أثارت التعليقات في زيارة بشار الأسد لاسطنبول لم تكن، بالطبع، احتفال الإفطار الرمضاني الكبير، بل التوقيع على اتفاقين رئيسيين: الأول، ويتعلق بفتح حدود البلدين للحركة والسفر بلا سمة دخول، وهي المرة الأولى التي تتوفر فيها حرية الحركة بين سورية وتركيا منذ انهيار السلطنة العثمانية وولادة سورية وتركيا الحديثتين. أما الثاني فقد أقر تشكيل مجلس التعاون الاستراتيجي، بعضوية الوزراء أصحاب الشأن في توطيد عرى التعاون بين البلدين، ورئاسة رئيسي الوزراء السوري والتركي. أفق التعاون الذي تطرق إليه مسؤولو البلدين لا يتعلق بالتجارة والاقتصاد وحسب، بل وامدادات الطاقة والصناعة والتعليم والفنون. إضافة إلى التنسيق السياسي عالي المستوى، يبدو ما تطرحه الخطوة الجديدة في العلاقات السورية التركية أفقاً بلا حدود. فكيف ولماذا تمضي أنقرة ودمشق في هذا الطريق، وهل هي طريق بلا عودة، أو أننا إزاء حلقة أخرى من مواسم التعاون التباعد في علاقات دول المشرق؟

ثمة عدد من العوامل التي يمكن أن يشار إليها في خلفية العلاقات السورية التركية. هناك أولاً الأزمة الطاحنة التي تعرض لها الإقليم العربي الإسلامي منذ 2001، لاسيما منذ غزو العراق واحتلاله. عارضت دمشق مشروع الغزو، وسرعان ما فوجئت واشنطن بحجم المقاومة العراقية والغضب العربي؛ وأصبحت سورية، هذا إن لم تكن من قبل، محل استهداف أمريكي، خاصة بعد اغتيال الرئيس الحريري وخروج القوات السورية من لبنان. كان المحور العربي الثلاثي، الذي ضم سورية ومصر والسعودية، قد انهار على خلفية من الاختلاف حول غزو العراق، ولأسباب أخرى، ولم يغب عن دمشق أن التحالف مع طهران يوفر جزءاً من مظلة حماية ولكنه لا يعزز الدور السوري الإقليمي. في الوقت نفسه، كانت تركيا تدخل حكم العدالة والتنمية، مفتتحة الحقبة الجديدة بتصويت البرلمان ضد السماح للقوات الأمريكية باستخدام الأراضي التركية لغزو العراق. من وجهة نظر دمشق، كانت تركيا خياراً مناسباً بلا شك، وهذا ما ينبغي تذكره، أن دمشق وليس أنقرة هي التي بادرت إلى تطوير العلاقات الثنائية، ولأسباب سورية أولاً وتركية ثانياً، لأن أنقرة كانت هي الأخرى تسعى لتحسين المناخ الإقليمي، ومناخ العلاقات مع دول الجوار على وجه الخصوص. ولكن سياسة الانفتاح التركية على الجوار والتوجه المشرقي، على أية حال، لم تأخذ طابعاً استراتيجياً ومؤسسياً إلا بعد أن تعزز وضع أحمد داوود أوغلو، مستشار رئيس الوزراء السابق ووزير الخارجية الحالي.

الهدف الذي بدا مرحلياً في مطلع الاتصالات أخذ طابعاً أكثر جدية بعد ذلك، سيما أن المتراكم في الطريق بين العاصمتين كان ثقيلاً. ما احتاجته العلاقات أولاً كان تأسيس الثقة بين القيادات السياسية؛ وهذه سرعان ما تحققت من خلال العلاقة الشخصية الوثيقة التي ربطت بين إردوغان والأسد. وعلى أرضية من الثقة تم الاتفاق على التعامل مع ملف المتضررين من أبناء البلدين، والتعويضات التي يستحقونها، بعد أن تسببت السياسة والانقسام ما بعد العثماني في خسارة الكثير من الأتراك والسوريين لأراضيهم وممتلكاتهم في البلد الآخر. كلا البلدين كان يبحث عن فرص اقتصادية جديدة، وقد أدى إنشاء منطقة التجارة الحدودية الحرة إلى ازدهار اقتصادي غير مسبوق على جانبي الحدود المنسية. وقبل شهور قليلة، خاضت الحكومة التركية معركة برلمانية رئيسية عندما سنت قانوناً لتطهير الجانب التركي من الحدود من حقل الألغام الهائل الذي يعود إلى سنوات الخمسينات واحتلال تركيا دور المواجهة في حلف الناتو. وليس ثمة شك أن الدور الذي لعبته تركيا في استضافة وإدارة المفاوضات غير المباشرة بين سورية والدولة العبرية، وهو الدور الذي اقترحته سورية أصلاً، قد عزز من ثقة دمشق بمصداقية الدور التركي. خلال الشهور القليلة الماضية، اتفقت العاصمتان على تأسيس مجلس للتعاون الاستراتيجي، ولكن أحداً لم يتوقع أن يتم تفعيل الاتفاق بهذه السرعة. ومن الواضح أن تسارع خطوات التعاون دليل على أن كلتا العاصمتين مطمئنة إلى أن ما أنجز حتى الآن كان بالتأكيد لصالح البلدين وشعبيهما.

