خبر تغيير مكانة إسرائيل في العالم العربي ..افرايم كام

الساعة 04:59 م|10 أغسطس 2009

ـ السفير 10/8/2009

سعت دولة إسرائيل منذ إنشائها إلى إقامة علاقات سلام مع جاراتها العربيات وأن تقبل في العالم العربي ككيان سياسي مشروع. وكانت فرضية العمل لديها أن اندماجها في المحيط الشرق أوسطي حيوي لتطورها السياسي والاقتصادي، ولتقليص مشاكلها الأمنية ولضمان مستقبلها. غير أنه حتى سنوات السبعينيات من القرن العشرين تمّ رفض آمال إسرائيل من جانب الدول العربية، التي تعذّر عليها التسليم بهزيمتها في حرب 1948 وأملت بأن تتمكن من إبطال نتائجها. كما أنه بعد هزيمة العرب الشديدة في حرب الأيام الستة رفضت الدول العربية كل محاولة للتسليم بإسرائيل، والتعبير الأبرز لذلك كانت اللاءات الثلاث للقمة العربية في الخرطوم، والذي اجتمعت بعد تلك الحرب: لا للسلام مع إسرائيل، لا للتفاوض مع إسرائيل، ولا للاعتراف بها. ورغم قرارات الخرطوم، تبين أن حرب 1967 شكلت مفترق الطرق في تعامل العالم العربي مع إسرائيل: من الآن فصاعداً فإن الهدف الاستراتيجي لمعظم العالم العربي هو تصفية آثار 1967، أي استعادة الأراضي التي احتلتها إسرائيل العام 1967. أما هدف تصفية نتائج حرب 1948، والتي كانت اسم الشيفرة لهدف العرب تصفية دولة إسرائيل، فإنه تقلص وتراجع في السجال السياسي العربي.

إن توقيع اتفاق السلام مع مصر في آذار 1979 خلق توقعات مزدوجة في إسرائيل: وهو أن السلام مع مصر سوف يمتلئ بمحتوى إيجابي، وهو ما سيرسخه ويمنحه طول العمر، وأن هذا الاتفاق سيقود إلى اتفاقات سلام مع دول عربية أخرى وللتطبيع بين إسرائيل والعالم العربي والإسلامي. وقد تحقق هذا الطموح ولكن جزئياً فقط. والواقع أن السلام مع مصر مستقر منذ ثلاثين عاماً، كما أن فترات الصدام الشديد بين إسرائيل والفلسطينيين وفي الجنوب اللبناني، لم تهز أركانه. وفضلاً عن ذلك، فإنه بعد 15 عاماً من توقيع اتفاق السلام مع مصر وقع الأردن اتفاق سلام مع إسرائيل، وأقامت عدة دول عربية علاقات غير رسمية مع إسرائيل، ولا يقلّ أهمية عن ذلك، أن كل قادة الدول العربية من دون استثناء، يتقبلون حالياً مبدأ وجوب حل الصراع العربي الإسرائيلي بالطريق السياسي، وليس العسكري، ولكن وفق شروط تكون مقبولة على العرب.

وبالمقابل، فإن السلام مع مصر والأردن، من دون الحديث عن العلاقات مع باقي الدول العربية، بقي بارداً. في مصر لم يبذل جهد فعلي لتعميق منظومة العلاقات وتوسيع التعاون الاقتصادي والتكنولوجي، وفي الأردن هناك خيبة من حجم التعاون الاقتصادي مع إسرائيل. والأهم من ذلك، أنه في الدولتين لم يبذل أي جهد لتعليم الجمهور فيهما حول معنى السلام الحقيقي وتقليص الكراهية والعداء لإسرائيل. وفي الدولتين، كما في دول عربية أخرى، لا تزال توجد أوساط واسعة، وبينها جماعات كبيرة من المثقفين والأكاديميين، يظهرون عداء لإسرائيل ويتحفظون على السلام معها، ولم يبذل نظاما الحكم في الدولتين جهدا كبيرا من أجل تغيير هذه المقاربة. ورغم أنه في الجيل الأخير تقلصت نظرية الخطر الإسرائيلي في نظر العرب، فإن أغلبية العرب لا تزال ترى في إسرائيل تهديداً، خصماً، بل وعدو. ومن هذه الناحية، لم تبذل الدول العربية جهداً كبيراً لتقليص المعارضة الشعبية فيها لتطبيع العلاقات مع إسرائيل وللتشديد على الأرباح الكامنة في ذلك للعالم العربي.

