خبر إيران... ومعايير قوة الدولة! ..وحيد عبد المجيد

الساعة 04:13 م|13 أغسطس 2009

إيران... ومعايير قوة الدولة!

 

وحيد عبد المجيد ـ الاتحاد 13/8/2009

لم يغير الرئيس باراك أوباما سياسته القائمة على معالجة الأزمة الإيرانية عبر الحوار. مازالت دعوته إلى هذا الحوار قائمة، لكنها تختلف الآن عما كانت عليه قبل اندلاع أزمة الانتخابات الرئاسية التي أُجريت في 12 يونيو الماضي. كان أوباما مستعداً لحوار شامل مع إيران، أي يشمل القضايا الأساسية في منطقة الشرق الأوسط. وقد أثار هذا التوجه قلق دول عربية خشيت أن يكون الحوار الأميركي -الإيراني على حسابها إذا نجح. فأحد السبل التي تتيح نجاح حوار حول قضايا عدة هو إبرام صفقة بين طرفيه قد تقتصر على تبادل المصالح، لكنها قد تصل إلى نوع من اقتسام النفوذ.

لكن تحليل خطاب أوباما خلال الشهرين الأخيرين يفيد أنه بات يركز في الحوار حول برنامج إيران النووي بالأساس. وحتى على هذا المستوى، يتعرض الرئيس الأميركي إلى ضغوط بعضها من داخل إدارته. وبمنأى من تحرك اللوبي الموالي لإسرائيل ومواقف السياسيين والإعلاميين الأميركيين الذين يتطابقون معها، يبدو مقنعاً منطق من يطالبون أوباما بأن يكون أكثر حذراً بشأن الحوار مع إيران.

لا يمكن بناء مقومات القوة الشاملة لأية دولة إذا كان نظامها السياسي قائماً على الاستبعاد الذي يحرمها من طاقات بعض أبنائها القادرين على الإسهام في هذا البناء

والأرجح أن سياسة أوباما تجاه إيران ستعتمد على نتائج عمل فريق مساعديه الذي يعارض إبداء أي ليونة إزاء طهران، وهو ما قد يتضح في نهاية المهلة التي منحها أوباما لإيران حتى انعقاد قمة العشرين قبل آخر سبتمبر المقبل.

وفي غضون ذلك، يبدو أن الشك في جدوى الحوار مع إيران آخذ في الازدياد في أوساط إدارة أوباما. فكيف يمكن لحوار مع إيران المأزومة داخلياً أن يؤدي إلى نتائج يمكن الوثوق فيها؟ هذا هو السؤال المطروح الآن. فحكومة أحمدي نجاد التي هزتها الاحتجاجات، تعاني نقصاً في شرعيتها. بل تبدو إيران كما لو أنها صارت أضعف مما كان ظاهراً قبل هذه الأزمة. لكن الأقرب إلى الدقة هو أن الأزمة أظهرت نقطة ضعف جوهرية في نظامها السياسي وأوضاعها المجتمعية. لكن هذه ليست مجرد نقطة ضعف في دولة قوية أو تتمتع بكثير من نقاط القوة.

فلا يمكن أن تكون الدولة، أية دولة، قوية بينما حكومتها عاجزة عن وضع حدٍ للاختلالات المترتبة على انقسام عميق في مجتمعها لأنها جزء من هذا الانقسام. فما الدولة إلا شعب (وبالتالي مجتمع) وحكومة، إلى جانب الأرض.

ولا يكفي أن تمتلك الدولة سلاحاً متزايداً وقابلاً للتحديث المستمر فتكون دولة قوية. فليس السلاح إلا أحد عناصر قوة الدولة التي أصبحت جوانبها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والعلمية أكثر أهمية. وكم من دول انهارت وهي مدججة بأحدث الأسلحة. وفي حالة الاتحاد السوفييتي السابق عبرة وعظة. فقد انهارت الدولة (الإمبراطورية) السوفييتية، بينما كان لديها من الأسلحة النووية ما يكفي لتدمير العالم عدة مرات.

بيد أن الإحباط المتراكم بفعل الفشل في حل قضية فلسطين، وفي حماية شعب عربي من الاعتداءات الإسرائيلية، وفي وضع حد لظلم طال أمده... يجعل شعوبنا هي الأكثر ولعاً بالخطاب السياسي الذي يمجَّد القوة العسكرية.

فالوعي العام في منطقتنا لا يسمح بإدراك أن إسرائيل تفوقت علينا لأسباب سياسية ومجتمعية واقتصادية، وأن لهذا التفوق أساساً معرفياً خلق فجوة هائلة كانت وراء اختلال ميزان القوى لمصلحتها. وهذا هو ما يغفله، أو يتجاهله، القادة الإيرانيون حين يظنون أن قدرتهم على عسكرة برنامجهم النووي، وعلى تطوير الصواريخ الباليستية وبعض الأسلحة التقليدية، وإمساكهم بأوراق في داخل العالم العربي، يغني عن بناء مقومات القوة الداخلية التي يبدو بعض الإصلاحيين أكثر وعياً بأهميتها الفائقة.

