خبر ديمقراطية حمل العبء وشعور الغرب بالرضى ..د. بشير موسى نافع

الساعة 11:55 ص|27 أغسطس 2009

ـ القدس العربي 27/8/2009

عندما كتب الشاعر الإنكليزي كيبلنغ مقطع قصيدته الشهير الذي تحدث فيه عن عبء الرجل الأبيض لم يكن يعبر عن مجرد شطحة شاعر أو غرور إمبريالي إيديولوجي، أو حتى عنصرية فجة. كان كيلنغ في الحقيقة يعكس في القصيدة المناخ الثقافي السائد للإمبراطورية في لحظة ذروة صعودها ونضوج رؤيتها لذاتها وللعالم.

بنيت الإمبراطورية بقوة التنظيم العسكري الأوروبي الحديث الذي أطلت به بروسيا على العالم منذ القرن الثامن عشر، وبنيت بتفوق النيران والحركة التكتيكية الفائقة، كما بنيت بسفن آلة الدفع الذاتي السريعة، المسلحة بالمدافع الثقيلة. ولكن ليس ثمة إمبراطورية في التاريخ إلا واستظلت بخطاب تسويغي، مبرر وجود يستجيب لنزعة توكيد الذات الإنسانية، يستند إلى مقولات عقلانية أو شبه عقلانية، حقيقية أو مزيفة. ولم يكن غريباً أن توفر الدارونية، منذ النصف الثاني للقرن التاسع عشر، التي هي نتاج العقل الإمبراطوري وأداته في الآن نفسه، المسوغ الأيديولوجي 'العلمي' للتوسع الإمبريالي.

في الأيديولوجيا الدارونية لم يكن المهم إمبريالياً الجدل حول 'أصل الأنواع'، بل المتعلقات اللاحقة حول تراتبية النوع الإنساني واعتبار العرق الابيض، والإنجلو ساكسوني على وجه الخصوص، ذروة هذه التراتبية.

ولأن فكرة التقدم تقع في القلب من التصور الجديد للعالم والتاريخ، أصبح الأخذ بيد البشرية إلى الأمام، سيما الأعراق والمجتمعات الأدنى منها، مسؤولية الرجل الأبيض، العبء الذي ألقاه التاريخ على عاتقه.

بنضوج المسوغ الأيديولوجي، لم تعد الإمبراطورية تعني هيمنة على الأمم والشعوب الأخرى واستغلالاً بشعاً لمقدراتها وتقويضاً لمواريثها، بل سعياً نبيلاً لتحقيق رفاهها وإرشادها إلى مصلحتها الحقيقية. لم يعد العالم منقسماً إلى مركز ضيق وصغير على الحافة الغربية الشمالية للقارة الأوروبية، وأطراف على امتداد الكرة الأرضية تعمل من أجل رخاء المركز، بل ميداناً لتجلي نكران الذات لدى بناة الإمبراطورية، من أبناء الطبقات الأوروبية العليا، وهم يفنون شبابهم وأعمارهم في صياغة العالم من جديد، ورسمه على صورة المركز المتحضر والمتقدم والأعلى موقعاً.

صحيح أن عملية إخضاع الهند بعد انتفاضة منتصف القرن التاسع عشر كانت في جوهرها سلسلة من المجازر الدموية والتدمير المنهجي لمجتمعات بأكملها، وأن احتلال الجزائر ومصر أنجز على أرضية من الكذب والخداع وباستخدام أقصى درجات العنف ووسائل القهر والإخضاع. لكن هذه هي طبيعة التحولات التاريخية والولادات الكبرى، التي لا يمكن أن تتحقق بدون قدر من الألم، ولا تتجلى بدون جراحات عميقة. خلف الإمبراطوريات الأوروبية المتسعة أبداً خلال القرن التاسع عشر ومطلع العشرين، كان النبل الإنساني للرجل الأبيض هو محرك التاريخ، وليس قوى النهب والسيطرة. أو هكذا رأت الإمبراطوريات الغربية نفسها.

