خبر العراق الجديد: لصوص وقتلة وطائفيون ..د. بشير موسى نافع

الساعة 04:14 م|13 أغسطس 2009

العراق الجديد: لصوص وقتلة وطائفيون

 

د. بشير موسى نافع ـ القدس العربي 13/8/2009

أثار حادثة سطو دموي على فرع بنك حكومي عراقي في منطقة الكرادة من العاصمة بغداد ضجة لم تنته في الشارع العراقي. الحادث، الذي أودى بحياة سبعة من العراقيين، والذي أدى إلى استيلاء اللصوص المسلحين على أموال تعادل قيمتها ستة ملايين من الدولارات، وقع في منطقة نفوذ أمني للمجلس الأعلى، أبرز الأحزاب الطائفية الشيعية، والذي يقوده عبد العزيز الحكيم. ولكن نفوذ المجلس في الكرادة لم يكن هو السبب الوحيد الذي ربط بين حادث السطو والمجلس؛ فطبقاً لتقارير متفاوتة، اثنان إلى أربعة بين عصابة السطو، ينتمون لطاقم حراسة السيد عادل عبد المهدي، نائب الرئيس العراقي وأحد قادة المجلس الأعلى.

وبعد أن نجحت قوات الأمن في تعقب بعض أفراد العصابة، استردت الأموال المسروقة من مكاتب صحيفة العدالة، التابعة للمجلس. المدهش في الأمر أن عدداً من اللصوص، وبعضهم برتبة ضابط، فروا إلى إيران، مما يعني أنهم يفترضون لأنفسهم غطاء سياسياً، ولا يعتبرون مجرد لصوص عاديين. وإلا فكيف يمكن أن تصبح إيران ملاذاً لحفنة لصوص هاربين، لمجرد أنهم عراقيون شيعة؟

ثمة عدد من التفسيرات التي راجت في أوساط بغداد السياسية حول الحادث وعلاقة المجلس الأعلى به. أحد التفسيرات، أن طاقم حراسة نائب الرئيس مخترق من اللصوص، وأن النائب أو أيا من دوائر المجلس، لا علاقة له بالحادث من قريب أو بعيد. ما يضعف من مصداقية هذه النظرية أن حراس السياسيين العراقيين ينتقون عادة بعناية من هؤلاء السياسيين، وهم في الأغلب إما من الأقارب، أو من بين العناصر الحزبية الموثوقة التي أدخلت إلى أجهزة أمن الدولة بهذه الطريقة أو تلك. التفسير الثاني أن الحادثة ليست أقل من عملية حزبية ـ سياسية نفذت لصالح المجلس الأعلى، سيما أن هناك أدلة على أن تسهيلات أمنية وفرت لعصابة اللصوص من قبل عناصر المجلس المسيطرة على أمن منطقة الكرادة، وأن هدف العملية توفير الأموال الضرورية لحملة المجلس الانتخابية البرلمانية القادمة. التفسير الثالث، أن العملية قامت بها فعلاً مجموعة أمنية من المجلس الأعلى، ولكن بدوافع إجرامية وليس لدوافع سياسية، في ظل مناخ إجرامي واسع النطاق، يتداخل فيه السياسي وغير السياسي. ذيول القضية، على أية حال، لم تنته؛ فعوائل ضحايا الحادث توشك على ان ترفع دعوى قضائية ضد قيادات المجلس، بتهمة المشاركة في قتل أبنائهم؛ كما أن مصادر الداخلية العراقية تقول ان من قبض عليهم من أفراد عصابة السطو المجلسية، أفادوا بمسؤوليتهم عن عشرات حوادث القتل والاغتيال الأخرى في السنوات القليلة الماضية، القتل الطائفي أو السياسي.

