خبر مناورة نتنياهو: ورقة الاستيطان إلى طاولة اللقاء الثلاثي ..ماهر رجا

الساعة 07:22 م|11 سبتمبر 2009

مناورة نتنياهو:

ورقة الاستيطان إلى طاولة اللقاء الثلاثي

ماهر رجا

بشكل ، ربما لم يسبق له مثيل،  تستخدم حكومة نتنياهو ورقة وقف البناء في المستوطنات كي تستنزف القطرة الأخيرة من التنازلات من السلطة في رام الله ومن جوقة رسمية سياسية عربية تنتظر دورها المباشر للبدء في مفاوضات شاملة.

ما هو واضح  الآن هو أن الإسرائيليين يمسكون بزمام الموقف في التجاذب الدبلوماسي والسياسي الدائر، فواشنطن رسمت الإطار السياسي لحل الصراع لكن التفاصيل إسرائيلية، وفي هذه الظلال أظهرت حكومة نتنياهو مقدرة على التحكم بكل شيء- وإن بتفهم وتواطؤ أميركي -  فهي من يحدد سير وقواعد اللعبة، وهي  من يقيم العقبات ويحدد الوقت الملائم لرفعها على طريقتها؛ التوقيت مهم في هذه الحالة وكذلك الاشتراطات والتنازلات المنتظرة من الطرف الآخر.

الأيام الأخيرة الماضية كانت محطة مفصلية في تأكيد هذه الحقيقة، ففي مساء الخامس من الشهر الجاري، اتصلت محافل نتنياهو بالمبعوث الأميركي  إلى الشرق الأوسط جورج ميتشل وأخبرته أن إسرائيل باتت الآن جاهزة لإعلان صيغة تناسبها رداً على المطلب الأميركي بوقف البناء في المستوطنات. ولم تكن الرسالة التي تلقاها ميتشل مفاجئة للديبلوماسي الأميركي ففحواها كان في إطار تفاهم مسبق مع نتنياهو  حين اجتمع به في لندن في السادس والعشرين من الشهر الماضي ، ثم إن المصادر الإسرائيلية كانت قد  أكدت (حسب صحيفة يديعوت أحرونوت الإسرائيلية) أن مبعوثين إسرائيليين اجتمعوا مع ميتشيل يوم الثاني من أيلول الجاري وأبلغوه بنية الحكومة المصادقة على بناء مئات الوحدات السكنية في دفقة استيطانية تسبق "الإعلان" عن تعليق البناء،  لكن الإسرائيليين حرصوا على الاحتفاظ بخصوصية تفاصيلهم حتى اللحظة الأخيرة.

اختار نتنياهو أن يبدو الإعلان الإسرائيلي أمراً سيادياً فأطلقه في إطار اجتماع المجلس الوزاري في صباح السادس من أيلول ليبدو جزءاً روتينياً من مشاورات سياسية اعتيادية في الحكومة الإسرائيلية، فلا يثير ضجيجاً في الداخل وبين المستوطنين وقياداتهم ، ولا يعطي في الخارج انطباعاً يظهره كتنازل إسرائيلي وإنما كهبة سخية من موقع القوي وعلى الفلسطينيين والعرب أن يتلقفوها بالامتنان وترجمة ذلك الامتنان مزيداً من التنازلات أو الاستعداد لها.

لكن نتنياهو أعلن ولم يعلن في الوقت ذاته،  فحقيقة الأمر أن الحكومة الإسرائيلية لم تقدم شيئاً في موقفها الأخير، ولدى التدقيق في الإعلان الإسرائيلي، يتضح أنه تعليق صوري بغرض الاستهلاك الإعلامي ليس إلا، ذلك أن نتنياهو استبق هذا الإعلان قبل يوم واحد بالمصادقة على بناء مئات الوحدات الاستيطانية إلى جانب 2500 وحدة جرى الاتفاق العلني على الاستمرار في بنائها في مباحثاته الأخيرة مع ميتشل وخلال مداولات أركان حكومته مع الخارجية الأميركية مؤخراً،  ما يعني أن البناء سيتواصل خلال فترة "التعليق"، ناهيك عن أن القدس خارج هذا "التعهد" وبموافقة أميركية.

 بهذه المناورة ملأ نتنياهو القدر بالحجارة وهو بصدد أن يعطيه "مملوءاً" للمبعوث الأميركي في لقائهما المرتقب خلال الأسبوع، بانتظار أن يحمله ميتشل إلى السلطة الفلسطينية ودول عربية حيث سيعمل على تسويق محتويات الطرح الإسرائيلي  قائلاً:  حسناً ، ها قد وفت الحكومة الإسرائيلية بما هو مطلوب منها لوقف البناء في المستوطنات تمهيداً لاستئناف المفاوضات. نحن نتوقع ملاحظاتكم التفصيلية على هذا التعهد ونتفهم مخاوفكم، لكن هذا أقصى ما يستطيع نتنياهو تقديمه، لا نستطيع أن نمارس مزيداً من الضغوط على حكومة تواجه اعتبارات داخلية وضغوطاً. اقبلوا بهذه الصيغة وستتحسن الشروط لاحقاً. أرجوكم لا تضيعوا هذه الفرصة!.