التطبيع: مصاعب وعراقيل

بعد ستين عاماً من إقامة دولة إسرائيل وثلاثين عاماً على توقيع اتفاق السلام مع مصر فإن تحقيق التطبيع بين العالم العربي وإسرائيل يصطدم أولاً وقبل كل شيء بالعقبة الأساسية ذاتها: يتعذر على الكثيرين في العالم العربي قبول إسرائيل كجزء لا يتجزأ وشرعي من الشرق الأوسط. وفي نظرهم، فإن إسرائيل لا تزال نبتاً غريباً، دولة غير إسلامية وحيدة في محيط إسلامي، كياناً سياسياً أنشأته الإمبريالية الغربية عبر استلاب حقوق الفلسطينيين. وأضيفت إلى هذا التعذر نظرة الخطر الإسرائيلي. ففي نظر أغلب العرب فإن إسرائيل تسعى للتوسع في المنطقة المحيطة بها قدر ما تتيح قوتها العسكرية وهي تسعى لتخليد تفوقها العسكري على الدول العربية، أيضاً بمساعدة الولايات المتحدة، وتميل لاستخدام القوة العسكرية لتحقيق أغراضها. وفي نظر هؤلاء، تسعى إسرائيل لاستخدام السلام والتطبيع كأداة معدة لإقناع العالم العربي بالتسليم بوجودها، التسليم باحتلالاتها للأرض والتسليم بتفوقها العسكري والتكنولوجي.

وقد تفاقم هذا التعذر جراء تعزيز قوة الحركات الإسلامية الراديكالية في العالم العربي في العقدين الأخيرين. فالجهات الإسلامية المتطرفة هي النواة الأشد صلابة لمعارضة السلام مع إسرائيل، سواء في الدول العربية والإسلامية أم في صفوف الفلسطينيين. وهذه المعارضة مبدئية: إسرائيل استولت على أرض هي ملك الأمة الإسلامية، وهي تسيطر على أماكن مقدسة للإسلام وتقمع ملايين المسلمين تحت سلطتها. وبناء عليه، وبسبب أن دعم الكفار حرام في الإسلام، لا تنبغي المساومة على حق إسرائيل في الوجود أو التسليم بذلك. وقد وقف على رأس المعارضين مبدئياً لوجود إسرائيل النظام الإسلامي الراديكالي في إيران، والتي ليست دولة عربية، وهو النظام الذي يغذي استمرار الكفاح المسلح ضد إسرائيل. صحيح أن معظم العالم العربي أبدى تحفظاً من الحركات الإسلامية الراديكالية ويرى فيها خصما وخطرا على الأنظمة العربية ذاتها، بما لها من تأثير بارز في الشارع العربي، ولا يمكن للأنظمة المعتدلة أن تتجاهلها أو تتجاهل موقفها المعادي لإسرائيل.

