خبر يعطي العرب واشنطن بلا طلب.. فتأخذ إسرائيل منهم المزيد! ..طلال سلمان

الساعة 08:49 ص|19 أغسطس 2009

يعطي العرب واشنطن بلا طلب.. فتأخذ إسرائيل منهم المزيد!

طلال سلمان

 ـ السفير 19/8/2009

لا مجال لحصر المفارقات الموجعة في الحياة السياسية العربية، إن صحت نسبة هذه التحركات المرتجلة لأهل النظام العربي إلى السياسة.

ففي حين ينتشر الموفدون الأميركيون بقيادة الرئيس باراك أوباما وبمشاركته أحيانا، في مختلف أرجاء العالم، مع تركيز واضح على المنطقة العربية يطلبون المساعدة في إيجاد مخارج من مآزق تورطهم العسكري في كل من العراق وأفغانستان.

.. وفي حين يفرض التطرف الإسرائيلي على الرئيس أوباما أن يسحب مقترحاته المرتجلة حول مشروع «دولة» فلسطينية ما على بعض الأرض الفلسطينية المحتلة، في حين يصادر وحوش المستعمرين المزيد من أراضي الفلسطينيين ويزرعون فيها أعلامهم توكيداً لقرارهم بمصادرتها..

في هذا الوقت بالذات يتقاطر المسؤولون العرب في رحلات مبايعة وتأييد للإدارة الأميركية، معلنين استعدادهم لتلبية أي طلب وكل طلب مقابل أن يحظوا بدعمها ومساعدتها على مواجهة المآزق التي تحاصر أنظمتهم داخل بلادهم.

ومع أن معظم الدول العربية قد اتخذت إجراءات صارمة تحد من سفر رعاياها إلى الأراضي المقدسة لأداء مناسك الحج والعمرة في المسجد الحرام في مكة المكرمة، حرصاً على سلامتهم ومنعاً لتعرضهم للإصابة بوباء انفلونزا الخنازير، فإن قادة النظام العربي المحصنين ضد الأمراض يتابعون رحلات حجهم السياسي إلى البيت الأبيض في واشنطن واثقين من تحصينه ضد الأوبئة.

بعض القادة العرب يذهب إلى سيد البيت الأبيض طالباً مساعدته لحسم مشكلاته مع دول الجوار.

وبعضهم يذهب إليه بمشكلته الخاصة طالباً مساعدته «لتصحيح» الأوضاع داخل «دولته»، سواء بتفريج كربتها الاقتصادية، أو بتعزيز قدراتها العسكرية لتواجه أطماع الجيران، وأحيانا لتأكيد دعمه النظام في وجه الطامعين بالقفز إلى السلطة بوصفهم الأقرب إلى الإدارة الأميركية الجديدة، بينما أهل الحكم محسوبون على الإدارة السابقة.

الكل يطلب مساعدة واشنطن في حين أن الإدارة الجديدة في البيت الأبيض تعيش حالة من الاضطراب الشامل، بعد انقشاع غشاوة الانبهار بالرئيس الأسمر الشاب وحيويته وفصاحته وقدرته على مخاطبة الجمهور بلغة جديدة لم يألف سماعها ممن يشغل الموقع الأول في النظام الأميركي، قبل أن ينكشف عجزه عن اتخاذ قرارات مخالفة لما سبق أن اعتمده سلفه جورج بوش، تحت لافتة المصالح القومية للإمبراطورية الأميركية العظمى.

فلقد غدت مشكلة السلطة ومستقبلها في العديد من الأقطار العربية تتقدم على الأزمات التي يمكن اعتبارها وطنية أو قومية، وفي الطليعة منها، على سبيل المثال لا الحصر:

التداعيات المنطقية للاحتلال الأميركي للعراق، بكل الآثار المدمرة التي نجمت عنه، إن لجهة الخراب الشامل الذي أصاب بنية الدولة في هذا البلد العربي الغني بموارده الطبيعية، والذي كان مؤهلاً ليشكل قاطرة التقدم العربي نحو المستقبل.

..أو لجهة التداعيات المنطقية لاحتمال انسحاب قوات الاحتلال الأميركي من العراق الذي يبدو هيكل دولته الآن متصدعاً، ووحدة شعبه مهددة بالتمزق والنزعة الانفصالية عند أبرز قيادات الكرد مؤكدة بما يثير الاشتباه أن الاحتلال يشجعها ويرعاها بل ويحرضها على استكمال ملامح «دولتها» على حساب وحدة العراق، شعباً وكياناً سياسياً.

تتصل بذلك «التدابير الوقائية» التي ترى الأنظمة العربية المجاورة للعراق أن عليها اتخاذها حتى لا تلفحها نيران جهنم فتهددها في كياناتها التي أنشأها القرار السياسي، وفي الغالب الأعم خلافاً للطبيعة.

