خبر في الذكري السابعة لعملية « زقاق الموت ».. السرايا : سنكررها إن أتيحت الفرصة

الساعة 06:53 ص|31 أغسطس 2009

فلسطين اليوم : غزة

أكدت سرايا القدس الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي في فلسطين، تمسكها بخيار المقاومة والجهاد حتى تحرير كامل تراب فلسطين.

جاء ذلك في الذكري السنوية السابعة لعملية زقاق الموت بالخليل والتي نفذها ثلاثة من استشهاديي سرايا القدس بالعاشر من رمضان عام 1423هـ،15-11-2002، قرب وادي النصارى القريب من مستوطنة "كريات أربع"، وأدت لمقتل أربعة عشر جندياً وضابطاً إسرائيلياًً من بينهم نائب قائد منطقة الخليل بالجيش الإسرائيلي، وأذهلت قيادات أركان العدو تخطيطاً وتنفيذاً.

وقال "أبو أحمد" الناطق باسم السرايا :"إن عملية زقاق الموت ملحمة بطولية ستكررها المقاومة كلما أتيحت لها الفرصة، وأن ذكراها ستبقي محفورة في قلوب المجاهدين وأبناء شعبنا الذين سطروا بصبرهم وثباتهم أروع معني الصمود أمام الهمجية الصهيونية".

وأضاف في تصريحٍ وصل "فلسطين اليوم" نسخة عنه، "إن الذكري السابعة لهذه العملية البطولية تأتي في وقت يعيش فيه الشعب الفلسطيني أخطر مراحل محاولات تصفية المقاومة، وإحياء مشاريع التسوية بالمنطقة من خلال الاستهداف المتواصل للمجاهدين".

وأكد "أبو أحمد" أن المقاومة ماضية في طريقها رغم كل محاولات التصفية التي تتعرض لها، وأن الاعتداءات التي يُنفذها المستوطنون ضد أهالينا بالخليل سيدفع قادة الاحتلال ثمنها غالياً وأن المقاومة سترد عليها رغم الاغتيالات والاعتقالات التي يتعرض لها مجاهدوها.

وأشار الناطق باسم سرايا القدس إلي أن عملية "زقاق الموت" جاءت في شهر رمضان، تخليداً لغزوات الرسول وصحبه في هذا الشهر الكريم، وأن المقاومة استأثرت دينياً بانتصارات المسلمين في غزواتهم بهذا الشهر، فأقدمت على تنفيذ العشرات من العمليات البطولية".

ووجّه "أبو أحمد" في هذا الشهر الكريم، وهذه المناسبة المباركة، باسم قيادة سرايا القدس، التحية لعوائل الشهداء والجرحى والأسري، وللمرابطين على الثغور والمجاهدين في الميدان، ولكافة أبناء شعبنا الصامدين في وجه الحصار والعدوان الصهيوني المتواصل بالضفة والقطاع.

وأوضح أن السرايا وخلال شهور رمضان من سنوات الانتفاضة المباركة قد قدمت أربعون شهيداً من قادتها ومجاهديها في الضفة وغزة، وأن من بينهم خمسة عشر استشهادياً نفذوا عمليات استشهادية وقتلوا 37 صهيونياً وأصابوا أكثر من مئة وستون آخرين، فيما استشهد ثلاثة عشر منهم خلال عمليات اغتيال استهدفتهم برصاص الوحدات الخاصة أو عمليات قصف من قبل الطيران الحربي، فيما ارتقي الآخرون خلال مهام جهادية مختلفة كالتصدي للتوغلات الإسرائيلية.

يُذكر أن ثلاثة من استشهاديي سرايا القدس الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي، وهم المجاهدين "أكرم الهنيني – ولاء سرور – ذياب المحتسب" قد نفذوا كميناً محكماً قرب مغتصبة كريات أربع بالخليل فقتلوا أربعة من الجنود والضباط الصهاينة في عملية نوعية أطلقت عليها قوات الاحتلال اسم عملية "زقاق الموت".

 

سيضل صداها يتردد من عامٍ لآخر.. ومن جيلٍ إلي جيل.. "زقاق الموت" حين وقف شارون صامتاً أمام أسطورة جنود سرايا القدس

 

كان مؤشر الساعة يدق، وتمر الثواني والدقائق تباعاً، وفيما كان المصلون يخرجون من صلاة القيام، كان آخرون يدخلون ساحِ الجهاد المقدس.