إن المشكلة الأصعب في تحقيق التطبيع بين إسرائيل والعالم العربي تتمثل في بقاء قضايا غير محلولة في الصراع العربي الإسرائيلي: المسألة الفلسطينية والمسألة السورية. ومن بين هاتين المسألتين تعتبر المسألة الفلسطينية الأشد حرجاً بالنسبة لمستقبل العلاقات بين إسرائيل والعالم العربي. كما أن المسألة السورية هامة في هذا الجانب، وتحقيق السلام بين إسرائيل وسوريا بذاتها يمكن أن يساعد في تلطيف آخر لعلاقة العالم العربي، غير أن المفتاح الأساس في هذا الشأن قائم في المسألة الفلسطينية لأن الدول العربية ترى نفسها ملتزمة أولاً وقبل أي شيء بالمساعدة على إنشاء دولة فلسطينية مستقلة. كما أن للمسألة الفلسطينية بعداً عاطفياً بالغ الأهمية، غير قائم في المسألة السورية: منذ الانتفاضة الأولى انكشف العالم العربي بشكل متكرر على مشاهد المعاناة الفلسطينية في وسائل الإعلام، ولذلك فإن تماثله معهم أعمق بكثير. وبناء عليه فإنه طالما لا يحظى الفلسطينيون بدولة خاصة بهم، فإن التطبيع مع إسرائيل يعتبر في نظر الكثيرين خيانة للمسألة الفلسطينية، واعترافاً بالاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية وضرب فرص الفلسطينيين في نيل حقوقهم عبر المفاوضات.

وعلاوة على ذلك، في العشرين عاما الأخيرة انتقل الصراع الإسرائيلي ـ الفلسطيني إلى مستوى عال جداً من العنف والعنف المضاد، والذي تجلّى في الانتفاضتين وفي عملية «الرصاص المسكوب» في غزة. وتعيب هذه التطورات على الدول المعتدلة، وخصوصاً مصر والأردن، لأن الجمهور فيهما، بتأثير المشاهد القاسية في التلفزيون وبتأثير العناصر الإسلامية، يضغط على الأنظمة لمساعدة الفلسطينيين وللمساس بالعلاقات مع إسرائيل.

تغييرات إيجابية

منذ السبعينيات من القرن الماضي، خصوصاً منذ بداية الثمانينيات، بدأت في الحدوث تغييرات هامة في تعامل العالم العربي مع إسرائيل. وأولاً، معظم الزعماء العرب توصلوا بالتدريج إلى الاستنتاج بأن إسرائيل باتت حقيقة قائمة ويستحيل تصفية وجودها، سواء بسبب قوتها العسكرية أو بسبب الالتزام الدؤوب من جانب الولايات المتحدة بحماية وجودها وأمنها. وفضلاً عن ذلك، فإن توجه مصر نحو السلام مع إسرائيل وخروجها من دائرة الحرب، وبعد ذلك توجّه الأردن في أعقابها وغرق العراق في حرب مع إيران وفي حرب الخليج ـ كل هذه الأمور حالت دون إمكانية تشكيل جبهة عسكرية عربية ضد إسرائيل. أما الضربة النهائية للخيار العسكري في مواجهة إسرائيل فقد جاءت من انهيار الاتحاد السوفييتي، وهو ما حرم سوريا من الغطاء الاستراتيجي، وأبقى الولايات المتحدة، التي تقيم علاقات خاصة مع إسرائيل، كقوة أعظم وحيدة. كل هذه الأمور قادت إلى الفهم في صفوف زعماء الدول العربية بأن عليهم إنهاء الصراع مع إسرائيل بالطرق السياسية، لأن طريق الحرب ليس عملياً ولا يخدم مصالحهم.

وثانياً، في النصف الأول من التسعينيات تطورت للمرة الأولى سيرورة سياسية بين العرب وإسرائيل في مسارين جديدين: المسار الإسرائيلي السوري والمسار الفلسطيني. ورغم أن المسار السوري لم يفضِ حتى الآن إلى اتفاق سلام، وأن المسار الفلسطيني أولد اتفاقات محدودة فقط وترافق مع نوبات عنف شديدة بين إسرائيل والفلسطينيين، فإن مجرد وجود هذين المسارين أسهم في إضفاء الشرعية على التحاور مع إسرائيل ونشوء اهتمام في صفوف الحكومات العربية المعتدلة لتشجيع هذه السيرورة.