ربما لهذا تندفع دول الجزيرة والخليج إلى شن ما يشبه الحرب الوقائية على إيران... إذ يفترض قادتها أن إسقاط النظام الإيراني المصفح بالشعارات الإسلامية، أو إضعافه بحيث ينشغل بهمومه الداخلية، يمكنهم من حصر المضاعفات الناجمة عن احتمال تفجر حروب أهلية لا تنتهي في العراق، تحت شعارات إسلامية متضاربة بما يذكر بالفتنة الكبرى التي كادت تعصف بالدين الحنيف في لحظة إشراقته كبداية لتاريخ جديد للإنسانية.

هل هو حَوَل سياسي يأخذ هؤلاء القادة بعيداً عن المصدر الفعلي للخطر أم انه تطوع لحماية الاحتلال الأميركي للعراق والعمل لاستمراره بافتراض أنه عنصر حماية لأنظمة الجزيرة والخليج وضمانة استقرار، وذلك بتحويل ألسنة النار إلى الجهة الأخرى؟!

بالمقابل فإن القضية الفلسطينية، ونتيجة للفشل العربي المدوي في التصدي للجموح الإسرائيلي نحو السيطرة المطلقة على كامل هذه المنطقة، مفيدة من تفككها وتعطيل الإرادة الشعبية، قد تحولت إلى «مشكلة» لأهلها العرب بدل أن تكون مصدر أزمة مصيرية لهذا الكيان الطارئ والمزروع بالقوة في الأرض العربية.

لقد جرى تقزيم القضية الفلسطينية، بأبعادها التاريخية والسياسية والاجتماعية والعسكرية، واتصالاً بمستقبل الوجود العربي في هذه الأرض، أرضهم، إلى مجرد «مشكلة» ثم «أزمة»، وتم تغييب البعد العربي لتغدو وكأنها خلاف عقاري بين دولة عاتية، قدراتها العسكرية والاقتصادية غير محدودة، ونفوذها باتساع الدنيا كلها، وبين «مزق» من شعب مشرد، معظمه في المنافي، وبعضه رهائن في دول الجوار، ومن تبقى من أهله أسرى يتوزعون داخل كيان «دولة اليهود» أو من حولها في «ارض» لا دولة لها، بل شبه سلطة بوليسية خاضعة للمحتل في الضفة الغربية التي تلتهم المستعمرات الإسرائيلية ما تبقى لأهلها من أرضهم، أو محاصرة بالتجويع والاقتتال في غزة، حيث لا فرق بين عربي وإسرائيلي إلا... بالتشدد والتفنن في تضييق طوق الحصار على المليون ونصف المليون من أهلها الذين جاءوا إليها لاجئين بعد تهجيرهم من مدنهم وقراهم الفلسطينية..في الداخل!

كانت المرجعية العربية ذات يوم، للقمة العربية بوصفها «حكومة الحكومات العربية» ومصدر القرار في مختلف «الشؤون القومية»، وعنوانها قضية فلسطين..

ثم انفرط عقد الجامعة العربية وتهاوت مؤسساتها حتى صارت القمة العربية موضوعاً للتندر، أو مناسبة لافتضاح أمر العجز العربي والتخلي عن القضية المركزية فلسطين..

وانصرف كل نظام عربي إلى همومه الثقيلة في ظل تسليمه بهزيمته، فما عاد يعنيه إلا تأمين سلامته..

وكان طبيعياً أن تفيد إسرائيل من ذلك كله لتحييد الأنظمة العربية وإبعادها عن حومة الصراع، بدءاً بمصر، ثم الأردن، وصولاً إلى الدول البعيدة التي كان وهج الدم يسحبها إلى الميدان بقوة تعاطف شعبها مع فلسطين.

ثم إن إسرائيل أخذت تستفيد من صعوبة الأوضاع الداخلية في كل بلد عربي، لا سيما الأقرب بالجغرافيا إليها، وبالذات مصر والأردن، لتحييد النظام فيه، بل وتجرأت أكثر فأخذت تطلب «نجدة» بعض الأنظمة العربية لمساعدتها في تليين «التطرف» الفلسطيني، أو في نصرة «الاعتدال» داخل الصف الفلسطيني ولو كلف ذلك مسلسلاً من الحروب الأهلية الفلسطينية.

وها إن أهل النظام العربي يجتمعون الآن تحت راية «الجهاد» ضد الأصوليات الإسلامية في البلاد العربية، بينما حليفهم الطبيعي(!!) هو الأصولية الإسرائيلية المتطرفة في «دولة اليهود» المقامة بالقوة فوق ارض فلسطين، حيث المسجد الأقصى الذي بارك من حوله وحيث أسرى الله بعبده ليلاً من البيت الحرام.