 

فالمكان وادي النصارى بالقرب من ما يعرف بمستوطنة "كريات أربع" بخليل الرحمن، والزمان العاشر من رمضان 1423هـ، والشخصيات هم ثلاثة من أقمار فلسطين، كانوا على موعد مجابهة مع أكثر العسكريين تدريباً وتسليحاً في جيشٍ وصفه المتخاذلون بـِ "الجيش الذي لا يقهر".

 

ولم تطول حركة مؤشر تلك الساعة، حتى دخل الفلسطينيون منازلهم يتابعون بلهفة وشوق أنباء تواردت على وسائل الإعلام عن عملية فدائية ينفذها مسلحون فلسطينيون بخليل الرحمن، وكانت تُقابل تلك اللهفة مشاهد من أرض المعركة ترصدها عيون الإعلام عن أقمار الإيمان والوعي والثورة وهم يسطرون بإيمانهم وبنادقهم ملحمة سطروها بالدم وهم يدكون عروش القوة الإسرائيلية في قلاع الاستيطان المحصن.

وحين كان الفلسطينيون يتشوقون بلهفة لمعرفة حقيقة ما يدور، كان الإسرائيليون أشد مضاضة على معرفة خبايا المعركة التي كان يتكتم القادة الإسرائيليون على إبراز المعلومات عنها، وفي ظل دوران عجلة الوقت ومع توفر المعلومات الشحيحة عن واقع معركة خليل الرحمن، كان يطّل ببريق الحقيقة وعن منبر الجزيرة رجلٌ فتح آفاق الحقيقة على ما كان يدور بوادي النصارى في الخليل.

فكان الذهول, وكانت حقيقة المعركة تنتاب شعور الفلسطينيين بالفرحة العارمة، وتنتاب الإسرائيليين حالة من الخوف والحزن، حين قال وباختصار رجل الكلمة الصادقة د.رمضان عبد الله شلح، أن مقاتلو سرايا القدس ينفذون عملية استشهادية ضخمة، فأوقفت تلك الكلمات المختصرة كل الكلام عن ثلاث ساعات من المعركة خاضها المقاتلون، فاعتصر الفلسطينيون الشوق وهم يستمعون لذاك الرجل الصنديد، وتوقف نبض الحياة لدى الإسرائيليين، فوقف شارون صامتاً أمام عظمة التخطيط وأسطورة التنفيذ وقوة المفاجأة بنقل المواجهة من شمال الضفة إلي جنوبها.

14 عشر قتيلاً من الجنود والضباط بينهم قائد لواء الخليل "درور فاينبرغ"، هم حصيلة المعركة التي سطرها فقط ثلاثةً من أبناء الشقاقي في معقل الاستيطان بالضفة، وليكتب هؤلاء الأبطال أسمائهم بحروفٍ من ذهب، وليحفروا ذاكرة معركتهم في نفوس الفلسطينيين من عامٍ لآخر ومن جيلٍ إلي جيل.

 

الابتكار والمفاجأة

 

وبهذا تستحق أن تستحوذ معركة الخليل، وصفها بأنها من بين أقسى الضربات وأنجح العمليات التي خاضها الفلسطينيون ضد الاحتلال منذ مرحلة طويلة من عمر الصراع، وأنها الأقسى من حيث خسائر العدو والأبرع تخطيطاً وابتكاراً وتوقيتاً منذ اندلاع انتفاضة الأقصى.

 

فجاءت العملية بعد سلسلة من العمليات الاستشهادية المتلاحقة للسرايا في حيفا ومجد وكركور، وكانت قيادات أركان العدو تتوقع استمرار زلازل عمليات السرايا من شمال الضفة، لكن عملية زقاق الموت فاجأت الاحتلال ومستوطنيه عندما استهدفتهم جنود الحق بجنوب الضفة وفي أكثر القلاع الأمنية العسكرية لقوات الاحتلال بالضفة.

وعن العملية، قال قيادي بسرايا القدس "أن التحضيرات للعملية بدأت قبل أكثر من شهرين من تنفيذ العملية، وأن إعدادها كان شاق ومحفوف بالمخاطر، حيث أجري المجاهدين الثلاثة الذين نفذوا العملية جولات استطلاع مباشر لمكان الهجوم وحجم الوحدات العسكرية المرافقة للمستوطنين على الطريق الممتد بين بوابة مستوطنة كريات أربع وبين الطريق الذي يطلق عليه الصهاينة اسم "شارع المصلين". وقد اضطروا أحياناً إلى التخفي والدخول بين جموع المستوطنين من أجل تحديد أدق لمواقع الحراسة وعددها وطبيعتها ومدى فاعليتها ونقاط ضعفها والأماكن المشرفة عليها، والطريقة التي يتم فيها تنفيذ أسلوب الحراسة المتسلسلة "التتابع" بحيث أن كل قوة حراسة على امتداد الطريق إلى الحرم الإبراهيمي في الخليل تتسلم حراسة المستوطنين في منطقة محددة وترافقهم فيها لتسلمهم إلى حرس المنطقة التالية، فضلاً عن الحراسة الجوالة المكونة من حرس الحدود بمساعدة وحدات من القوات النظامية، وهذه غالباً ما يرافقها عدد من سيارات الجيب العسكرية المحملة بالجنود".

