خبر ماهر رجا يكتب .. « فتح » وخيارات المفترق: ماذا بقي من « الثورة » ؟

الساعة 09:18 ص|12 أغسطس 2009

"فتح" وخيارات المفترق: ماذا بقي من "الثورة" ؟

ماهر رجا

كان منظمو مؤتمر فتح السادس يحاولون القيام بمهمة عسيرة لجمع كل المتناقضات التي مرت بها الحركة خلال عشرين عاماً منذ مؤتمرها الخامس، في صورة واحدة.

في الرابع من آب الجاري، في بيت لحم حيث ظلال الاحتلال لا تبتعد عن الطرقات والحياة اليومية، كانت فتح تحاول استعادة الوجود والهوية أو الإجابة على سؤاليهما على الأقل. وقد جرى إعداد المشهد بعناية، وبدا أن كل إشارة وإضافة ولمسة في قاعة المؤتمر تريد أن تقول إن الماضي مازال موجوداً، وإن فتح الأولى حاضرة على نحو ما ؛ الكوفيات وكلمات " الحرية " وعبارات تمجيد الوطن المعلقة على المنصة وكذلك الأحاديث عن ثوابت فتح كانت كلها تشارك في رسم المشهد. أما أعضاء المؤتمر فأكثرهم في الضفة الغربية أتوا في محاولة البحث عن مجد مضاع وتقديم وجه فتح بعد أكثر من أربعين عاماً بصورة الحركة التي تجاوزت الصعاب وانتصرت. لكن ذلك كان أشبه بواقع افتراضي، وقد ألبس الجسد المثخن المنهك ما لا يعكس حقيقة الأمر وراء الثياب.

افتتح المؤتمر السادس لحركة فتح بالكثير من الشعارات والكلمات الافتتاحية التي لم تعفل الحديث عن الثوابت الوطنية، لكن الكلمات التي تحتال على تعريف الواقع لا تستطيع إخفاءه سواء على الصعيد السياسي أو على صعيد واقع فتح الداخلي ، فالحركة مثخنة بالتمزق والجراح التنظيمية والسياسية ولعله كان معبراً مشهد إحدى الفتحاويات وهي تبكي عند ضريح عرفات .. يمكنك أن تفهم ذلك بالصورة التي تطرح نفسها الآن : إنه الوقوف أما غياب فتح – الثورة، والبكاء عليها عبر البكاء على رجل واجهه قادتها الحاليون حين حاول العودة بالحركة إلى مجالها الحيوي الأول : المقاومة.. كان ذلك آخر الأحصنة وها هي  فتح  تقف منذ عقدين من الزمان أمام سؤال الوجود.

ستة مؤتمرات لخمسين عاماً من مسيرة طويلة تغير فيها الكثير، فالحركة التي عرفت مؤتمرين تحضيريين في الكويت عام 1962 وفي دمشق عام 1963 ، عقدت مؤتمرها الفعلي الأول في دمشق بعد حرب حزيران 67  ثم تلاه بعد عام المؤتمر الثاني في يوليو 1968، ثم المؤتمر الثالث 1971والمؤتمر الرابع 1981. وخلال تلك السنوات لم يحدث تحول في خطاب حركة فتح وبرنامجها السياسي، على أن البوادر أخذت بالظهور في المؤتمر الخامس 1988الذي تبنى تأييد مشروع التسوية الساسية على أساس القرارات الدولية لكن دون ان يسقط خيار الكفاح المسلح.

منذ ذلك الوقت ، دخلت فتح أرضاً سياسية أخرى ثم غابت تنظيمياً شيئاً فشيئاً بعد أن قبلت الذوبان في السلطة الفلسطينية ومؤسسساتها منذ العام 1994، وقد أسفر ذلك أحياناً عن صراع بلا ضجيج عال بين مؤيدين ومتحفظين أو رافضين لغياب الحركة  السياسي والتنظيمي في إطار السلطة.

تلك حقيقة لم يكن ممكناً إخفاؤها ، فقد دخلت الحركة نفقاً سياسياً طويلاً أفقدها الكثير من حقائقها الأولى؛ ترهل الجسد التنظمي، تشرذمت القاعدة والقيادة معاً أو أن هناك من اراد لها ذلك، اتسع الفساد واحتد الانقسام، والاهم من كل ذلك أن وجه الحركة السياسي الأول كحركة تحرر وطني غاب تماماً أو  ذاب في موقف السلطة وأدائها بحيث بات من السذاجة استخدام تعبير استعادة الهوية في المؤتمر السادس، فأي هوية هي تلك بعد أن انزلق الكثير من الرمل في ساعة الوقت الاولى وتغيرت صورة جسد فتح وإطارها التنظيمي كما تغير أساساً متجهها السياسي.

