خبر القدس القدس القدس..علي عقلة عرسان

الساعة 07:30 م|28 أغسطس 2009

القدس القدس القدس..علي عقلة عرسان

الكيان الصهيوني عملي بما فيه الكفاية في أمرين على الأقل: العدوان والاستيطان، حيث يستمر بالعمل على تطوير القوة، وتوسيع الاستيطان، وتعزيز السيطرة على الأرض وتهويد كل شيء فوقها، وخلق واقع جديد يفرض أمراً واقعاً.. وذلك وفق استراتيجية ثابتة، لتحقيق أهداف رئيسة، عبر مراحل متغيرة.

إن مراجعة سريعة جداً لثوابت السياسة الصهيونية في هذين الأمرين: العدوان والاستيطان، تشير بوضوح إلى أنها سياسة قائمة على القوة واستخدامها والاستيطان وتوسيع دوائر بكل الأشكال والصيغ الممكنة، والعمل على جعل العرب عاجزين عن وقف استمرار هذيت الأمرين والقبول بنتائجهما. وهي سياسة ثابتة ومستمرة، أعطت نتائج على الرغم من التعثرات، وما زالت معتمدة على الرغم من المتغيرات. فمنذ عام 1948 وحتى الآن أبادت إسرائيل" مئات القرى الفلسطينية وشيِّدت مئات المستوطنات على أنقاضها، وفي المدن الفلسطينية يجري الهدم والترحيل من جهة والبناء والاستيطان من جهة أخرى.. وبناء القوة وتعزيزها وتطويرها واستخدامها في عدوان متجدد، برنامج له الأولوية على كل برامج الصهيونية. بعد حرب 1948 تم بناء القوة النووية استثماراً للعدوان الثلاثي على السويس، وبعد حزيران 1967 بدأ الزحف الاستيطاني الصهيوني على الضفة الغربية وشرقي القدس استثماراً للاحتلال.. وعندما اصطدم جورج بوش الأب مع الاستيطان الصهيوني بعد حرب الخليج الثانية، وأوقف ضخ عشرة مليارات دولار أميركي لهذه الغاية، لم يدم فعله ذاك سوى أشهر استؤنف بعدها الضخ المالي الذي لم ينقطع لبناء المستوطنات والقوة العسكرية ومن ثم لبناء سور العزل العنصري وتطوير صناعة الصواريخ، واستمر تعزيز قوة جيش الاحتلال بكل الوسائل. وحين قرر شارون الانسحاب من غزة " التي لم يبتلعها البحر"، وإنهاء وجود مكلف بسبب المقاومة لفلسطينية وبقاء المستوطنين والمستوطنات هناك، حصل من جورج بوش الابن على تعويض وتفويض واعتراف بالخطة "الإسرائيلية" البديلة.. وهي قضم الضفة الغربية وإحكام السيطرة على القدس، في اختراق واضح فاضح لعدم اعتراف الولايات المتحدة الأميركية والعالم الغربي والأمم المتحدة بأية شرعية لأي تغيير يجريه الاحتلال الصهيوني في الأرض الفلسطينية المحتلة في الرابع من حزيران 1967 بما فيها القدس.. فقد جاء في الرسالة التي وجهها جورج W بوش إلى شارون بعد لقائهما في واشنطن/14  نيسان 2004 النص الآتي: ".. في ضوء الواقع الجديد على الأرض، وفيه وجود كتل استيطان إسرائيلية كبيرة، ليس من الواقعي توقع أن تكون نتيجة التفاوض في التسوية الدائمة انسحاباً تاماً شاملاً إلى خطوط وقف إطلاق النار في 1949". لم يكن ذلك اعترافاً أميركياً بالاستيطان في الضفة الغربية والقدس فقط وإنما إعطاء ضوء أخضر للاستمرار في ذلك البرنامج الاستيطاني الذي لم يتوقف. وعندما أعلنت حكومة أوباما أنها تطلب من " إسرائيل" وقف الاستيطان لكي يتقدم ميتشل في مهمته، ويتعزز موقف عباس وسلطته، وتُُستأنف المفاوضات الفلسطينية ـ الإسرائيلية.. ورَفَضَ نتنياهو الاستجابة للمطلب الأميركي، على الرغم من تأييد عدد من الدول الأوربية له، وأخذ يضع العراقيل.. وهرب إلى الأمام مطالباً بالتطبيع العربي والإسلامي مع "إسرائيل"، وبالقضاء على طموحات إيران النووية.. في مقابل وقف مؤقت للاستيطان لعدة أشهر.. عند ذلك، وبعد لقاءات ومشاورات،  تم تطويع الحديد الأميركي في سلسلة من التحركات كان آخرها لقاء ميتشل ونتنياهو في لندن 26/ 8 / 2009، واستمر التواطؤ الأميركي ـ الغربي مع الصهاينة ضد الفلسطينيين خاصة والرب عامة، ولم تُمَس الأهداف الاستراتيجية للكيان الصهيوني جوهرياً في الاستيطان وبناء القوة والنزوع إلى العدوان.