 

نجوم في ليل الخليل

 

ليل الخليل في تلك الليلة، كان محاطاً ببنادق جنود الاحتلال، وكانت أزقة الخليل مدنسة بظلال الدبابات وفوهات مدافعها، وفي بيت هنا وبيت هناك كانت رائحة آخر شهيد مازالت متعلقة بالجدران وصورته في الأعين، الهواء محاصر بعربدة المستوطنين والشوارع مطفأة العيون بالرصاص الذي يأكل لحم الأطفال، والخليل تنزف جراحاً، ولكنها ترفع صوت الآذان فوق كل دنس الغزاة.

 

في تلك الليلة، السبت الأسود والمرعب كما وصفه الصهاينة أنفسهم، استعد مجاهدو "سرايا القدس" في الخليل لتنفيذ العملية الاستشهادية ضد قوات الجيش الصهيوني ومستوطنيه المسلحين على الطريق، ما بين "كريات أربع" والحرم الإبراهيمي، حيث اعتادت قطعان المستوطنين التحرك في مسيرة استفزازية مشياً على الأقدام من هذه المستوطنة باتجاه الحرم وعلى الشارع الذي يطلقون عليه اسم شارع المصلين للقيام بعربداتهم التي يسمونها "صلاة السبت" ويقتطعون لها جزءاً من حرم النبي إبراهيم الخليل عليه السلام.

 

في مكان الانطلاق نحو تنفيذ العملية التقى قبيل حلول المساء، المجاهدون الاستشهاديون الثلاثة: أكرم عبد المحسن الهنيني (20 عاماً) وولاء هاشم داود سرور (21 عاماً) ومحمد عبد المعطي المحتسب (22 عاماً) حاملين أمانة الجهاد في سبيل الله وفي سبيل الوطن التي كتبوها في وصاياهم وعهد الثأر لدماء الشهداء والجرحى الذين تحصدهم آلة الاحتلال يومياً نساءً وأطفالاً وشيوخاً على امتداد الثرى الفلسطيني، وفي قلوبهم وعد الانتقام لدم الشهيد إياد صوالحة قائد سرايا القدس في جنين الذي استشهد بعد أن خاض معركة بطولية مع قوات الاحتلال (لواء غولاني) في جنين في السادس من رمضان العاشر من تشرين الثاني الماضي واستمرت لعدة ساعات اتخذ فيها إياد قرار القتال حتى الشهادة ومرغ أنف قوات الاحتلال المهاجمة ولم يستشهد إلا بعد أن أوقع في صفوفها العديد من الإصابات وأسقط جنودها وجنرالاتها في ذهول لم يصدقوا بعده أنهم كانوا يقاتلون رجلاً واحداً.

نداء شهداء الحرم

 

وكان ليل الخليل سابحاً في ظلال الشهداء في تلك الليلة.. ففي شهر رمضان يبزغون كقبسات النور في الحارات الضيقة والبيوت الغافية في تسبيح القباب وعلى نوافذ أنات الجرحى وتنهدات الأمهات الثكالى، لكأنهم يستعيدون ذاكرة المجزرة ليستنهضوا الثأر لأرواح المصلين ودمائهم، أولئك الذين غدر بهم رصاص المستوطنين في مجزرة الحرم الإبراهيمي قبل ثمانية أعوام (عام 1994) عندما تسلل الإرهابي باروخ غولدشتاين إلى جامع إبراهيم الخليل عليه السلام وفاجأ المصلين الفلسطينيين الخاشعين في صلاة الفجر بسيل من الرصاص أسفر عن مذبحة رهيبة، قبل أن يتمكن الناجون من قتله، ثم يجعل المستوطنون من قبره مزاراً "مقدساً" لهم ويرمزون إليه بألقاب التعظيم والنبوة.

هذا الدم الشهيد كان ينادي ليلة العاشر من رمضان بأسماء مجاهدي سرايا القدس، أكرم وولاء ومحمد، وكانوا يسمعون، ويتقدمون نحو هدفهم خطوة إثر خطوة فيتعالى وجيب النداء في قلوبهم وتشتد أيديهم على البنادق وتهزم عيونهم وجه الليل.