بعد أقل من قرن على ولادتها، كانت الإمبراطوريات الغربية تؤسس لميلاد نقيضها التاريخي: حركات التحرر الوطنية في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية. وكما هو مكر التاريخ دائماً لم تخل حركات التحرر الوطنية تماماُ من عناصر ثقافة الامبرياليات الغربية المسيطرة. ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية كانت الجيوش الاستعمارية ترحل وتترك خلفها الكيانات القومية أو شبه القومية (التي رسمت الإدارات الاستعمارية حدودها من قبل) دولاً مستقلة.

وقد تغيرت معادلة القوة في العالم كذلك. فقدت بريطانيا وفرنسا وهولندا وبلجيكا ممتلكاتها الآسيوية والإفريقية، وصعدت الولايات المتحدة إلى مقدمة العالم الغربي، وخضعت لقيادتها، بصورة أو بأخرى، الإمبرياليات السابقة، عسى أن تصبح شريكاً في معادلة القوة الجديدة.

وكما صاغت القوى الغربية نظام العلاقات الدولية في الحقبة الإمبريالية السابقة، كذلك كانت هي من يصوغ نظام العلاقات الدولية الجديد، قوانينه وقيمه ومؤسساته وأدواته. لم يعد من الممكن، حتى في ظل علاقات الهيمنة والسيطرة الجديدة، إعادة بناء إمبراطوريات القرن التاسع عشر ومطلع العشرين، ولكن شيئاً من روح الحقبة السابقة ظل حياً في عقل وخطاب القوى الغربية وقيادتها الجديدة: الغرب هو مركز العالم، هو طليعته المتقدمة، ومعيار الحضارة والتقدم يتعلق في جوهره بمقدار الاقتراب من والتماثل مع قيم الغرب السياسية وأنظمته الاجتماعيه وثقافته.

خلال سنوات الحرب الباردة، ولاعتبارات التنافس والصراع بين المعسكرين الكبيرين، لم يكن ممكناً دائماً أن يعود الرجل الأبيض إلى تحمل أعباء نشر قيم الحضــارة والتقدم، سوى في حالات استثنائية، أخذت في أغلب الحالات طابع الانقلاب العسكري أو دعم قوة موالية للمعسكر الغربي ضد أخرى معادية.

ولكن ما أن انتهت حقبة الحرب الباردة حتى انطلقت الجيوش الغربية، أو استخدمت وسائل الحصار الاقتصادي والضغوط الدبلوماسية الهائلة، لتحقيق رغبة الرجل الأبيض الطاغية في إرضاء الذات، بنشر قيم وأنظمة الحضارة، أو حتى فرضها، على الشعوب التي لم يحالفها الحظ في الالتحاق بقاطرة التقدم الغربي.

ثمة أسباب عديدة يمكن أن تقرأ خلف غزو أفغانستان والعراق، بينها بالتأكيد في الحالة الأفغانية الهجمة الإرهابية على واشنطن ونيويورك في الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001. ولكن في كلتا الحالتين، كما في مجمل الحرب العالمية التي قادتها إدارة بوش، لم تعد الأسباب الأولية للحرب ذات أهمية في خطاب التسويغ وأيديولوجيا الاحتلال. المهم، والذي سرعان ما سيحتل المساحة الأكبر من الخطاب هو نشر الحريات بمفهومها الغربي وإقامة الديمقراطية، القضاء على الاستبداد وقوى الظلام، وتحقيق التنمية والرفاه. من فوهة البنادق وعلى دوي الطائرات القاذفة، بدأ التأسيس للديمقراطية في العراق وأفغانستان؛ وفي ظل من الضغوط السياسية والتدخلات الخارجية المباشرة وغير المباشرة، عقدت الانتخابات اللبنانية الأولى بعد الانسحاب السوري، ودفع محمود عباس دفعاً لعقد انتخابات المجلس التشريعي لسلطة الحكم الذاتي.

ولكن أياً من هذه الديمقراطيات لم ينعكس إيجاباً على الشعوب وحياتها.