في دولة غير العراق، مثل هذه الحادثة/ الفضيحة كانت ستؤدي إلى إطاحة كل الرؤوس السياسية ذات العلاقة المباشرة أو غير المباشرة. ولكن العراق الجديد (ذا السمة الديمقراطية البارزة)، ليس مثل أي دولة أخرى. دولة يضيع من حساباتها زهاء العشرين مليون دولار، ويقتل فيها البشر على قارعة الطريق، ويختطف فيها الناس على يد قوات أمنية رسمية أو شبه رسيمة، وتحتفظ فيها الأحزاب الحاكمة بميليشيات مسلحة، أقرب إلى الجيوش، ليست مثل أي دولة أخرى. ثمة من جادل بأن كشف حادثة السطو هو في حد ذاته دليل على سلامة أسس الدولة الجديدة. ولكن هذه، بالطبع، وجهة نظر هشة؛ فالجميع يعرف أن ما أدى إلى كشف خلفيات الحادث لم يكن سلامة النظام السياسي والقانوني للبلاد، بل الصراع الحاد والكراهية والانقسام الجذري بين صفوف الطبقة الحاكمة، التي جعلت دوائر الحكم العراقي الجديد أقرب إلى الإقطاعيات المتحاربة منها إلى بنية الدولة. قادة المجلس الأعلى تدخلوا بالفعل لدى رئيس الوزراء في محاولة لاحتواء الحادث والتغطية على أبعاده السياسية، ولكن كلاً من رئيس الوزراء ووزير الداخلية يرى في المجلس الأعلى خصماً سياسياً، ويريد رؤية المجلس وقد أطيح به في الانتخابات البرلمانية القادمة. إضافة إلى ذلك، فالحادث أدى إلى مقتل سبعة أشخاص، وأنباء علاقة العصابة القاتلة بالمجلس الأعلى كانت قد انتشرت في العاصمة العراقية، ولم يعد ممكناً بالتالي احتواء الموضوع أو التغطية عليه.

منذ أخذت الدولة الحديثة في التبلور في نهاية القرن السابع عشر، عرف تاريخ الدولة حالات عديدة ومتكررة من التحلل والانحراف والنهب والفساد، بعضها ما يزال من الممكن مشاهدته، سيما في المنطقة العربية. أغلب هذه الحالات نجم عن السيطرة الطويلة لمجموعة حاكمة على الدولة والحكم، مما أدى في النهاية، كما هو قانون الأجيال، إلى التحلل والفساد. في حالات أخرى، يتولد التحلل والفساد على خلفية من الحكم المطلق والتسلط والاستبداد. ولكن العراق هو حالة استثنائية بلا شك، حالة فريدة في تاريخ الحكم والدولة. هذا نظام يفترض أن يكون قد ولد على أسس ديمقراطية؛ وهو نظام سياسي تعددي، يضم قوى سياسية من كافة التوجهات والخلفيات؛ وهو نظام لم يزل قصير العمر، لم يتجاوز في صورته الانتقالية السنوات الست، وفي صورته البرلمانية الدستورية السنوات الأربع. ولكن تاريخ الدولة لم يعرف نظاماً بهذا العدد من اللصوص والقتلة ورجال العصابات المسلحة، نظام يتعهد خلال هذه الفترة القصيرة جداً نهب مقدرات دولة بحجم وثراء العراق، وتقويض الثوابت الاستراتيجية لدولة بمثل موقع ودور وتاريخ العراق، والسخرية من شعب بمثل إمكانيات الشعب العراقي البشرية. في البلاد التي عرفت مولد الدولة الأولى في تاريخ البشرية، لم يعد هناك من دولة. ما جعل نظام حكم عراق ما بعد الغزو والاحتلال يخفق في التحول إلى دولة، جملة من الأسباب وليس سبباً واحداً.