 

لحظة التأهب

 

مهما قيل ومهما تعددت الاجتهادات الصهيونية والتحليلات والتوقعات حول سيناريو العملية وتفاصيلها، فإن الصهاينة لن يعرفوا أبداً كيف تحرك المجاهدون وكيف وصلوا إلى النقطة صفر للبدء في الهجوم، وكيف انفتحت عليهم بوابات الجحيم لأربع ساعات دون توقف.. وسيبقى الكثير من التفاصيل عقدة في تاريخ جنرالاتهم العسكري ترفع في صدورهم جبال الغضب العاجز وتثير في نفس الوقت إعجاباً وانبهاراً يحاولون إخفاءه.

الساعة السادسة والنصف مساءً.. يصل المجاهدون الاستشهاديون الثلاثة إلى المنطقة المسماة "بشارع المصلين" وهم يحملون بنادق من طراز "إم 16" وثمانية مخازن ذخيرة لكل منهم وعدداً من القنابل اليدوية. ولأنهم يرتدون ما تسمى بـ "ملابس السبت" وهي عبارة عن قميص أبيض وبنطال جينز ـ فقد بدوا على هيئة المستوطنين المسلحين من مستوطنة كريات أربع.. وقد توقعت مصادر صحفية صهيونية أن أحد المهاجمين اندس لفترة في قافلة المستوطنين القادمين من الحرم الإبراهيمي، قبل أن يعود ليتخذ موقعه حسب خطة الهجوم.

قرابة الساعة السابعة.. ينتشر المجاهدون الثلاثة في منطقة الهجوم المحددة مشرفين تماماً على "شارع المصلين" على بعد ثلاثمائة متر من بوابة مستوطنة كريات أربع، فيكمن أحدهم في نقطة تطل على موقع عسكري صهيوني يقوم على الجهة الأخرى من الطريق، فيما يتخذ المجاهدان الآخران موقعيهما على بعد عشرين متراً بموازاته، ولكن في منطقة أعلى وعلى بيت يبتعد قليلاً عن الطريق ويشرف عليه، ويفصله عنه زقاق ضيق مظلم يقع ما بين سلسلة البيوت المحاذية للطريق مباشرة وبين النسق الثاني من البيوت المحاذية للطريق.

مفاجأة اللهب

 

عاد آخر المستوطنين من منطقة الحرم الإبراهيمي، وأصبح معظمهم داخل المستوطنة.. وبينما مازالت حركة عسكرية نشطة في الشارع الأشد حراسة وتدابير أمن في الكيان الصهيوني، تبدو أمام المجاهدين الثلاثة من مكامنهم، سيارتا جيب إحداهما لجنود قوات الاحتياط والثانية لقوة من حرس الحدود.. أما قوة الحراسة الرئيسية فقد تواجدت على بعد ثلاثمائة متر من المجاهدين، أمام بوابات المستوطنة. وبذلك يصبح أمام استشهاديي "سرايا القدس" ثلاثة أهداف واضحة.

 

.. تمام الساعة السابعة وثلاث عشرة دقيقة، يفتح المجاهدون الثلاثة النار على الأهداف، فتصعق كثافة النيران وعنصر المباغتة جنود العدو في سيارتي الجيب والموقع العسكري أو الكمين الثابت الذي نصبه جنود الاحتلال في حقل زيتون أسفل الطريق. ويسقط على الفور عدد من القتلى والجرحى في صفوف الجنود في إحدى الدوريات الراجلة وفي الموقع ـ الكمين على الطريق. وتعترف المصادر الصهيونية أن جنود الكمين الثابت تلقوا الضربة الأشد، وتشير إلى احتمال سقوطهم في اللحظة التي نهضوا فيها من الكمين مع نهاية عملية الحراسة، حيث وقّت المجاهدون فتح النار في هذه اللحظات.

 

صورة الشارع في تلك البرهة كانت كما تصفها المصادر الصهيونية والجنود الناجون على الشكل التالي: جنود قتلى على أطراف الكمين بجانب الطريق.. آخرون جرحى يصرخون.. عدد آخر من الجنود انبطحوا أرضاً وراحوا يصرخون طالبين النجدة.. هرج وفوضى في نهاية الشارع، وإحدى السيارات الجيب انحرفت عن الطريق وقفز منها جنديان فجرح أحدهما وانبطح الآخر أرضاً.