ثالثاً منذ بضع سنوات لاحظ قسم من العالم العربي استعداداً متزايداً من جانب إسرائيل لدفع ثمن باهظ جداً من أجل التوصل إلى تسوية في المسألة الفلسطينية، وربما أيضاً في المسألة السورية. وقد تجلى هذا الاستعداد أساساً بدعم معظم حكومات إسرائيل في العقد الأخير لحل دولتين لشعبين والانقطاع عن قطاع غزة. وقد أسهم هذا الفهم في السجال الدائر في العالم العربي بشأن العلاقة مع إسرائيل: هناك من يزعمون أن التطبيع في العلاقات مع إسرائيل سيكون ممكناً فقط بعد أن تنسحب إسرائيل من كل الأراضي الفلسطينية وتحل مشكلة اللاجئين، وإذا لم يحدث ذلك فإن تغيير العلاقة مع إسرائيل سيلحق الضرر بالفلسطينيين وبقدرتهم على المساومة. وهناك أيضا من يزعمون أن التحاور مع إسرائيل قبل أن تنسحب من الأراضي المحتلة يساعد الفلسطينيين لأن ذلك يسمح بممارسة التأثير على إسرائيل وتلطيف مواقفها.

رابعا، ظهرت أمام الدول العربية مخاطر وتهديدات أخرى تتطلب المعالجة، وبعضها بعيد المدى، وقسم منها جديد نسبياً: الخطر الإيراني، خصوصاً إمكانية حصول إيران على السلاح النووي، الأزمة في العراق، وآثارها على جيرانها، تعزز المحور الشيعي الراديكالي الذي يقاد من إيران، مروراً بالعراق الشيعي، إلى سوريا، إلى لبنان والساحة الفلسطينية. الحاجة إلى محاربة الإرهاب الإسلامي الراديكالي بما في ذلك الخطر النابع من تنظيم «القاعدة» وأذرعه. مشاكل اقتصادية ـ اجتماعية، تفاقمت في العام 2008 جراء الأزمة الاقتصادية العالمية. إن الحاجة للتعامل مع هذه الأخطار زادت اهتمام العرب بمعالجة الصراع الإسرائيلي ـ الفلسطيني، انطلاقاً من الافتراض بأن إنهاءه سيسهل معالجة القضايا الأخرى.

من هنا فإن تعزز قوة حزب الله في لبنان وصعود حماس للحكم في قطاع غزة يقلق أيضاً الحكومات العربية المعتدلة. وفي نظر العالم العربي، فإن هذين التطورين يرتبطان بمساعي إيران توسيع نفوذها في العالم العربي وأن تقيم فيه معاقل لها حتى على شاطئ البحر المتوسط. وتقلق المواجهات بين كل من حزب الله وحماس من جهة وإسرائيل من جهة أخرى الحكومات العربية المعتدلة، لأن ذلك يسهم في إلهاب الشارع العربي وتعزيز قوة الميول الراديكالية فيه. وبناء عليه ورغم تعرض إسرائيل لإدانات واسعة من جانب الحكومات العربية، سواء أثناء حرب لبنان الثانية (تموز ـ آب 2006) أو العملية العسكرية في غزة (كانون الأول ـ كانون الثاني 2009)، فإن الحكومات المعتدلة كانت تأمل ـ بديهياً من دون أن تعلن ذلك صراحة ـ أن توجه إسرائيل ضربة عسكرية لكلا التنظيمين وأن تضعف قوتهما.

المبادرة العربية

على هذه الخلفية ينبغي رؤية مبادرة السلام السعودية ـ العربية للعام 2002. وقد نشرت المبادرة السعودية في شباط 2002، عند اقتباس كلمات ولي العهد في حينه (الملك حالياً) عبد الله في مقابلة صحفية، وكان بالوسع أن تفهم منها أنه مقابل انسحاب إسرائيلي لخطوط حزيران 1967 ستوافق الدول العربية على إقامة سلام كامل معها وتوفير ضمانات أمنية لها. وغدت المبادرة السعودية مبادرة عربية بعد أن تمّ تبنيها، مع تعديلات وتوسيعات، في مؤتمر القمة العربية الذي عقد في بيروت في آذار 2002. وقد عرضت المبادرة صفقة شاملة بين إسرائيل والعالم العربي: إسرائيل تنسحب انسحاباً كاملاً من الأراضي العربية التي احتلتها العام 1967، بما في ذلك من هضبة الجولان والأراضي اللبنانية الباقية تحت الاحتلال، وتعود لخطوط حزيران العام 1967، وتوافق على إنشاء دولة فلسطينية وعاصمتها القدس الشرقية في الأراضي التي احتلت في حزيران 1967، وتتوصل لحل متفق عليه وعادل لمشكلة اللاجئين الفلسطينيين على أساس قرار الجمعية العمومية للأمم المتحدة رقم 194 العام 1949. ومقابل ذلك تعلن الدول العربية أن الصراع العربي ـ الإسرائيلي انتهى، وتوقع اتفاقيات سلام مع إسرائيل، وتقيم علاقات طبيعية معها وتوفر لها ضمانات أمنية.

