خبر عندما تحيي أوروبا ذكرى حربها .. د. بشير موسى نافع

الساعة 12:29 م|10 سبتمبر 2009

عندما تحيي أوروبا ذكرى حربها

د. بشير موسى نافع

ـ القدس العربي 10/9/2009

في الساعات الأولى من أول ايلول/سبتمبر 1939، أخذت السفن المسلحة الألمانية في دك تحصينات ميناء مدينة غدانسك البولندية (التي كانت تعرف يومها باسم دانزيغ). كانت هذه هي بداية الغزو الألماني لبولندا، التي لم تصمد طويلاً أمام آلة الحرب النازية على أية حال، وبداية الحرب العالمية الثانية.

وقبل أيام، في الذكرى السبعين لاندلاع الحرب الدموية، التي استمرت ست سنوات طويلة وأودت بحياة خمسين ميلوناً من البشر على الأقل، اجتمع القادة الأوروبيون في صباح مشرق في المدينة البولندية ذاتها لإحياء الذكرى والتعهد بأن لا يسمحوا أبداً بأن تكون قارتهم مسرحاً لمجزرة أخرى. ولكن سماء غدانسك الصافية والدافئة لم تعكس المناخ السياسي السائد بين القوى الأوروبية الرئيسية في يوم الذكرى. التاريخ، كما قال ويليام فولكنر يوماً، ليس ماضياً أبداً. وإن كان ثمة من مؤشر على أن كل التواريخ تدور في الحقيقة حول الراهن، فقد كان هذا المؤشر حاضراً بقوة لا يمكن تجاهلها في أجواء غدانسك. عرفت الحرب الثانية بالعالمية لأن رحاها دارت عبر قارات العالم، ولأن دول العالم أجمع تقريباً انقسمت خلالها بين معسكر الحلفاء ودول المحور. ولكن إن اسثنينا المسألة اليابانية، الطارئة حينها، فإن الحرب كانت في جذورها وليدة انزياح القوة المستمر في التاريخ الأوروبي، أزمة توازن القوى المستعصي على الحل، والذي ما يزال يطارد قارة الحروب الكبرى حتى الآن.

كان من المفترض أن تتركز الأنظار في غدانسك على المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، فألمانيا كانت اللاعب الرئيسي في إشعال نار الحرب، وهي التي حملتها محاكم وأغلب تواريخ الحرب مسؤولية الكثير من جرائم الإبادة التي شهدتها سنوات الصراع الست. ولكن المفاجأة أن الزعيم الذي أصبح محط الأنظار كان رئيس الوزراء الروسي بوتين، الذي مثل بلاده في لقاء غدانسك. السبب خلف هذا الانقلاب كان الحرب المشتعلة منذ ما قبل لقاء غدانسك حول الرواية التاريخية للحرب الثانية وما تلاها. في العام السابق لاشتعال نيران الحرب، كانت أوروبا قد تواطأت مع المانيا النازية حول غزو تشيكوسلوفاكيا، فيما عرف بعدها بسياسة الاسترضاء التي اتبعتها حكومة المحافظين البريطانية بقيادة تشامبرلين. من وجهة نظر تشامبرلين، كانت التضحية بسلامة تشيكوسلوفاكيا وسيادتها ثمناً يمكن احتماله لتجنيب أوروبا حرباً طاحنة أخرى، بعد أقل من عقدين على نهاية الحرب الأولى. ولكن شهية ألمانيا النازية للتوسع في سهوب الشرق الأوروبي، أو ما أسماه المستشار الألماني أدولف هتلر بمجال ألمانيا الحيوي، لم يكن من السهل إشباعها. وقد أصبحت بولندا، بأقليتها الألمانية وبما اعتبرته برلين أرضاً انتزعت منها، هدف السياسة النازية التالي.