في لقاء ميتشل ـ نتنياهو الأخير في لندن، كانت الخطة الإسرائيلية عملية بما فيه الكفاية واستراتيجية بامتياز: تقديم القدس والاستيطان فيها على أية قضية أخرى من قضايا الاستيطان والتهويد، " القدس ليست مستوطنة وإسرائيل لن تقبل قيوداً على سيادتها هناك."، هكذا قال نتنياهو في مؤتمر صحفي بعد لقائه مع ميتشل، واستكمال بناء 2500 وحدة سكنية في الضفة كان قد بدأ البناء فيهما، وبناء داخل المستوطنات في إطار ما يسمونه النمو الطبيعي.. وتفكيك بعض البؤر الاستيطانية التي يسمونها غير شرعية.. وذلك خلال وقف معلن للبناء في الضفة الغربية مدته تسعة أشهر؟!. ولن يطلب الأميركيون من إسرائيل الإعلان عن تجميد البناء في شرقي القدس. وهذا الذي اعتبر تقدماً سيعلن عنه بوصفه نتيجة للقاء الذي يعقد في نيويورك في نهاية أيلول 2009 بين الرئيس اوباما ونتنياهو.

الكيان الصهيوني لم يخسر شيئاً ولم يضع وقتاً، ولم يوقف خططه ولكن أعاد ترتيب أولويات تلك الخطط، فالتخطيط لبناء المستوطنات والدراسات الهندسية لذلك، وتهيئة الظروف والإمكانيات وتوفير الأموال..إلخ كل ذلك مستمر وقائم على قدم وساق. وقد ظهر أمام الغرب كمن استجاب لمطالبه، ولكنه في الواقع قام بإعادة ترتيب الأوليات وفق الثوابت الاستراتيجية لا أكثر ولا أقل، فخلال هذه المدة التي ستعلن فيها " إسرائيل" عن وقف مؤقت للاستيطان في الضفة الغربية لن تتمكن من إنجاز أكثر مما يبدو أنه اتفق عليه في لقاء لندن، فالخطة الاستيطانية مستمرة ولكنها مبرمجة حسب المعطيات والضرورات والظروف والمرحلية السياسية.. إنها عملية تقدير فعلي للإنجاز الممكن واستثمار ذلك سياسياً، وانسجام مع سياسة التهويد المستمرة، لا سيما في القدس، قبل الوقوف على مشارف أي اتفاق محتمل على ما يسمى "دولة فلسطينية" مشوهة ومقطعة، ومجردة من السلاح، ومفتوحة الأجواء للعدو الصهيوني، ومحاصرة حيث لا تتصل ولا ترتبط بأية روابط ذات معنى مع الدول العربية الأخرى.. وظهور بمظهر من لا يخالف القرارات الدولية لا سيما القرار 1515 المتعلق بقبول إسرائيل لخريطة الطريق.