وتعبر المبادرة العربية عن تغيير فعلي في مقاربة العالم العربي تجاه إسرائيل وتجاه الصراع العربي الإسرائيلي. فهي تضع في مركز الصراع ليس مسألة حق إسرائيل في الوجود والاعتراف العربي بها ـ كما فعلت قرارات مؤتمر قمة الخرطوم العام 1967ـ وإنما مسألة احتلال الأراضي العربية العام 1967. من هنا عندما ينتهي الاحتلال وتحل مشكلة اللاجئين ينتهي الصراع أيضاً. وفضلاً عن ذلك، فإن المبادرة العربية تعرض على إسرائيل مقابلاً يتجاوز ما يمكن للطرفين العربيين المعنيين ـ الفلسطينيين أو سوريا ـ أن يعرضاه عليها: السلام والتطبيع مع كل الدول العربية.

ورغم التغيير الهام الذي انطوت عليه المبادرة العربية، فإنها لم تحرك العملية السلمية الإسرائيلية العربية إلى الأمام حتى الآن. فتوقيت نشر المبادرة ـ ذروة انتفاضة الأقصى، حينما كان إسرائيل والفلسطينيون منشغلين بغير مبادرة السلام ـ لم يكن موفقاً. وقد تبنى مؤتمر القمة العربية في بيروت عدة قرارات بدت مناقضة للمبادرة، على الأقل بشكل جزئي. وفي إسرائيل أثيرت تحفظات إزاء صياغة المبادرة ومن قسم من المطالب التي تشملها. ورفضت الحكومة الإسرائيلية برئاسة أرييل شارون المبادرة لأنها رأت فيها رزمة واحدة، غير مفتوحة للتفاوض فيما أن أجزاء منها غير مقبولة على إسرائيل. وبين أمور عدة أثير الزعم بأن حل مشكلة اللاجئين وفقا للقرار 194 يعني المطالبة بالاعتراف بحق العودة للاجئين، ولذلك فإن غاية المبادرة هو ضرب الطابع اليهودي لدولة إسرائيل عن طريق إعادة اللاجئين إلى أراضيها. كما أن المقابل الذي عرضته المبادرة على إسرائيل بدا عمومياً وغامضاً، وكان هناك من زعموا أن المبادرة ليست سوى مناورة سعودية للعلاقات العامة من أجل تحسين صورة السعودية بعد هجمات الإرهاب في أيلول 2001. كما أنه تم الإعراب عن خيبة في الجانب الفلسطيني من المبادرة لأنها لم تذكر صراحة حق عودة اللاجئين الفلسطينيين، كما من حقيقة أنه لم يكن للفلسطينيين أصلاً ما يكفي من القوة للتأثير فيها.