الانتخابات الفلسطينية، كما هو معروف، جاءت بحكومة غير مقبولة غربياً، وسرعان ما فرض عليها حصار دولي وإقليمي، في توجه لا يخفى لتعليم الفلسطينيين درساً لن ينسوه في أن المقصود بالديمقراطية ليس انتخاب من يراه الشعب الأصلح، بل من تراه القوى الغربية الأفضل والأكثر جدارة بأن يحكم ويقرر مصير القضية الوطنية. والتجربة الفلسطينية، على أية حال، لم تدم طويلاً. فبتحريض غربي سافر حاولت قوى فلسطينية معادية لحكومة حماس الانقلاب على نتائج الانتخابات، مما أدى في النهاية إلى هزيمة هذه القوى وانقسام الفلسطينيين بين غزة ورام الله. الديمقراطية اللبنانية كرست الانقسام اللبناني السياسي الداخلي، وأضافت إلى الطائفية اللبنانية، المؤسسة منذ مطلع لبنان الانتدابي، تدافعاً سنياً شيعياً.  وسرعان ما انتهت التجربة اللبنانية الديمقراطية الأولى بعد الخروج السوري بما يشبه الحرب الأهلية الجديدة، عندما بسطت قوات حزب الله سيطرتها على بيروت بالسلاح. ولولا الحكمة العربية التي دفعت الأطراف اللبنانية المتصارعة إلى اتفاق الدوحة، لتحول انفجار الأسبوع إلى حلقة أخرى في حرب أهلية طويلة. أما الانتخابات اللبنانية الثانية، التي عقدت قبل أكثر من شهرين، فقد عجزت حتى الآن عن تشكيل حكومة مستقرة، وأصبحت نتائجها في مهب الريح، بعد انقلاب وليد جنبلاط على حلفائه. في العراق، الذي يعيش منذ أربع سنوات في ظل حكومة أفرزتها أول انتخابات برلمانية بعد الاحتلال، تحول نموذج التحول الديمقراطي إلى كابوس حقيقي، تصعب رؤية نهايته، من الموت اليومي، النهب المنظم واسع النطاق، والاستباحة غير المسبوقة منذ قرون لمقدرات البلاد الاستراتيجية وثرواته وسيادته.  لا يعيش العراق في ظل احتلال أجنبي وتدخلات إقليمية وحسب، بل وانقسم على نفسه طائفياً وقومياً، بحيث بات مشروع إعادة بناء وحدته ودولته المركزية بعيد المنال. وخلال الأيام القليلة الماضية، احتلت الانتخابات الأفغانية صدر صفحات اليوميات والنشرات الإخبارية في كبرى العواصم الغربية. هناك، بالطبع من شكك في مصداقية هذه الانتخابات.  ولكن الأجواء السائدة كانت أقرب إلى تهنئة الذات والشعور بالرضى؛ وكأن كل هذه التكاليف المادية والبشرية الهائلة والمتصاعدة للحرب في أفغانستان، لم تذهب سدى. قلة أشارت إلى حجم الفساد المستشري في حكومة كرزاي وطبقته الحاكمة (الفساد الذي لا يقل درجة، وإن قل حجماً، عن الفساد المستشري في العراق الجديد). وقلة أشارت إلى فقدان المعنى لانتخابات تجري بين متنافسين على الحكم بينما البلاد كلها تعيش حالة من الدمار وانتشار العنف والموت، وقد تحول معاشها إلى أسير لإنتاج المخدرات أو المساعدات الأجنبية. ليس ثمة من يمكنه الجدل حول، ناهيك عن المفاضلة بين، تكريس حق الشعوب في اختيار من يحكمها وإخضاعها لحكم استبدادي أو شمولي. السؤال ليس هنا. السؤال أن الديمقراطيات التي ولدت من رحم الغزو والاحتلال والضغوط والحصار الأجنبي تعبر عن رؤية الغرب لذاته ودوره وموقعه أكثر مما تعبر عن رغبة أو أماني الشعوب.  توفر الانتخابات الاحتفالية المتلاحقة من العراق إلى افغانستان غلالة التسويغ الأخلاقية للغزو والاحتلال، بينما تنقلب وبالاً على الشعوب. ولكن غلالة التسويغ هذه، على أية حال، ليست بالكثافة الكافية لتغطية الواقع الملطخ خلفها.