 

زقاق الجحيم

 

تحت وقع سيل النيران والرصاص والقنابل اليدوية، تعم الفوضى في صفوف دوريات العدو وجنوده.. وتنتقل المواجهة إلى الزقاق الخلفي المظلم على بعد أمتار من الشارع حيث يتحول الزقاق إلى كوة من اللهب تصرع كل من يقترب منها، ذلك أن مجاهدي سرايا القدس أعادوا تموضعهم في المكان ليسيطروا على امتداد الزقاق ومخارجه.

وإذ تحاول قوات الجيش الصهيوني أن تدرك حقيقة ما يدور، فإنها تبدأ بمحاولة اقتحام الزقاق.. يقترب جيب حرس الحدود من طرف الزقاق ثم ينعطف فجأة ليدخل فيه. وفي هذه اللحظة وطبقاً لأقوال شهود العيان الصهاينة من الجنود، يظهر أحد المجاهدين خارجاً من منزل في الزقاق ويندفع نحو الجيب فيفتح الباب الخلفي ويرشق الجنود فيه بوابل متواصل من الرصاص على بعد متر واحد أو من النقطة صفر كما تصف المصادر الصهيونية، فيقتل جنود الجيب جميعاً.

 

ثم تمضي ساعتان من المواجهة يتخللهما فترات قصيرة من الهدوء.. وتصل تعزيزات صهيونية إضافية.. لكن، في هذه الأثناء، لم يكن يبدو أن القيادة العسكرية الصهيونية تدرك جيداً طبيعة ما يجري، فيما كان الزقاق الذي يكمن فيه المجاهدون قد أصبح مصيدة من اللهب.

 

بعد ذلك، وفي محاولة أخرى لاقتحام الزقاق، وصلت سيارة جيب ثانية وفيها ضابط عمليات حرس الحدود في المنطقة الرائد سميح سويدان ومعه جندي آخر، وما أن أصبحا في ثغر الزقاق حتى صرعهما رصاص مجاهدي "سرايا القدس".

مصيدة الجنرالات

 

في تلك المرحلة، كانت المنطقة قد تحولت إلى ساحة حرب حقيقية في ظل تواصل قدوم التعزيزات العسكرية الصهيونية، لكن ضباط الصهاينة ظلوا غير قادرين على تقدير الموقف. وتضاربت تصوراتهم عن حقيقة ما يجري، فكان الاعتقاد أولاً أن المجاهدين دخلوا إلى مستوطنة كريات أربع وأطلقوا النار على المستوطنين القادمين من الصلاة ولاذوا بالفرار. وسرعان ما تبدد هذا الاحتمال تحت وقع الحدث وتواصله، ثم تحدث ناطق عسكري صهيوني عن قيام المجاهدين الفلسطينيين باحتلال موقع عسكري إسرائيلي، كما أخفقت التقارير الصهيونية التي اعتبرت خلال المعركة أن المجاهدين يدافعون في زقاق ضيق في مواجهة الجيش، فالمجاهدون كانوا يقومون بتحركات هجومية كثيفة خلال المعركة.

ثم وقع تطور جديد، إذ تقدم قائد لواء الخليل درور فاينبرغ (الحاكم العسكري للمنطقة) على رأس قوة وهو يستقل سيارة جيب مدرعة في محاولة لاقتحام الزقاق بمساندة إضافية من وحدة الطوارئ في مستوطنة كريات أربع. وما إن ظهر على بعد أمتار من مدخل الزقاق حتى ظهر له أحد المجاهدين وعاجله بسيل من الطلقات في صدره، فأسرع عدد من جنوده لجره خارج مرمى النيران فسقط عدد منهم بين قتلى وجرحى، قبل أن يتمكنوا من إخراجه صريعاً من تحت سيف اللهب. وتقول المصادر الصهيونية إن فاينبرغ، وبعد اجتيازه عشرين متراً بالجيب "ترجل قبل أن يتمكن من ارتداء درعه الواقية" في محاولة منها للتقليل من صورة الهزيمة التي أصابت الجيش الصهيوني في معركة الخليل.