ورغم أن المبادرة العربية لم تحرك العملية السلمية من جديد، إلا أنه تم تسجيل الاهتمام بها مجددا في العام 2007، وأعيد التصديق عليها في مؤتمر القمة العربية الذي عقد في الرياض في آذار 2007. وتحاول الجهات العربية المعتدلة تسويق المبادرة للجمهور الإسرائيلي. ووزع الأردن صيغة المبادرة العربية لأعضاء الكنيست في العام 2007. كما أن منظمة التحرير الفلسطينية نشرت المبادرة كإعلان باللغة العبرية في الصحف الإسرائيلية في تشرين الثاني 2008. واستأنفت جهات دولية اهتمامها بالمبادرة، والأهم من ذلك ـ أن الموضوع بدأ يثار في الحوارات بين جهات حكومية إسرائيلية وعربية، وامتدح الرئيس الإسرائيلي شمعون بيريز في تشرين الثاني 2008 المبادرة، رغم أنها غير كاملة من وجهة نظر إسرائيل، وأعرب عن اهتمامه بفحص جدواها، بما في ذلك فحص إمكانية إجراء مباحثات بشأنها مع طاقم يمثل الجامعة العربية. ويمكن الافتراض أن السبب وراء هذه الاستفاقة المستجدة مزدوج: الخشية المتزايدة في المعسكر السني المعتدل من تعزز قوة المحور الشيعي الراديكالي، وزيادة وتيرة الاتصالات مع إسرائيل سواء من الجانب الفلسطيني أو على المسار السوري. وكانت هناك بذرة فرصة: في تشرين الثاني 2007 عقد مؤتمر أنابوليس، الذي أعدّ من أجل إعادة تحريك عملية السلام لتحقيق اتفاق نهائي بين إسرائيل والفلسطينيين وخلق آليات لتسريع الاتصالات بين الطرفين، غير أن حماس سيطرت في هذا الوقت على قطاع غزة وألقت بظلال كثيفة على العملية، كما أن ضعف الزعامتين، الفلسطينية والإسرائيلية، داخلياً لم يسمح لهما بخلق سيرورة فعلية، عدا مجرد وجود الاتصالات فيما بينهما.

ومن الجانب الآخر فإن عملية الجيش الإسرائيلي في غزة في كانون الثاني 2009 أضرّت، ولو مؤقتاً على الأقل، بالقدرة على تحريك العملية السياسية على قاعدة المبادرة العربية. والقمة الطارئة التي عقدت في الدوحة في قطر رداً على العملية العسكرية الإسرائيلية دعت إلى إلغاء المبادرة العربية، وقرر الرئيس السوري بشار الأسد أن المبادرة ماتت. ومع ذلك، فإنه بعد أن اعتبرت تلك القمة طارئة، لأن أكثر من ثلث الدول العربية وبينها دول مركزية مثل مصر، السعودية والأردن وكذلك السلطة الفلسطينية، لم تشارك فيها، لا ينبغي أن نرى في هذا القول إلغاء رسمياً للمبادرة.

مكانة إسرائيل

إن التغييرات التي طرأت على موقف العالم العربي من إسرائيل في الجيل الأخير، وبشكل ملموس مبادرة السلام العربية، تخفي أمام إسرائيل عدة أسئلة تتعلق بموقفها من التقدم في العملية السلمية: ما الذي بوسع العالم العربي أن يقدّمه للعملية السلمية، عدا دور الأطراف العربية الضالعة مباشرة في العملية؟ وماذا ينبغي أن تكون آمال إسرائيل في هذا الشأن؟ وهل بوسع العالم العربي المساعدة في العملية قبل تحقيق اختراق فيها، خصوصاً عندما لا يزال الفلسطينيون والإسرائيليون غير ناضجين للتوصل إلى تسوية شاملة؟

ينبغي الانطلاق من الافتراض بأن المبادرة العربية تعبر عن اهتمام حقيقي من جانب العرب للمساهمة في تحقيق تسوية سياسية للصراع العربي الإسرائيلي. والزعم الذي أثير في حينه، بأن المبادرة هي مناورة علاقات عامة من أجل تحسين صورة السعودية، لم يعد مقنعاً. فالمبادرة منذ بدايتها تحوّلت إلى مبادرة عربية، وليس فقط سعودية، وهي تعرض على هذا النحو. وللسعودية تاريخ في كل ما يتعلق بمبادرات السلام ـ مشروع فهد العام 1981 لتسوية سياسية بين إسرائيل والفلسطينيين. والأهم من ذلك أن المبادرة العربية تعبر فعلاً عن استعداد الزعماء العرب جميعاً لإنهاء النزاع العربي الإسرائيلي، وفي الأساس بؤرته الفلسطينية، بالطرق السياسية، وفق الشروط المقبولة على العرب، والمساعدة في تحقيق تسوية شاملة للصراع، عبر الاستعانة بجهات دولية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة.