أغرب ما يمكن تسجيله في هذا المجال أن إسرائيل قد نجحت في توظيف «التطرف الإسلامي» لاستمالة «الاعتدال الإسلامي» إلى صفها... وهكذا فقد رأينا إسرائيل تقاتل «حماس» في غزة، بكل أنواع السلاح، فتحرق فيها المؤسسات والبيوت، المدارس والجامعات والمساجد والملاجئ والمستشفيات، بينما أهل النظام العربي يدعمونها بشن حملة تشهير مقذعة ضد «التطرف الإسلامي» والنزعات الأصولية التي تريد إرجاع المسلمين إلى عصر الجاهلية!

من الصعب الافتراض أن زيارة الرئيس المصري حسني مبارك ستنتهي بنتائج باهرة: فلا الإدارة الأميركية في واشنطن في وضع يمكنها من أن تعطي الكثير، ولا النظام في مصر قوي بما يكفي، خصوصاً إذا ما تم النظر إليه من داخل أحوال المجموعة العربية، لكي يمكنه أن يطلب الكثير، إلا في ما يعنيه مباشرة.

من قال إن الإدارة الأميركية، أية إدارة، تريد مصر قوية، مؤهلة على مواجهة التحديات، وأولها وأخطرها التحدي الإسرائيلي؟!

إن واشنطن بحاجة إلى مساعدة العرب، لا سيما أهل المشرق منهم، لكي تخفف من مأزق احتلالها في العراق. وها هي تخرب كيانه ومستقبله بمساعدة عربية ثمينة، لكأنما معظمهم يرى في عراق المستقبل خطراً أشد من الاحتلال الأميركي، بكل تداعياته، وأخطر من الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين بكل انعكاساته المدمرة على الوجود العربي جميعاً، فضلاً عن أحلام التقدم العربي نحو السيادة والاستقلال والديموقراطية.

وها هي واشنطن تجافي السعودية لأنها لم تلبّ كامل مطالبها منها، فهي تحرضها على فتح أبواب الحرب مع إيران ثم توفد إلى طهران من يفاوض حكومة ولي الفقيه فيها..

وها هي تلعب مع سوريا لعبة هات وخذ: تطلب من دمشق الكثير، في العراق ولبنان وفلسطين، دون أن تلبي لها الحد المقبول من مطالبها وحقوقها في أرضها.

وعلى سبيل المثال: فإن واشنطن تفصل بين مطالبة سوريا بأرضها التي تحتلها إسرائيل في الجولان، وبين ما تقوم به إسرائيل على ارض فلسطين وفي مواجهة مطالبة الفلسطينيين بالحد الأدنى من حقوقهم في أرضهم، وتحاول أن تجري قسمة ضيزى: أعطوا إسرائيل في فلسطين لتأخذوا الحد الأدنى من حقوقكم في الجولان. وهذا يعني أن يعطي الجميع إسرائيل، تبرعاً، ثم لا يأخذ أي منهم شيئاً يستحق هذا العناء!

أما لبنان فأمره متروك إلى ما بعد تسوية مشكلات «الدولة اليهودية» مع محيطها ، ولسوف يظل وضعه معتلاً وأمنه مهزوزاً ليمكن استخدامه كورقة ابتزاز لأهله أولاً، وبالتحديد مقاومته، ومن ثم للعرب جميعاً.

إن كل مسؤول عربي يفضل أن يذهب إلى التفاوض مع واشنطن وحيداً. يتنصل من شركائه في المصير لعله يضمن استمرارية نظامه، ولو على حساب الآخرين... وهذا يضعف الجميع ويجعلهم رهائن لدى عدوهم الإسرائيلي.

ولن يعود أي مسؤول عربي من واشنطن «منتصراً» ومثقلاً بالهدايا... فالدول ليست جمعيات خيرية، وبالتحديد ليست الولايات المتحدة الأميركية بالذات، وكائناً من كان رئيسها، ولا إسرائيل على وجه التحديد، وسواء كان الحكم فيها للمتطرفين أو للأعظم تطرفاً، ملجأ أيتام، او دور رعاية للمسنين أو من جمعيات البر والإحسان.

المصالح هي جوهر الموضوع.

وليس العرب في وضع يمكنهم من تهديد هذه المصالح، بل إنهم يتسابقون لحمايتها، وغالباً بلا طلب.

فلماذا ستعطيهم واشنطن ما سبق أن تبرعوا به لها من حق القرار؟!

ولماذا ستتبرع لهم إسرائيل بما انتزعته منهم بالقوة؟!