 

حقل للرماية

وتمر ساعة أخرى على المعركة التي وصفها أحد الجنود الصهاينة بأنها كانت معركة من طرف واحد حيث المقاتلون الفلسطينيون يطلقون النار "علينا" كأنهم في حقل للرماية نحن فيه الدريئات.. وتصبح الفوضى والذعر في صفوف الجيش الصهيوني في المنطقة، العنوان لكل ما يجري، فتحاول وحدات من الجيش اقتحام الزقاق من جديد، فيقع مزيد من القتلى الصهاينة، ويتراجع الجنود تكتيكياً ليتقدم بعد ذلك ضابط أمن التجمع الاستيطاني في قلب المدينة، في سيارة جيب مدرعة على رأس ثلة من الجنود، فيصاب بجروح خطيرة ويتمكن مرافقوه من جره.. ثم يقترب ضابط أمن كريات أربع محاولاً السيطرة عن زمام الموقف بين عدد من الجنود فيقتل هو الآخر كما يقتل أحد الجنود ويرتفع عدد الجرحى بإصابات خطيرة.

وتتوالى المحاولات فيتقدم نائب قائد سرية الناحال محاولاً أن يكون بطل آخرها.. ويقرر الدخول في قلب الزقاق في مصفحة عسكرية. لكنه، وما إن يطل برأسه خارجها حتى يسقط قتيلاً برصاص المجاهدين المتمترسين في الزقاق.. وحين تنفذ الذخيرة يواصل المجاهدان الاثنان الباقيان القتال بأسلحة الجنود القتلى بعد أن استولوا عليها.

النهاية: هزيمة جيش

ساعات قاسية وطويلة مرت على جيش الاحتلال وقادته، قبل أن يقرروا التوقف لإعادة حساباتهم... كان منظر طائرات الهيلوكبتر والقنابل الضوئية التي أطلقها سلاح الجو، وأعداد الجنرالات في المنطقة وحركة الدبابات التي راحت تشدد الطوق حول المكان تؤكد أن الصهاينة قد أثخنوا بالجراح وبأعداد القتلى، وأنهم يبحثون عن مخرج ما من كل هذا الجحيم الذي لم يتوقعوه.. وكانت الخطة الأسلم لهم أن يدخلوا الزقاق كما دخلوا مخيم جنين، أي أن يختبئوا في كرات الحديد المتحركة (الدبابات والمصفحات)، بحيث لا يظهر أحد بما في ذلك رامي الرشاش على البرج، فيما راحت قوات كبيرة تكثف وجودها حول الزقاق.

لقد قتل أحد ضباط الصف حين حاول أن يطل برأسه من برج دبابة.. ولم تتوقف المعركة عند هذا الحد، ذلك أن المجاهدين الباقيين تحصنا في المواجهة الأخيرة في الجيب المدرعة التابعة لحرس الحدود التي سبق وأن قتلا جنودها، فاستعصوا بذلك على قوات الاحتلال التي أظهرت جبناً واضحاً كما صرح مستوطنون تواجدوا في منطقة المعركة. وعندها لجأ الصهاينة إلى استخدام الجرافات المدرعة، وقصف الزقاق وموقع المجاهدين بصواريخ الطائرات المروحية.. وكتب الله الشهادة لمجاهدي "سرايا القدس" الثلاثة بعد أن مرغوا أنف جيش العدو بوحل الخليل، وصرعوا أربعة عشر جندياً ومستوطناً وضابطاً صهيونياً، وأصابوا العشرات بجروح الكثير منهم في حال الخطر.

كانت الساعة الثانية عشرة ليلاً حين توقف إطلاق الرصاص واستشهد المجاهدون.. ليدرك العدو وسط ذهوله الشامل أن ثلاثة مجاهدين فقط قاتلوا قواته المؤللة والمعززة بمختلف الأسلحة على الأرض والجو لخمس ساعات متواصلة، وألحقوا بها العار والهزيمة في عقر الاستيطان وأعمق مناطقه الأمنية.

الصدمة

أول ما اعتقده الصهاينة تحت لهب مجاهدي سرايا القدس في الخليل، أنهم يواجهون جيشاً بأكمله لا ثلاثة مجاهدين مع كمية قليلة من الذخيرة وقنابل وبنادق رشاشة.. رعب شامل في المؤسسة العسكرية الصهيونية من أول لحظات العملية.. فوضى وفقدان سيطرة وترنح كلي لمفاصل القيادة والتخطيط والمبادرة. والسؤال الكبير الذي يتردد: "ماذا جرى لقدرات جيشنا وكفاءته" وكيف استطاعت مجموعة صغيرة مكونة من ثلاثة مقاتلين أن تلحق به هذه الخسائر وتلك الهزيمة في منطقة يفترض أنها من أكثر المناطق تشديداً أمنياً وتواجداً لقوات الجيش وتحصيناً في وجه المفاجآت.