إن من صاغوا المبادرة العربية لم يسهبوا في تبيان نيات وقدرات الحكومات العربية على المساهمة في العملية السلمية، عدا التوصيف العمومي لشروط التسوية، ومع ذلك يمكن الإشارة إلى عدد من الإسهامات الممكنة:

يقترح العالم العربي على إسرائيل مقابلاً لا تستطيع الأطراف الضالعة مباشرة في التسوية ـ الفلسطينيون وسوريا ـ عرضه في أي تسوية ثنائية معها: اتفاقات سلام وتطبيع مع مجموع الدول العربية، وربما أيضا آليات للتعاون الإقليمي في مجالات مختلفة. وهذا التوسيع في ترتيبات السلام ودمج كل الدول العربية فيها يوفر لها بعداً إضافياً من الاستقرار والقدرة على البقاء.

يمكن للدول العربية أن توفر مقابلاً لإسرائيل حتى قبل تحقيق تسويات سلمية بينها وبين الفلسطينيين وسوريا، على أمل مساعدة إسرائيل في اتخاذ قرارات صعبة. وقد أقدمت عدة دول عربية على فعل ذلك، وأنشأت علاقات غير رسمية مع إسرائيل.

يمكن للعالم العربي أن يدعم الفلسطينيين عندما يستدعي الأمر منهم اتخاذ قرارات صعبة في المفاوضات مع إسرائيل. وهذا الدعم يمكن أن يشد أزر القيادة الفلسطينية، في الأساس في مواجهة المعارضة المتوقعة لها داخل الجمهور الفلسطيني.

يمكن للعالم العربي أن يضغط على الفلسطينيين، وربما أيضاً على السوريين، لإبداء مرونة في نقاط محورية في المفاوضات المستقبلية مع إسرائيل من أجل التوصل لاتفاق. وحتى الآن لم يحدث ذلك، ولكن في الماضي كانت هناك حالات ضغطت فيها مصر على القيادة الفلسطينية من أجل تليين مواقفها.

ومن الممكن أن تكون الدول العربية على استعداد للاندماج في تسوية سلمية ـ مثلاً بإرسال قوات لحماية السلام أو في ترتيبات أمنية. ومثال ذلك استعداد مصر الحالي، الذي لم يبرهن عليه بعد، للمساعدة في منع التهريبات إلى قطاع غزة في أعقاب عملية «الرصاص المسكوب».

يمكن لدعم العالم العربي أن يضعف ويكبح عناصر راديكالية ستحاول منع تحقيق تسويات أو زعزعتها. وهكذا بوسع تسوية مع الفلسطينيين، خصوصاً اتفاق سلام مع سوريا، إذا كان ذلك سيقود إلى دق إسفين بين إيران وسوريا وإضعاف حماس وحزب الله، أن تسهم أيضاً في تقليص الخطر الإيراني، إذا لم تكن إزالته.

