خبر جوهر الفرضيات الإسرائيلية في اتفاق أوسلو ..انطوان شلحت

الساعة 10:25 ص|23 سبتمبر 2009

جوهر الفرضيات الإسرائيلية في اتفاق أوسلو

انطوان شلحت

 

ـ النهار اللبنانية 23/9/2009

اعترف الوزير وعضو الكنيست الإسرائيلية السابق يوسي بيلين، والذي كان بمنزلة المهندس الرئيسي لاتفاق أوسلو بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية، في سياق مقابلة أدلى بها لإذاعة الجيش الإسرائيلي اخيراً، أن هذا الاتفاق، الذي جرى التوقيع عليه قبل ستة عشر عامًا، وتحديدًا في 13 أيلول 1993، غيّر مجرى التاريخ في منطقة الشرق الأوسط برمتها، وأتاح إمكان عقد اتفاقية السلام مع الأردن، وأوجد عنوانًا جديدًا لتمثيل الشعب الفلسطيني [السلطة الوطنية الفلسطينية]، وأدى إلى ازدهار اقتصادي غير مسبوق في إسرائيل، وحسّن صورة الدولة العبرية داخل نادي الأسرة الدولية، وفتح أمامها مجالاً كبيراً لإقامة علاقات ديبلوماسية مع دول كثيرة بما فيها دول عربية، وأدى إلى نشوء خريطة سياسية - حزبية جديدة في إسرائيل [من أبرز مظاهرها تعزّز تيار الوسط]، غير أنه على الرغم من ذلك كله أخفق في تحقيق غايته الأصلية، وهي إحراز سلام إسرائيلي - فلسطيني دائم.

بيد أن اعتراف بيلين الأهم في المقابلة نفسها يبقى من نصيب حقيقة أخرى ليست غائبة عن الأذهان، هي توكيده أن اتفاق أوسلو لم يكن اتفاقية سلام إسرائيلية - فلسطينية على الإطلاق، وإنما مجرّد اتفاق مبادئ عامة تتعلق بهذا السلام الدائم، وذلك في إثر بدء أول مفاوضات غير مباشرة بين الجانبين استمرت أقل من سبعة أشهر [في إطار مفاوضات مؤتمر مدريد للسلام الذي عقد في خريف 1991] من دون أن تسفر عن أي نتائج حقيقية، وكان الهدف الأساسي منه، على الأقل من وجهة نظر إسرائيل، هو إجراء محادثات مباشرة من وراء الكواليس، كي يكون في إمكان عملية مدريد أن تستمر بعد أن وصلت إلى ما يشبه الطريق المسدود.

إن هذا الاعتراف يعني، في أقل تعديل، أن إحراز السلام الدائم ظلّ رهن المحادثات، التي استمرت عقب أوسلو، والتي لا تزال حتى الآن عالقة وعاجزة عن تحقيق اختراق حقيقي تترتب عليه نتائج قوية تؤسّس لهذا السلام.

ومع أهمية هذا الاعتراف، الذي لا يمكن إغفال صحتـه، فإن هناك اعترافًا آخر لا يقل أهمية انطوت تصريحات بيلين عليه، ويحيل إلى "الظروف الخاصة"، التي مهّدت لأول اتفاق مباشر بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية. مهما تكن هذه الظروف فلا بُدّ من أن نشير إلى سعي رئيس الحكومة الإسرائيلية في ذلك الوقت، استحق رابين، إلى أن ينجز تفاهمات مع السوريين والفلسطينيين، من شأنها أن تضمن تحييدهمـا في سياق المواجهة مع العراق وإيران، عبر الاستفادة القصوى من انهيار الاتحاد السوفياتي وانفراد الولايات المتحدة بزعامة الحلبة الدولية، ومن عزلة منظمة التحرير الفلسطينية ورئيسها ياسر عرفات في ضوء تأييدهما نظام صدام حسين خلال حرب الخليج الأولى في عام 1991.

وفضلاً عن ذلك يلمّح بيلين إلى أن المظاهر الاحتفالية، التي رافقت التوقيع على اتفاق أوسلو، في حدائق البيت الأبيض الأميركي، كوّنت انطباعًا وهميًا قويًا بأنه اتفاقية سلام، بينما لم يكن أكثر من خطوة أولى بسيطة للغاية على طريق التوصل إلى اتفاقية كهذه.