إن  استطاع المبعوث الأميركي أن يقنع السلطة ودولاً عربية بهذا المنطق - وهو أمر متوقع بدرجة كبيرة - يكون نتنياهو قد أبقى ورقة الاستيطان في يده وسوف يحملها معه ليلقيها على طاولة اللقاء الثلاثي الذي سيجمعه مع رئيس السلطة بإشراف الرئيس الأميركي أوباما في أواخر أيلول الجاري على هامش انعقاد الجمعية العمومية للأمم المتحدة .  في هذه الإثناء سيستمر الاستيطان وسيجلس نتنياهو إلى طاولة على مقعد الرجل القوي مسنوداً بحقائق حرب استيطانية طاحنة على الأرض تدعم موقعه التفاوضي ، وهو لن يلقي بهذه الورقة حتى يتأكد أنها أصبحت المقابل العملي لقضايا كبرى في الصراع  كالقدس واللاجئين ومساحة الدولة الفلسطينية التي تتحدث عنها وثائق التسوية وشكل هذه الكيان وحدوده، وذلك بالطبع  إلى جانب مطلب أميركي إسرائيلي عاجل يصر على الحصول على دفعة تحت الحساب من التطبيع العربي مع إسرائيل.

الورقة الرابحة

في خريطة الطريق التي صيغت وفق مبادئ تقرير لجنة ميتشل الذي أصدرته اللجنة عام 2001، كانت هناك ورقتان أساسيتان ، الأولى ورقة تضعها الخريطة والتقرير في عهدة السلطة الفلسطينية وتدعوها إلى القيام بمهمة السيطرة على الأمن في الضفة عبر اعتقال المقاومين ومنع العمليات الفدائية وإنهاء الانتفاضة، والورقة الثانية (إسرائيلية) تتضمن الطلب من الحكومة الإسرائيلية "تجميد كافة النشاطات الاستيطانية، بما في ذلك النمو الطبيعي للمستوطنات القائمة".

استجابت السلطة في رام الله مبكراً، وخاصة بعد انتقال رئاستها إلى السيد محمود عباس، فألقت بورقتها على الطاولة، في حين ظلت ورقة الاستيطان بيد الحكومة الإسرائيلية. وواقع الحال أن كل ما حدث بعد ذلك أظهر أن إسرائيل حافظت على الإمساك بورقة الاستيطان الرابحة وجعلت منها سلاحها الأمضى..لقد غيرت ورقة الاستيطان الرابحة الكثير من ملامح مشهد الصراع منذ توقيع اتفاق أوسلو، على أن حضورها والاستخدام الإسرائيلي لها في فرض وقائع ميدانية وسياسية جديدة ومؤثرة في الاشتباك السياسي والميداني تفاقم منذ العام 2004:

- فعلى الأرض حقق الاستيطان تحولات كبرى في صورة الضفة الغربية والقدس؛ مزق الأرض وأمعن في تقطيع أوصالها وأبعد أي فرصة لقيام "كيان" فلسطيني ذي تواصل جغرافي وأفقد المساحة الهزيلة – محل التفاوض – أية قيمة سيادية محتملة على الصعيدين السياسي والاقتصادي.

- وعلى المستوى السياسي لم يعد التفاوض ومساوماته السياسية يقوم على استعادة جزء من فلسطين التاريخية بمقابل توقيع اتفاق سلام مع إسرائيل، وبات وقف البناء في المستوطنات مقابل السلام العربي والتطبيع على أن تكون القضايا الأخرى محل تفاوض.

- وما لا تشير إليه الكثير من المطالعات السياسية اليوم أن الاستراتيجية التي اتبعتها حكومتا اولمرت ونتنياهو كرست الكتل الاستيطانية الصهيونية خارج دائرة المساءلة والنقاش. اليوم ليس هناك في السلطة أو الجانب الرسمي العربي المنسجم مع تصوراتها السياسية من يطالب بتفكيك المستوطنات الصهيونية في الضفة الغربية وشرقي القدس، ويقتصر المطلب العربي والفلسطيني (الرسمي) على التماس وقف البناء في المستوطنات وحسب.

- على أن الإسرائيليين استخدموا ورقة الاستيطان الرابحة في تحقيق إنجاز سياسي كبير تمثل في  إقصاء القدس خارج التداول السياسي، أو في أقل الأحوال تأجيل وضعها على طاولة التفاوض وإبقاءها تحت ظلال الاستيطان بشكل يوفر للحكومة الاسرائيلية الوقت الكافي لتغيير الحقائق الديموغرافية وتشويه حقائق التاريخ والانتماء ويصل بالمدينة  إلى المرحلة النهائية من المفاوضات وقد أصبح الاحتلال فيها ناجزاً تماماً.

 كل ما سبق يؤكد أن مناورة أميركية إسرائيلية نجحت في إحداث تحول غير مسبوق في واقع ما تسمى بالعملية السياسية وأسسها ومحدداتها، واللافت أن من أطلق شرارة هذا التحول هي الإدارة الجديدة التي تفاءل كثير من العرب بقدومها إلى البيت الأبيض، وبذلك أضحى الصراع ، أو حتى ما يسميه المتفاوضون بالاشتباك السياسي،  متمحوراً حول نقطة واحدة هي الاستيطان واختزلت قضية فلسطين كلها في مطلب وقف البناء في المستوطنات..

قواعد جديدة يبدو أن الكثير من الرسميات العربية والسلطة في رام الله سلموا بها، حيث هناك ما يرجح ذلك خاصة مع استمرار أشكال من اللقاءات بين رموز في السلطة ومسؤولين إسرائيليين، فضلاً عن أن السيد محمود عباس أبقى الباب موارباً على الرغم من ملاحظاته ضد استمرار الاستيطان، ولم يستبعد نهائياً اللقاء الثلاثي في نهاية أيلول على الطريق إلى استئناف المفاوضات تحت ظلال هذه التطورات.