خلال شهور صيف 1939، أدركت الحليفتان بريطانيا وفرنسا حقيقة النوايا الألمانية، ووقعتا بالتالي معاهدة دفاع مشترك وحماية مع بولندا. ولكن هتلر، حتى تلك اللحظة، وربما لسياسة تشمبرلين الاسترضائية، لم يأخذ البريطانيين والفرنسيين مأخذ الجد؛ بمعنى أنه اعتقد أن لندن وباريس لن تغامرا في خوض حرب أوروبية جديدة من أجل مصير بولندا. ما كان يقلق الزعيم النازي هو روسيا؛ ولذا، فقبل أيام من غزو بولندا وقع وزيرا الخارجية الألمانية ريبنتروب والسوفياتي مولوتوف اتفاقاً لتقسيم بولندا، مما جعل الاتحاد السوفياتي شريكاً في الغزو. وبالفعل، فقد آذن الغزو الألماني للمناطق الغربية التي ادعتها برلين باختفاء بولندا كلية عن الخارطة، بعد أن قام الجيش السوفياتي بغزو وضم الجزء الشرقي (إضافة إلى دول البلطيق وقطعة من رومانيا، بالطبع). ما تبقى من تاريخ الحرب في ساحتها الأوروبية لم يعد فيه من غموض كبير. فما أن بدأ الغزو الألماني لبولندا، حتى أعلنت بريطانيا وفرنسا الحرب على ألمانيا. وبعد نجاح هتلر في تحطيم فرنسا واحتلالها، استدار إلى الشرق مرة أخرى، ليبدأ غزو الاتحاد السوفياتي. ولكن مشروع هتلر الكبير لم ينجح، فقد استطاعت القوة السوفياتية الصمود أمام الآلة العسكرية الألمانية، وما أن أصبح الجيش السوفياتي قادراً على الهجوم المضاد حتى أخذ الجيش الألماني في الاندحار للمرة الأولى منذ اندلاع الحرب. وقد ساعد على التعجيل بهزيمة ألمانيا الكلية والشاملة مشاركة الولايات المتحدة في الحرب، وإجبار ألمانيا على مواجهة الحلفاء في الشرق والغربي في وقت واحد. ولكن ذلك، على أية حال، لا يجب أن يشكك في أن السوفيات تحملوا العبء الأكبر في إيقاع الهزيمة بالإمبراطورية الألمانية، وأن جيشهم كان من حرر شعوب أوروبا الشرقية من الاحتلال النازي. وهنا يبدأ الصراع على الرواية التاريخية، ويتداخل التاريخي بالراهن.

خلال الأسابيع القليلة السابقة على يوم الذكرى، كانت بولندا تكاد تجمع، حكومة وإعلاماً ومثقفين، على أن ستالين كان شريكاً في إشعال نيران الحرب، وعلى أن هتلر ما كان يتجرأ على غزو بولندا لولا توقيع معاهدة ريبنتروب مولوتوف. الأكثر وضوحاً في الموقف البولندي، الذي تشارك فيه دول البلطيق وقطاعات من سياسيي ونخب دول أوروبا الشرقية الأخرى، أن الجيش السوفياتي حرر شعوب أوروبا الشرقية من الاحتلال النازي ولكنه لم يمنحها الحرية؛ فبخروج الجيش الألماني وقعت هذه الشعوب تحت سيطرة أنظمة شيوعية موالية لموسكو، لم تقل قمعاً عن الاحتلال النازي. ولكن دولة بوتين ميدفيديف، من جهتها، تقوم على إستعادة العزة الروسية، وعلى بناء الثقة الروسية بالذات من جديد، بما في ذلك إعادة الاعتبار لقيادة ستالين ونجاحه في خوض الحرب الطاحنة ضد ألمانيا النازية. في عرف بوتين، بدون الاتحاد السوفياتي (بدون روسيا بالمعنى الراهن)، لم تكن أوروبا قد استطاعت التحرر من الظلام النازي. الموقف البولندي، بالتالي، لا يمثل نكراناً للجميل وحسب، بل ومحاولة لإعادة كتابة التاريخ وتجاهل التضحيات الهائلة (التي لا توازيها تضحيات أي من الشعوب الأوروبية)، التي دفعتها روسيا والاتحاد السوفياتي لإسقاط الإمبراطورية النازية.

في الرد على الرواية البولندية للحرب الثانية قالت موسكو ان معاهدة ريبنتروب مولوتوف كانت ضرورية لتوفير الوقت الكافي للبناء العسكري؛ ولولا الوقت الذي وفرته المعاهدة ما كان ستالين يستطيع مواجهة آلة هتلر العسكرية عندما استدارت قواته باتجاه روسيا، التي كانت هدفه الأساسي من البداية. كما أخرج الروس من الإرشيف السوفياتي آلاف الوثائق التي تدل على أن بولندا تواطأت على تقسيم تشيكوسلوفاكيا مع ألمانيا النازية، وأن دوائر بولندية كانت تخطط للتحالف مع المانيا لغزو وتحطيم الاتحاد السوفياتي. وفي استعراض لسياسة العصا والجزرة، وجه بوتين قبل وصوله إلى غدانسك رسالة إلى الشعب البولندي، أكد فيها على أن روسيا لا تشكل تهديداً لبولندا، وأن موسكو تريد علاقات صداقة وتعاون مع وارسو.