فلا يمكن بناء مقومات القوة الشاملة لأية دولة إذا كان نظامها السياسي قائماً على الاستبعاد الذي يحرمها من طاقات بعض أبنائها القادرين على الإسهام في هذا البناء. وكلما توسع نطاق الاستبعاد، ازدادت آثاره السلبية على إمكانات بناء مقومات القوة الشاملة. وقد أظهرت الانتخابات الرئاسية الأخيرة، أن هذا الاستبعاد بلغ ذروة غير مسبوقة. كان نظام الجمهورية الإسلامية قادراً بالكاد، قبل الأزمة الراهنة، على استيعاب بعض التباينات الداخلية الطبيعية من خلال صيغة تعددية مقيدة ومحكومة من أعلى ومقصورة على أنصاره الملتزمين بمبادئه الأساسية وفي مقدمتها "ولاية الفقيه"، وهي صيغة "الديمقراطية الدينية" أو "حاكمية الشعب الدينية". ورغم أن هذه الصيغة استبعدت بعض أنصار النظام، وليس فقط المختلفين مع مرتكزاته، فقد مكنَّته من استيعاب بعض الطاقات التي عملت في خدمته وساهمت في تدعيمه. كما أتاحت له هذه الصيغة أن يرسم لنفسه صورة ديمقراطية في الخارج من خلال التنافس الذي حدث في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية.

لكن النظام الإيراني لم يتمكن من الاستمرار في هذه الصيغة التي لم تكن كافية، أصلاً، للاستفادة من طاقات المجتمع التي لا غنى عنها لبناء قوة حقيقية. والأرجح، على هذا النحو، أن تضعف قدرة إيران على تحقيق ما تصبو إليه من قوة وأن يصبح الوضع السياسي الداخلي مصدر ضعف متزايد، بينما سيكون صعباً تغطية الوهن الاقتصادي الناجم عن سوء الأداء وتبديد الموارد لحساب سياسة إقليمية راديكالية تستهدف مد النفوذ عبر الإمساك بأكبر عدد ممكن من الأوراق في المنطقة، خصوصاً إذا فُرضت عليها عقوبات دولية إضافية.

وليست التجربة السوفييتية، وما آلت إليه، وحدها التي يتجاهلها صانعو هذه السياسة المفتونون بالقوة العسكرية. فهم يغفلون أيضاً التجربة الصينية الملهمة في هذا المجال. فلم تنهض الصين وتبهر العالم وتصبح قوة كبرى يُحسب لها ألف حساب إلا بعد أن طوت صفحة نظام ماوتسي تونج الذي اختزل القوة في السلاح الذي تمتلكه الدولة والعقيدة الثورية التي تتمسك بها.

ويبدو أن للأمم حظوظها الحسنة والسيئة مثلها مثل الأفراد. فقد أدت مصادفات تاريخية، منها مثلاً نجاة "دينج سياو بينج" من مذابح "الثورة الثقافية" وما تلاها، إلى تغيير مسار الصين كلياً بعد رحيل ماوتسي تونج. فقد تولت السلطة فيها قيادة عاقلة أدركت أن الدولة المدججة بالسلاح لا تكون قوية بالضرورة، وأن امتلاك السلاح النووي منذ مطلع ستينات القرن العشرين لا يغني عن بناء نظام اقتصادي ناجح والانفتاح على العالم بدون خوف. لذلك لا يتحدث أحد الآن في الصين أو خارجها عن قدراتها النووية الكبيرة. فالحديث كله منصب على قدراتها الاقتصادية وإنتاجها الذي غزا العالم وحقق لها المكانة الرفيعة التي تنعم بها، وفتح الأفق أمامها رحباً لأن تأخذ مكانها تدريجياً بين القوي الأكبر في العالم اليوم. وحين يشعر الصينيون الآن بالفخر القومي فلأنهم يقرأون عبارة "صنع في الصين" في كل مكان يذهبون إليه، وليس لامتلاكهم سلاحاً نووياً وقدرة عسكرية هائلة.

تعاملت "الصين الجديدة" مع العالم كما لو أن لا سلاح لديها ولا قدرة نووية تمتلكها، مدركة أن القوة العسكرية لم تعصمها من الوصول إلى حافة الكارثة حتى صارت مهددة بانهيار شامل عشية رحيل ماوتسي تونج.

وبدلاً من أن تخيف الصين جيرانها بقوتها العسكرية وقدرتها النووية، أصبحت تغزو العالم كله بمنتجاتها التي تعبر عن قصة نجاح اقتصادي هي أكبر وأهم مقومات قوتها الشاملة الآن. وأصبح بإمكان الصينيين أن يصنعوا مجد أمتهم العظيمة بالعمل المنتج والاقتصاد المتقدم والإنتاج الغزير، وليس بالقوة العسكرية والقنبلة النووية.

ويرفع الإنسان الصيني، اليوم، رأسه عالياً وهو يرى تفوق دولته ونجاحها المتزايد يوماً بعد يوم، وتتغير مشاعره تجاه دول وأمم أخرى تسلطت على شعبه في مراحل سابقة ويتجاوز العداء البدائي من النوع الذي ينطق به الخطاب السياسي الإيراني السائد، إلى صراع حديث يخوضه من خلال العمل والإنجاز والنجاح والتفوق والحضور القوى الفاعل والمؤثر في قلب العالم.

وهذه هي القوة الحقيقية التي لا تعرفها إيران المفتون قادتها بقوة من نوع آخر لم تعصم دولة عظمي من الانهيار ولم تعتمد على مثلها الدول الكبرى الصاعدة بثبات واقتدار إلى قمة النظام العالمي.