في هذه الظلال، كانت فكرة عقد المؤتمر السادس تقف في الأشهر القليلة الماضية بين توجهين في حركة فتح والسلطة في رام الله؛ اتجاه يرى اهتمامه الأساسي محصوراً في السلطة الفلسطينية بوصفها "إنجازاً " ويعتبرهذا الاتجاه أن عقد مؤتمر فتح وتوحيد الحركة وإنهاء شرذمتها هي ضرورة بالغة بهدف أن تكون الحركة داعماً صلباً  للسلطة الفلسطينية وتوجهها السياسي وحضورها التنظيمي في مواجهة قوى سياسية يتزايد صعود نجمها كحركة حماس . لكن من يفكرون على هذا النحو  كانوا يتوجسون من أن يتحول المؤتمر إلى محفل للمواقف السياسية والوطنية التي من شانها أن تعكر صفو الأداء السياسي للسلطة وقد تغضب إسرائيل.. واتجاه ثان  راح يتطلع إلى المؤتمر السادس من موقع البحث عن فتح واستعادتها في مسيرة العمل الوطني الفلسطيني بكل ما يعني ذلك من مفاهيم استعادة الهوية واللحمة التنظيمية والألق والهيبة التاريخية للحركة وخطها المقاوم أو بكلمة أدق التوجه الذي حدده المؤتمر الخامس الذي نصت وثائقه على عدم التخلي عن خيار الكفاح المسلح.

في كل الأحوال بكّر مؤتمر فتح في إظهار أول تناقضاته، فلأول مرة تعقد الحركة الفلسطينية التي عرفت كحركة ثورية مسلحة منذ أكثر من أربعين عاماً مؤتمرها العام في أرض محتلة، وكان هذا الأمر مدار جدل وخلافات تواصلت خلال الأشهر الماضية في قواعد فتح وأطرها السياسية الأعلى قبل أن يحسم السيد محمود عباس الأمر بحل اللجنة التحضيرية للمؤتمر وحسم موضوع المكان لجهة عقد المؤتمر في الضفة الغربية المحتلة. وهذا الختام للجدل كان يحمل تفسيرات مختلفة منها أن عقد المؤتمر في بيت لحم يتيح لاتجاه واسع التحكم بلائحة العضوية والنصاب بما يضمن حدوداً مضبوطة للمواقف السياسية في المؤتمر ولدى الحاضرين، وكان إشكالياً مثلاً عدد أعضاء المؤتمر حيث جرى تحديده قبيل الانعقاد بأسبوع بـ1500 ثم أصبح في يوم الرابع من آب 2300 معظمهم من الضفة الغربية على الرغم من غياب 400 عضو يمثلون الحركة في غزة ولم يتمكن معظمهم من الحضور.

في واقع من هذا جرى على نحو ما  نوع من التجديد في المجلس الثوري واللجنة المركزية لكن مع الاحتفاظ بالطابع القديم وبهيمنة رموزه وعقليتها السياسية والتنظيمية كما أن صعود بعض من رسم أداؤهم علامات استفهام خلال الأعوام الماضية ، صعود هؤلاء إلى اللجنة المركزية حمل دلالات عن مدى قوة الاتجاه الذي الذي طالما هدد وحدة فتح ومضى به إلى أنفاق معرضة للانهيار. وبإسدال الستار يمكن استنتاج امرين:  أولاً أن مؤتمر بيت لحم بالعموم بدا منسجماً في الجانب السياسي لجهة تحويل فتح إلى حزب للسلطة، ومع وجود إشارات إلى أن فتح اتحدت فعلاً فإن هذه الوحدة وقفت على أرض سياسية شائكة رسمتها السلطة بخياراتها، ناهيك عن ملاحظة أساسية بأن فتح لم تكن كلها موجودة بالمعنى التمثيلي في بيت لحم، وكي يتمكن أهل السلطة واتجاه في قيادة فتح من إيصال المؤتمر إلى "النجاح" بمعاييرهم، حرصوا على عضوية من لون واحد قدر الإمكان.. كان معظم الأعضاء من الضفة، وأرسلت الدعوات إلى ما يمكن اعتبارهم "عينات" منتقاة سياسياً في الشتات الكثير منهم لاعلاقة قديمة له بتاريخ الحركة ومسيرتها.

 

"انطلاقة ثالثة" برصاص سياسي

المسألة الأكثف حضوراً والتي لم يغادر شبحها قاعة المؤتمر هي القضية السياسية.. ففتح التي تريد استعادة تماسكها وحضورها تدرك أن هذا القطوع متعلق أولاً بالأساس السياسي، وقد حدد رئيس حركة فتح والسلطة السقف السياسي الذي يمكن للحركة أن تتحد تحت ظلاله حين ذهب إلى حد الدفاع عن اتفاق أوسلو واعتبره انجازاً وألح على تمجيد "المهمة الأمنية" التي أفرزها الاتفاق وخارطة الطريق في مواجهة المقاومة، ولم تكن البلاغة الخطابية التي استخدمت قادرة على إخفاء هذا التوجه.