بيد أن الصراع على الرواية التاريخية ليس هو الراهن الوحيد في هذا الجدل؛ فمنذ تحلل الكتلة الشيوعية في أوروبا الشرقية وانهيار الاتحاد السوفياتي، استعادت أوروبا بعضاً من ملامحها السابقة على الحرب الباردة. وضع حلف شمال الأطلسي، من جهة، ومشروع الاتحاد الأوروبي، من جهة أخرى، حداً للمسألة الألمانية التي أرقت أوروبا منذ بداية القرن التاسع عشر، وللصراع الألماني الفرنسي الطويل. ولكن روسيا لم تزل مشكلة استراتيجية كبرى، حتى بعد، وربما بسبب، انهيار الاتحاد السوفياتي. ينظر الغرب، بقيادة الولايات المتحدة، إلى روسيا ما بعد الحرب الباردة باعتبارها قوة اقتصادية متواضعة، وأنها حتى بترسانتها النووية الهائلة يجب أن تحرر نفسها من أوهام القوة الكبرى، فسيناريو الإبادة النووية المتبادلة لم يعد سيناريو واقعياً ولا يجب أن يدخل في حسابات القوى والدور والنفوذ. الخيار الأفضل لروسيا هو خيار سنوات التسعينات، أي اتباع النموذج الغربي في إعادة البناء الاقتصادي وزرع قيم الحريات الليبرالية في المجتمع. المشكلة أن روسيا بوتين تنظر إلى سنوات التسعينات باعتبارها فترة الإهانة القومية، الانحدار وفقدان الإرادة. ما يريده بوتين ليس بالضرورة العودة إلى حقبة الحرب الباردة، ولكنه بالتأكيد يرفض العودة إلى عار سنوات ما بعد الحرب الباردة. ما يريده، إن صح التعبير، هو عهد جديد لروسيا ودورها وموقعها، ما بعد بعد الحرب الباردة.

الاستهتار الغربي بروسيا وحجمها، ورفض الغرب التعامل مع موسكو بما تطالب به دولة بوتين ميدفيديف من احترام وتقدير، جعل المعسكر الغربي يتبنى سياسة توسيع حلف الناتو شرقاً، ليس باتجاه بولندا ورومانيا وبلغاريا والمجر وحسب، وهو ما تم بالفعل منذ سنوات، ولكن أيضاً باتجاه ما يسميه الروس بالخارج القريب، حدود الاتحاد الروسي المباشرة، جورجيا وأوكرانيا، وهي إحدى أبرز مسائل التدافع بين روسيا والغرب حالياً. الأكثر من ذلك، أن الولايات المتحدة تخطط منذ إدارة بوش لنشر صواريخ مضادة للصواريخ ومحطات رادار مرتبطة بها في بولندا وتشيكيا، بحجة حماية أوروبا من دول مارقة مثل إيران، باتت قادرة على تطوير صواريخ بعيدة المدى وربما تمتلك قريباً التقنية النووية العسكرية. ولكن روسيا تنظر إلى هذا المشروع باعتباره تهديداً مباشراً لها، ولتوازن القوى في القارة الأوروبية. لم تتردد روسيا بوتين في الرد على الاستهانة الغربية بالحرب في جورجيا، وبالمساومة على الموقف من إيران، وباستخدام ورقة إمدادات الغاز والانقسام الأوكراني الداخلي. لاعتبارات تاريخية واستراتيجية، مشكلة روسيا الرئيسية في معادلة القوة الأوروبية الجديدة/ القديمة هي بالتأكيد أوكرانيا وبولندا. خسارة إحداهما كارثة، أما خسارة كلتيهما فهزيمة جيوبوليتيكية، يستحيل تعويضها. وحول هذه الحقائق الصلبة للقوة يدور التذكر الأوروبي للحرب، التي كانت اندلعت قبل سبعين عاماً من هذا الشهر.