على المستوى التجاري، على الأقل، يميل الميزان بوضوح لصالح تركيا. ولكن القول بأن ليس لدى سورية ما تقدمه لعلاقات تحالف متكافئة غير صحيح تماماً. الميزان التجاري يميل لصالح تركيا حتى في علاقاتها الاقتصادية مع دول مثل مصر والسعودية وإيران. حجم تركيا وحجم اقتصادها أكبر بكثير من حجم سورية واقتصادها؛ والاقتصاد التركي يحتل موقع الدولة السابعة عشرة في العالم من حيث الناتج القومي. ولكن السوريين يتاجرون مع كل العالم، ومن الأولى أن تميل تجارتهم لصالح تركيا من أن تميل لصالح أمريكا أو فرنسا أو الصين. ولدى سورية ما تقدمه أيضاً، سواء على مستوى الصناعات التحويلية والمنتجات الزراعية، أو على مستوى خطوط أنابيب النفط والغاز، التي باتت تركيا مصباً رئيسياً لإمداداتها الأوروبية.

بالنسبة لتركيا، وبالنظر إلى أن اضطراب الوضع العراقي مرشح للاستمرار لسنوات طويلة قادمة، سورية هي بوابة المشرق العربي، اقتصادياً وثقافياً، وبدون سورية لن تستطيع تركيا بناء علاقات وثيقة واستراتيجية مع جوارها العربي.

والأهم بالتأكيد هو السياسي؛ فسورية لاعب رئيسي في سياسات المنطقة، ومثل هذا الدور لا يمكن أن يقدر بثمن. ثمة من يجادل بأن ليست هناك دولة في العالم لا تعمل على توسيع دائرة تأثيرها ونفوذها، وأن هذا التوجه يقع في القلب من بنية الدولة الحديثة، أية دولة حديثة، وتركيا لن تكون استثناء.

وهذه المقولة هي في جوهرها صحيحة، ولكن الصحيح أيضاً أنه بالرغم من حنين الأتراك (كما الكثير من العرب) للماضي العثماني الإمبراطوري، فإن الأتراك يدركون أيضاً أن ليس من تاريخ يمكن استعادته، وأن أقصى ما يمكن الطموح إليه أن يعاد بناء علاقات التعاون والثقة في الفضاء العثماني التاريخي، بدون سلطنة. مثل هذا الخيار لا يمكن أن يرفض عربياً؛ أما مساعي الهيمنة فلا تتحقق بدون فراغ، والحرص على أن تسد مواطن الفراغ هو مسؤولية عربية، أولاً وقبل كل شيء.

في خطابه أمام المجتمعين في حفل إفطار اسطنبول، أكد بشار الأسد على أن منطقة المشرق العربي الإسلامي تعيش قدراً كبيراً من الاضطرابات والمشاكل، وعلى أن مصلحة شعوب المنطقة ودولها أن تعالج هذه المشاكل من قبل أبنائها أنفسهم، وليس من خلال التدخلات الخارجية، التي عادة ما تزيد الأوضاع تفاقماً.

ولعل وجهة النظر هذه تقع في أصل التقارب الحالي بين سورية وتركيا. فقد بات معروفاً الآن أن سياسة العدالة والتنمية الخارجية تسعى إلى تصفية مشاكل تركيا مع محيطها، وأنها تعمل على تعزيز علاقاتها المشرقية، وأن لا تبقى أسيرة فكرة انضمامها إلى الوحدة الأوروبية. ولكن الإطار المرجعي لكل هذه السياسات هو اقتناع أنقرة العدالة والتنمية أن بإمكان شعوب ودول المنطقة التعامل مع، ووضع نهاية لأغلب مصادر الاضطراب والنزاعات الإقليمية.

على أن العلاقات السورية التركية لم تصل في تقدمها بعد إلى نقطة اللاعودة. في هذا المشرق العجيب، مشرق نظام ما بعد الحرب العالمية الأولى، لم تزل قوى التشظي والصراع حية تنشط، سواء تلك النابعة من التدخلات الخارجية، المخاوف الداخلية المتراكمة، أو انقسام الهويات على بعضها البعض. والعلاقات السورية ـ التركية لم تصل حتى إلى ما يقارب الوحدة المصرية ـ السورية، التي أطاح بها انقلاب عسكري فج وغير شرعي، واستحال منذ ذلك الوقت إعادة بنائها. ما للسوريين والأتراك أن يأملوا أن تكون خلف هذه الخطوات خيارات عقلانية وإرادة سياسية ثابتة وصلبة، وأن تسعصي الخيارات والارادة معاً على التدخلات الخارجية.