وقد طرحت العملية علامات استفهام كبرى حول كفاءة الجيش الصهيوني والمقدرة الاستخبارية ودقتها في استباق وقوع عمليات بهذا الحجم، وأسلوب الجيش في إدارة معركة الخليل والثغرات المفصلية في السيطرة والاتصال والاستجابة السريعة للطوارئ. ولم تستطع المؤسستين العسكرية والسياسية في الكيان الصهيوني، تجنب الاعتراف بالهزيمة والخسائر الفادحة التي تجاوزت 12 قتيلاً بينهم قائد لواء الجيش الصهيوني في الخليل. واعترفت الأوساط الصهيونية بأن المجاهدين الثلاثة نجحوا في تحويل عدم التكافؤ في العديد والأسلحة إلى عنصر قوة وتفوق تكتيكي في صالحهم. ووصفت صحيفة يديعوت أحرونوت العملية بأنها "من أصعب الحوادث التي عرفها الجيش الإسرائيلي في الضفة والقطاع، باستثناء معركة جنين، منذ اندلاع الانتفاضة الحالية".

التخبط الصهيوني.. ثم الاعتراف

حمى الفوضى وانعدام الوزن والارتباك التي أصابت الكيان الصهيوني جراء العملية تجاوزت ساحة المعركة في الخليل.

ففي محاولة للتعتيم على الحقائق، أبرزها نتائج العملية على المستوى العسكري والعار الذي لحق بقوات الاحتلال في مواجهة ثلاثة مجاهدين فقط من سرايا القدس، سارعت وزارة الخارجية الصهيونية إلى الحديث عن "مجزرة" ضد من وصفتهم "مصلين أبرياء". وعندما لم يعد ممكنا إخفاء الصورة الحقيقية من أن معركة الخليل كانت استهداف مجاهدين استشهاديين لقوات الاحتلال والمستوطنين المسلحين، تراجعت الأوساط الصهيونية عن وصف "مجزرة" وتتالت الاعترافات، بدءا من أرييل شارون الذي رفض تسميته مجزرة لسبب إضافي أيضا هو السجال الحزبي الدائر في أوساط الليكود، ثم الإذاعة العبرية التي أشارت إلى خطأ في توصيف المعركة في التقارير الأولية، ثم الأوساط الصحفية والحزبية المختلفة في الكيان الصهيوني.. من ذلك مثلا ما قاله الصحفي الصهيوني عوفي شيلح في صحيفته يديعوت أحرونوت، بعد يوم من العملية: "لقد نفذت خلية الجهاد الإسلامي في الخليل، هجوماً يعتبر حرب عصابات بكل ما تعنيه الكلمة، فالجهة المستهدفة كانت مسلحة ومتوفقة في عدد أفرادها وعتادها العسكري. وقد نجح الهجوم بسبب القراءة الصحيحة لصورة الأوضاع ميدانيا". وأضاف شيلح "لا يقر وعينا بقيام الجانب الثاني بعمليات، يتحتم علينا الاعتراف بأنها تنطوي على الشجاعة والاستعداد للتضحية". كما سخر الصحفي الصهيوني ناحوم برينياع في ذات الصحيفة من وصف الحدث بأنه "مذبحة" وأشار إلى أن جميع القتلى الـ 12 "من الجنود أو المجندين المسلحين المدربين والجاهزين للقتال".

تلة النيران

أعادت عملية الخليل ومعركتها الاستشهادية إلى أذهان الصهاينة ضربات لم ينسوها منذ قيام كيانهم على أرض فلسطين.

قائد كتيبة "الناحال" المقدم عيران الذي تولى إعادة لملمة شراذم القوات الصهيونية المهزومة في المرحلة الأخيرة في معركة الخليل، وصف المعركة بأنها تماثل معركة "تلة الذخيرة" في العام 1967 في القدس. وقال كانت تشبه تلك المواجهة بالكثير من تفاصيلها، إذ كانت تنطلق صلية نيران تتبعها قنبلة يدوية، ثم أعيرة أخرى، ثم قنبلة يدوية...وعندما نظر الضباط إلى ساعاتهم كانت قد مرت أربع ساعات ونصف منذ بدء المعركة الضارية في الزقاق.

وصف آخر هو "زقاق الموت" أطلقه الضباط الصهاينة الذين تواجدوا في المكان، على المعركة الضارية التي خاضها مجاهدو "سرايا القدس" محولين الزقاق الذي تحصنوا فيه إلى فوهة من اللهب ... وقد شبهوا الزقاق والمعركة فيه وحوله بما يطلقون عليه "زقاق القناص" في البلدة القديمة في القدس حيث استطاع أحد القناصة من المقاتلين العرب عام 1967 ، أن يحول ذلك الزقاق إلى مصيدة للموت.