يتعلق أول هذه الأسباب بالعلاقة العضوية بين نظام الحكم العراقي الجديد والاحتلال. هذا، بالطبع، ليس أول نظام حكم يولد من رحم احتلال أجنبي؛ ولكن مشكلة الطبقة العراقية الحاكمة حتى الآن أنها عجزت عن فك ارتباطها بالاحتلال. رفضت الطبقة الحاكمة في أغلبها تبني الحركة الوطنية العراقية وأهدافها، وتماهت بالكامل مع خطاب الاحتلال. وليس خافياً أن بين حكام العراق الجديد، وليس في المنطقة الكردية فقط، من يرغب في استمرار وجود قوى الاحتلال الأجنبي، على هذا النحو أو الآخر. في ظل مثل هذه العلاقة المشتبكة مع المحتلين، يعاني النظام من فقدان شرعية مزمن، يضفي على طبقته الحاكمة شعوراً مزمناً بالانتقالية والخشية المستمرة من الانهيار. ثاني هذه الأسباب يتعلق بالأسس الانقسامية التي قام عليها نظام الحكم. ومشكلة العراق الجديد في هذا الصدد ليس أن هناك سابقة لبنانية في المنطقة للمحاصصة الطائفية؛ فلبنان ولد أصلاً ولادة قيصرية على يد الانتداب الفرنسي، وولد من البداية باعتباره دولة محاصصة طائفية؛ وهو على أية حال لم ينجح في تحقيق الاستقرار مطلقاً من لحظة ولادته. العراق، من جهة أخرى، ولد موحداً، طائفياً وإثنياً، وظل كذلك طوال أكثر من ثمانين عاماً. أن يعاد إنتاج دولة موحدة في هيكل دولة منقسمة على ذاتها، لن يؤدي في النهاية إلا إلى صراع مستديم على القوة والثروة، ليس على مستوى العراق ككل فحسب، ولكن أيضاً على مستوى دوائره الإثنية والطائفية. أما السبب الثالث فيتعلق بنوعية الطبقة العراقية الحاكمة الجديدة؛ إذ لم يحدث منذ زمن طويل أن اجتمع مثل هذا العدد من الشخصيات الرديئة لحكم بلد بحجم وتعقيد وحساسية بلد مثل العراق؛ شخصيات تفتقد ليس إلى معرفة شروط بناء الدولة، وليس إلى معرفة وطنها وتاريخه وشعبها وميراثه وحسب، ولكنها غارقة أيضاً في مشاريع سيطرة طائفية وانشطارات قومية. يمكن أن يوصف قادة العراق الجدد بكل صفة ممكنة، من قيادة الميليشيات والسفاهة الطائفية إلى العبث بالأموال العامة، ولكن أحداً لا يمكن أن يطمئن إلى وصفهم برجال الدولة. قلة قليلة بينهم في الحقيقة يمكن أن تؤتمن على إدارة شؤون حكم ودولة لوطن تعرض لأكثر من عقد من الحصار، لأكثر من حرب خلال ربع قرن من الزمان، وإلى احتلال أجنبي أهوج. والأكثر فداحة، أنه في حين أن الدول لا تقام بدون قدر ضروري من الإجماع حول قضايا الوطن الأساسية ومصالحه، فإن الطبقة العراقية الحاكمة لا تكاد تجمع على شيء، اللهم سوى المشاركة في أكبر عملية نهب تعرض لها وطن في التاريخ كله.

ولأن أسباب إخفاق الدولة العراقية الجديدة وفشل حكامها متعددة، فليس ثمة مؤشر واحد للحكم على الوضع العراقي. لفترة ما خلال العامين الماضيين كان الملف الأمني هو المؤشر الأبرز، على اعتبار أن أحوال البلاد الأمنية أخذت في التحسن. ولكن الأسابيع الأخيرة شهدت تدهوراً متزايداً للوضع الأمني في معظم أنحاء البلاد. لا مستوى الخدمات الأولية، من ماء وكهرباء، يمكن أن يوصف بالمرضي، ولا العلاقة بين القوى السياسية يمكن وصفها بالصحية، حتى بين صفوف الأحزاب ذات الخلفية الواحدة. وإلى هذه الصورة البائسة، تمكن إضافة التعقيدات غير القابلة للحل بين الحكومة المفترض أن تكون مركزية وحكومة المنطقة الكردية شبه المستقلة. العراق، باختصار، لا يزال في طور الانتقال، ويخطئ من يظن أن دولته الجديدة قد تكونت، أو حتى أوشكت على التكوين.