في واقع الأمر فإن وجهة النظر الإسرائيلية إزاء اتفاق أوسلو ومسارات العملية السياسية التي أطلقها كانت محكومة بفرضيات كثيرة ترتبط، أكثر من أي شيء آخر، بدفع المصالح الإسرائيلية الإقليمية والعالمية قدمًا. وقد بدأت ملامحها تتضح، رويدًا رويدًا، مع كل جولة مفاوضات بين الجانبين جرت في وقت لاحق، بدءًا من مفاوضات القاهرة في إثر عملية أوسلو مباشرة، وانتهاءً بآخر جولة مفاوضات عُقدت بين الحكومة الإسرائيلية السابقة برئاسة إيهود أولمرت [أنهت ولايتها في 31 آذا 2009] والسلطة الوطنية الفلسطينية برئاسة محمود عباس، والتي انطلقت في إثر مؤتمر أنابوليس المنعقد في تشرين الثاني 2007، وتوقفت في أواخر عام 2008 بالتزامن مع شنّ الحرب الإسرائيلية على غزة.

ويمكن أن نستقطر من هذه الفرضيات الكثيرة فرضيتين اثنتين تبدوان في حكم الأبرز، وذلك استنادًا إلى رصد عمودي لمختلف التصريحات والتحليلات الإسرائيلية المتعلقة بسيرورة المفاوضات الإسرائيلية - الفلسطينية، منذ اتفاق أوسلو وصولاً إلى الآن:

الفرضية الأولى - أن السلطة الوطنية الفلسطينية، التي أصبحت العنوان الجديد لتمثيل الشعب العربي الفلسطيني في عُرف إسرائيل، ستعمل على تطبيق حق تقرير المصير لهذا الشعب بواسطة إقامة دولة فلسطينية في المناطق التي احتلتها إسرائيل إبان حرب حزيران 1967، أي الضفة الغربية وقطاع غزة.

الفرضية الثانية - أن السلطة الفلسطينية ستتطلع إلى تلك الغاية في نطاق الاستعداد للتوصل إلى تسوية تاريخية، تشمل تسوية جغرافية، مع دولة إسرائيل والحركة الصهيونية.

ولا شكّ في أن مصطلح "تسوية تاريخية - جغرافية" هو مصطلح بلا ضفاف وإشكاليّ للغاية، لكن يمكن القول إن العناصر، التي تشتمل عليها تسوية من هذا القبيل تعتبر موضع إجماع واسع من وجهة النظر الإسرائيلية، تتمثل في ما يلي: إقامة دولة فلسطينية على مناطق تعادل نسبة 22 في المئة من مساحة فلسطين الانتدابية؛ تقسيم شرق القدس؛ تسوية خاصة لما يسمى بـ "منطقة الحوض المقدّس" في البلدة القديمة من القدس؛ حل قضية اللاجئين الفلسطينيين بمنأى عن حق العودة. ويؤكد بيلين أن مثل هذه التسوية كانت مدرجة في جدول الأعمال الإسرائيلي منذ اتفاق أوسلو.

إن ما نعنيه بقولنا إن مصطلح "تسوية تاريخية - جغرافية" إشكاليّ للغاية، هو أن التسوية السالفة التي تبدو، في الظاهر، مقبولة إسرائيليًا ليست مقبولة فلسطينيًا قطّ، وهذا ما أثبتته، على الأقل، جولتان من المفاوضات اعتبرتا حاسمتين: الأولى في "كمب ديفيد" في صيف 2000، والتي أدى فشلها إلى اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية، والثانية جولة المفاوضات التي أعقبت مؤتمر أنابوليس.

وكنت قد توقفت، في مناسبة سابقة، عند الرواية، التي تداولها الإعلام الإسرائيلي بشأن عناصر "الاتفاق الدائم" المتعلقة بالقضايا الجوهرية للصراع [الحدود والقدس واللاجئون]، والتي عرضها أولمرت على عباس خلال المفاوضات بينهما عندما شارفت ولاية الأول على الانتهاء.

وفي 22 حزيران 2009 عرض أولمرت بلسانه هذه العناصر، في سياق مقابلة أدلى بها لصحيفة "نيوزويك" الأميركية، موضحًا أنها شملت ما يلي:

- استعداد إسرائيل للانسحاب من 93.5 - 93.7 في المئة من أراضي الضفة الغربية وتسليمها إلى السلطة الفلسطينية [وضم المنطقة المتبقية إلى إسرائيل]. بالإضافة إلى ذلك يحصل الفلسطينيون على نسبة 5.8 في المئة من الأراضي في إطار ما يسمى بـ "تبادل المناطق".