لن تستطيع "إسرائيل" إنجاز البناء في كل مكان من فلسطين والجولان، وحين تعطي للقدس أولية في الاستيطان والتهويد، تخرجها عملياً من التفاوض عليها مستقبلاً بفرض واقع على الأرض " لا يجوز القفز فوقه من وجهة نظرها ونظر حلفائها"، وأهم معالم هذا الواقع المستهدف: الاستيطان في مواقع حساسة من القدس الشرقية، والتمهيد الفعلي لبناء ما يسمونه الهيكل الثالث على أنقاض الأقصى، إن أمكن، أو في جواره.. وستعطى لحكومة عباس الأماكن المقدسة الإسلامية منقوصة، "حائط البراق" وبعض المقدسات المسيحية، وبعض الأحياء العربية في القدس.. ولكن بعد أن يتم قطع الاتصال بين القدس والمحيط العربي بالمستوطنات وسور العزل والطرق، وربط المستوطنات المحيطة بالقدس بعضها ببعض، وترحيل ما يمكن ترحيله من الأسر الفلسطينية المقدسية.. في برنامج "ترانسفير مستمر"، وبناء أحياء استيطانية يهودية حتى في حي باب العمود، قلب القدس. والتقدير هو " أن نتنياهو سيعمل على مستوى متدن من العلانية في القدس، كي لا يخلق استفزازا تجاه الولايات المتحدة والفلسطينيين."، ويستفيد من نصيحة آل شارون له " عندما تريد البناء، ابنِ ولا تتكلم.".. في إطار ما يبدو أن كل الأطراف اليهودية متفقة عليه ويحدده قول مجلس "يشع" للمستوطنين: ".. قال الشعب قولته في صالح استئناف وتطوير المشروع الاستيطاني وضد اقتلاعه.".

في الضفة الغربية سوف يستأنف العمل الاستيطاني الموسع بعد تسعة أشهر، والحيل الصهيونية كثيرة ومجربة، وهي تمتد من لا يوجد شريك فلسطيني إلى " حق إسرائيل في البناء في كل أرضيها"؟، وبالقوة حين يستدعي الأمر استخدام القوة، والاستثمار في اللعب على تنفيذ مطالب حكومة نتنياهو " طلب الاعتراف بإسرائيل دولة يهودية للشعب اليهودي"، وإعلان فلسطيني عن نهاية النزاع، وانتهاء المطالب بعد التوقيع على اتفاق سلام.".. وما يستجد من مطالب صهيونية لا صلة لها بأي منطق أو عدل أو رغبة في السلام.

القدس الآن هي مركز الاهتمام الصهيوني، مركز التهويد والاستيطان وتشريد سكانها العرب، وخلق واقع جديد فيها يوضع على طاولة المفاوضات ليخرجها من إطار المفاوضات.. القدس وأهلها ومكانتها الروحية والمقدسات الإسلامية فيها، على رأس الخطط الصهيونية.. وما يجري لها ولأهلها لا يحرك عملياً عربياً وإسلامياً يرتفع فوق مستوى الكلام.. فهل نلتفت إلى ما يهدد القدس تهديداً فعلياً، أم نبقى نجتر مقلات سياسية فارغة من أي مضمون يزاود فيها هذا الحاكم الربي على ذاك، وذا لسياسي على ذاك.. في حين يستمر المخطط الصهيوني للسيطرة النهائية عليها، والتواطؤ الغربي مع إسرائيل على عروبتها ومكانتها ومستقبلها؟

إن سؤال القدس اليوم هو مستقبل القضية، على الرغم من مكانة حق العودة  وأهميته في هذا المجال، لأن لقدس رمز للقضية بكل أبعادها، ورمز تمسك الشعب بأرضه وبقائه فيها وصمود في البيوت والأحياء والشوارع والمساجد والكنائس، وهي تقع في جوهر الصراع، وفي لب الرؤية المستقبلية لجوهر الصراع ولمستقبل قضية فلسطين وشعبها.. وعلينا أن نوليها من الاهتمام ما يرقى إلى مكانتها ورمزيتها وقداستها ومعاني وأبعد عروبتها.

فهل نحن فاعلون.. وهل نقول اليوم: القدس.. القدس.. القدس.. وهي جديرة بأن تكون القلب من القضية والاهتمام بها وصنع مستقبل الشعب والمقاومة والأمة؟

دمشق في 28/8/2009