وقالت "يديعوت أحرونوت" بعد يوم من المعركة إن جنرالات الجيش وجنوده سوف لن ينسوا ذلك الزقاق الصغير في الخليل الذي يشبه ما جرى فيه ما جرى للجيش الصهيوني في معركة "الحمام" وهي إشارة إلى الهزيمة القاسية وحمام الدم الذي غرق فيه جيش الاحتلال في معركة مخيم جنين التي قادها قائد سرايا القدس في جنين الشهيد الشيخ محمود طوالبة.

"إعلان سرايا القدس"

منذ اللحظات الأولى لعملية ومعركة الخليل، أعلنت "سرايا القدس" الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي، مسؤوليتها عن العملية في بيان صدر مساء العاشر من رمضان 1423هجرية،الموافق 15 تشرين الثاني 2002 فيما كانت المعركة تتواصل على بوابة مستوطنة "كريات أربع".

وقال بيان سرايا القدس إن "العملية البطولية النوعية التي تأتي مع اقتراب الذكرى السنوية الثانية لمذبحة الحرم الإبراهيمي، لتؤكد أنها تأتي في سلسلة عملياتها للرد على جريمة اغتيال الشهيد القائد إياد صوالحة بجنين والجرائم الصهيونية بحق أهلنا وشعبنا في جنين ونابلس وغزة وكل مدننا وقرانا ومخيماتنا".

 

وأوضحت سرايا القدس أن هذا الإعلان يأتي فيما ما زالت المعركة مستمرة بين مجاهدينا الأبطال وقوات الاحتلال" التي اعترفت حتى لحظة إعداد البيان، بمقتل أحد عشر جنديا ومستوطنا وضابطا بينهم قائد لواء لجيش الصهيوني في الخليل العميد درور فاينبرغ، وإصابة عشرات آخرين.

مجموعة الشهيد حاتم الشويكي

وفي وقت لاحق في 18تشرين الثاني الماضي، أصدرت "سرايا القدس" بيانها الثاني الذي أكدت فيه قيام مجاهديها باجتراح المأثرة البطولية الإستشهادية في الخليل، أمام مستوطنة كريات أربعه الصهيونية.

وزفت السرايا في البيان أسماء استشهادييها الثلاثة منفذي عملية الخليل البطولية من مجموعة الشهيد حاتم الشويكي وهم:

الشهيد البطل أكرم عبد المحسن الهنيني 20 عاما ـ الخليل

الشهيد البطل ولاء هاشم داود سرور 21 عاما ـ الخليل

الشهيد البطل محمد عبد المعطي المحتسب ـ الخليل

"سرايا القدس"، وإذ أكدت أن العملية تأتي ردا على اغتيال القائد أياد صوالحه، قائد سرايا القدس في جنين، توعدت الكيان الصهيوني بمزيد من الضربات على غرار عملية الخليل.

وقالت في بيانها لقادة العدو" لقد توقعتم "سرايا القدس" في الشمال، ففاجأتكم في الجنوب في خليل الرحمن، فانتظروا مجاهدينا واستشهاديينا في أي لحظة وفي أي مكان.

 

القتلى من الضباط الصهاينة

صرع مجاهدو سرايا القدس، خلال أربع ساعات من القتال الضاري والبسالة الأسطورية، 14 عسكرياً ومستوطناً صهيونياً.ز ومن بين القتلى خمسة ضباط كبار، وسادس أصيب بجراح خطيرة..وهم:

العميد درور فايبنرغ (قائد لواء الخليل)

الرائد سميح سويدان (ضابط العمليات في حرس الحدود في منطقة الخليل)

ضابط أمن الحي اليهودي في الخليل.(أصيب بجراح خطيرة)

ضابط أمن مستوطنة كريات أربع في الخليل.

نائب قائد سرية في "الناحال".

قائد سرية في حرس الحدود في الخليل.

 

تكتيك مباغت

 اعترفت المصادر الصهيونية بأن عملية ومعركة الخليل الاستشهادية كانت مفاجأة ساحقه للجيش وأجهزته الأمنية، خاصة وأن المنطقة التي وقعت فيها تعتبر من أشد المناطق حراسة واحتياطات أمنية.

أما المفاجأة الأساسية فهي أن "سرايا القدس"، باعتراف معلقين ومحللين عسكريين إسرائيليين، لجأت إلى تكتيك مباغت، ففاجأت الجيش الإسرائيلي في الجنوب، في الخليل بعد أن كانت الحسابات الأمنية أن تقوم السرايا بضربتها المقبلة في شمال فلسطين.