كانت فتح حركة تحرر وطني حين انطلقت عام 1965، وهكذا عرفت نفسها في أدبياتها وأسهمت بدور أساسي في إرساء الميثاق الوطني الفلسطيني الذي يتمسك بالكفاح المسلح. لكنها بالمؤتمر السادس تمضي إلى تكريس وضع جديد يمحو ملامحها التاريخية رغم محاولة ياسر عرفات وكتائب شهداء الأقصى استعادة جزء من تلك الملامح خلال أعوام الانتفاضة الثانية.

وإذا كان من الطبيعي أن تتطور البرامج السياسية وتتوافق مع الظروف والمتغيرات، فإن ثمة ثوابت يصبح المساس بها مساساً بهوية التنظيم وحقائق وجوده، ومنذ اللحظات الأولى والكلمات الاولى في الجلسة الافتتاحية للمؤتمر كان واضحاً أن الاتجاه يمضي نحو تكريس هوية أخرى مختلفة تماماً لحركة فتح كحزب للسلطة وظل لها ،  ومع أن هذاالأمر قد شهد محاولات إرسائه على الأرض خلال العشرين عاما الماضية، فإن المؤتمر السادس انتج "فتح" سياسية جديدة وبخاتم وتوقيع رسمي ممن جمعتهم بيت لحم. وقد كان توصيف المؤتمر السادس بأنه انطلاقة ثالثة محط تأمل إذ بدا اختياراً لعبارة تشير بدقة إلى حقيقة التوجه الذي قرر المؤتمر السادس لحركة فتح تكريسه ، وبالتالي فإن الانطلاقة الأولى التي كانت رصاصاً عام 1965 ومن ثم التأكيد على لغة الرصاص في المؤتمر الثاني عام 68 الذي يسميه أبناء فتح  انطلاقة ثانية ، يصبحان بهذا المفهوم تمهيداً لما أسمته وثائق المؤتمر الانطلاقة الثالثة ، لكنها انطلاقة برصاص اشتباك سياسي فقط أو كما قال السيد عباس : نحن أول مطلقي الرصاصة الأولى  وأول مطلقي الواقعية السياسية..

يعني ذلك أن فتح تنتهي بصورتها الأولى ونهائياً. لا كفاح مسلحاً ولا من يحزنون ، ولم يغير التلاعب في الألفاظ واقع الحال وإن كان خفف من هواجس بعض ابناء فتح. وبلا شك يدرك قادة الحركة وعلى رأسهم السيد عباس صعوبة تمرير إسقاط أهم ملامح فتح التاريخية وترسيم ذلك في مؤتمر عام للحركة، لكنهم تمكنوا من ذلك كما يبدو، وقد تنبه السيد عباس إلى حساسية الموقف فناور بذكاء في كلمته حين أن الحركة تحتفظ بحق المقاومة التي تكفلها القوانين الدولية. لكن الثابت الأساس في موقف القول بدا واضحاً في الدفاع المستميت عن "إنجازات" الامن والخبز وحزام الأمان في السيارة في رام الله ، وشهر التسوق في نابلس ثم في العبارة البائسة "الشعب يريد أن يعيش حياته الطبيعية" لكأن الحديث يدور عن شعب أنجزا كل تطلعاته السياسية وبقيت لديه مشكلة حزام الأمان والتكلم على الهاتف أثناء القيادة وأوراق جواز السفر والتسوق وإلخ!!

على هذه الأرض من المفارقات ، بدا بدقة حجم ارتباط استعادة فتح بالتوجه السياسي القادم للحركة، وواقع الحال أن اللون الواحد للسواد الأعظم من جمهور المؤتمر دفع نحو هذه النهاية بتبني خط التسوية السياسية، مع الاحتفاظ بعبارة حق المقاومة إنما دون ذكر أية آليات بحيث بدت عبارة للتسويق الإعلامي.وبالتالي فإن من يريدون استعادة الحركة ووحدتها وحضورها وتخليصها من الفساد والغياب توزعوا في خانات متقاربة،  ولنعترف أن  أقلهم حضوراً من يرفضون إسقاط خيار المقاومة وعلى نحو أكبر هناك من  يقولون بتسوية سياسية مضبوطة ومشرفة.

وقفت فتح (أو بكلمة أدق مؤتمر بيت لحم) على المفترق الأخير.. وفي لحظة الاختيار السياسي قرر المضي في طريق الكارثة  .. ويبقى السؤال بعد المؤتمر الأخير لفتح: ما الذي بقي من الثورة.. ما الذي بقي من فتح في ظلال "السلطة"؟