- يحصل الفلسطينيون على "ممر آمن" بين الضفة الغربية وقطاع غزة. وقد تجنب أولمرت الحديث عن مسألة السيادة والسيطرة على هذا الممر.

- ترفض إسرائيل مبدأ حق العودة أساسًا لحل قضية اللاجئين الفلسطينيين. ومع ذلك فهي تبدي استعدادها، في إطار تقديم "مبادرة حسن نية إنسانية"، لعودة عدد من اللاجئين [إلى تخوم إسرائيل]. ولم يدل أولمرت بأي تفصيلات تتعلق بهذا العدد، لكنه حرص على تأكيد أنه عدد محدود للغاية (very very limited number).

- في ما يتعلق بموضوع القدس عرض أولمرت أن لا تخضع منطقة "الحوض المقدّس" لسيادة أي من الجانبين، وأن تُدار بصورة مشتركة من طرف إسرائيل والأردن والفلسطينيين والسعودية والولايات المتحدة.

ورأى ألوف بن، المحلل السياسي لصحيفة "هآرتس" الإسرائيلية، أن اقتراح أولمرت الداعي إلى "تدويل الحوض المقدّس" في القدس القديمة غير مسبوق، من ناحية إسرائيل، لأنه يعني التنازل عن السيادة الإسرائيلية "على حائط المبكى [البراق] والحرم القدسي الشريف وكنيسة القيامة وجبل الزيتون وربما مدينة داود [سلوان]، ولم يسبق أن أبدى أي زعيم إسرائيلي، قبله، استعدادًا لتدويل القدس أو جزء منها. وحتى في مبادرة جنيف، التي توصل إليها يوسي بيلين من الجانب الإسرائيلي، لم يتم الحديث على تسليمها إلى هيئة دولية وإنما على تقاسم السيادة عليها بين إسرائيل والدولة الفلسطينية" التي ستقوم (صحيفة "هآرتس"، 26/6/2009).

وفي الوقت الحالي ثمة اقتناع إسرائيلي كبير بأن رفض الجانب الفلسطيني اقتراح أولمرت يعني أنه غير معني بـ"تسوية تاريخية - جغرافية" مع إسرائيل، ما يسقط فرضية مهمة، إن لم تكن الأهم، من الفرضيات التي وقفت وراء اتفاق أوسلو.

ويرى البروفسور زكي شالوم، أحد كبار الباحثين في "معهد دراسات الأمن القومي" في جامعة تل أبيب، أن الرفض الفلسطيني لاقتراح أولمرت ربما يعبّر عن وجهة نظر سائدة لدى القيادة الفلسطينية الحالية تعتقد أن الزمان يعمل لمصلحتها، وبالتالي فهو كفيل باستلال اقتراحات إسرائيلية أبعد مدى من هذا الاقتراح، وذلك في ضوء التجربة المتراكمة منذ بدء المفاوضات المباشرة بين الجانبين. وهو يؤكد أن الضغوط التي تمارسها إدارة الرئيس الأميركي، باراك أوباما، على الحكومة الإسرائيلية الحالية برئاسة بنيامين نتنياهو في ما يتعلق بموضوع الاستيطان، وكذلك تآكل مواقف حزب الليكود التقليدية إزاء "حل الدولتين"، وفق ما انعكس الأمر في خطاب نتنياهو في جامعة بار إيلان، يعززان هذا الاعتقاد الفلسطيني، ويجعلان الحديث على "تسوية تاريخية" ضربًا من الوهم. فضلاً عن ذلك فإن وقائع المؤتمر السادس لحركة "فتح"، في آب الفائت، أكدت بالنسبة لإسرائيل أن القيادة الفلسطينية الحالية تعتمد مقاربة تقوم على الجمع بين العمل السياسي والمقاومة الشعبية، التي تعتبرها إسرائيل "إرهابًا".

ولعله ليس من قبيل المصادفة أنه بدأت، في الآونة الأخيرة، ترتفع في إسرائيل الأصوات التي تؤكد على وجوب عدم التعلق بأهداب اتفاق أو حل دائم في المرحلة الراهنة، والاستعاضة عن ذلك بمحاولات إيجاد منحى بديل يسفر عن تحقيق تقدّم تدريجيّ صوب حل دائم يستند إلى مبدأ الدولتين.