غير أنه ليس صدفة أن المبادرة العربية لم تحرك منذ الإعلان عنها العملية السياسية. فإلى جانب مساهمتها المحتملة الهامة في أية تسويات مستقبلية بين إسرائيل والعرب، اصطدم تجسيد المبادرة بمصاعب جمة، عدا تحفظات إسرائيل وجهات فلسطينية وعربية منها أو من أجزاء فيها. والمشكلة الأساسية تكمن في أن المبادرة العربية لا يمكنها أن تتقدم من ذاتها، وأن تقدمها يرتبط بتقدم المفاوضات بين إسرائيل والفلسطينيين أو سوريا. وطالما لم تتقدم مسارات المفاوضات هذه بقواها الذاتية، فليس بوسع المبادرة العربية أن تساعدها أو تكملها. وفي هذه الأثناء هناك اتفاق شبه تام بأن مفاوضات التسوية الشاملة بين إسرائيل والفلسطينيين ليست أمام اختراق قريب، سواء لأن الفلسطينيين غير ناضجين بما فيه الكفاية لإنشاء سلطة قوية يمكنها أن تحقق تسوية مستقرة مع إسرائيل، أو لأن هناك سلطة لحماس في قطاع غزة، فإن هناك عائقاً فعلياً للتسوية الإسرائيلية الفلسطينية الشاملة، وأيضاً بسبب مساهمة إسرائيل الخاصة في نشوء الدائرة المفرغة التي وقعت فيها العملية السلمية. وحتى أن تسوية إسرائيلية سورية، والتي يبدو تحقيقها أبسط من تسوية إسرائيلية فلسطينية، ستكون مرتبطة أولاً وقبل كل شيء بقرارات الطرفين بالموافقة على تنازلات مطلوبة منهما، وهما لم يصلا بعد إلى هذه المرحلة.

وعدا ذلك فإن العالم العربي يمكن أن يدعم الفلسطينيين لاتخاذ قرارات صعبة، وربما الضغط عليهم للتوصل إلى تسوية مع إسرائيل، ولكن يصعب الافتراض بأن مواقف العالم العربي ستكون مرنة أكثر من مواقف الفلسطينيين أو السوريين. وفضلا عن ذلك، سيكون من الصعب إدارة مفاوضات مع عموم الدول العربية أو مع ممثليها، فالقاسم المشترك الذي قد يبلوروه يمكن أن يتأثر بالمواقف الأكثر تطرفاً. وهذا هو سبب تفضيل إسرائيل على مر السنين التفاوض مع قيادات عربية على انفراد، وليس مع قيادة جماعية عربية.

وللبعد الإسرائيلي جانبان آخران. من جانب ليس واضحاً لإسرائيل إذا ما كانت المبادرة العربية رزمة مغلقة وغير مفتوحة للتفاوض على مكوناتها أم أنها مجرد إطار عام يسمح بالتباحث حول مضمونها، ومن جانب آخر بعد الخيبات من النتائج الضئيلة للعملية السلمية مع الفلسطينيين ومن سلوكهم على مر السنين، ليس واضحاً مدى المقابل الذي تعرضه المبادرة العربية في مجال التطبيع وما إذا كان محتواها جذاباً بما فيه الكفاية في نظر إسرائيل.

وثمة مكان أوسع لموضع العالم العربي في استراتيجية إسرائيل. فللمعسكر العربي المعتدل ولإسرائيل مصالح إقليمية مشتركة هذه الأيام: كبح الخطر الإيراني، إضعاف المعسكر الشيعي الراديكالي ومكافحة الإرهاب الإسلامي. ويمكن أن نضيف إلى ذلك مصالح اقتصادية مشتركة. ورغم ذلك يتعذر توقع تعاون فعلي بين هذا المعسكر وبين إسرائيل، أيضا لأن الدول العربية تخشى التعاون مع إسرائيل في قضايا عربية حساسة وتخشى من رد فعل الجهات الراديكالية وأيضاً لأنهم لا يرون مناسباً الذهاب بعيداً في خطواتهم تجاه إسرائيل قبل حل المسألة الفلسطينية.

خلاصة الأمر أن هناك استعداداً في العالم العربي للمساهمة في تحقيق حل سياسي شامل للصراع العربي الإسرائيلي، وفي الأساس لمكوّنه الفلسطيني. كذلك هناك احتمال للتعاون مع المعسكر العربي المعتدل لكبح الخطر الراديكالي، ولكن كما يبدو لن تتخذ خطوات كهذه في المستقبل القريب. إن دمج العالم العربي في العملية السلمية يمكن أن يتحقق على ما يبدو فقط بعد أن تحقق الأطراف المعنية مباشرة بالمفاوضات ـ إسرائيل، الفلسطينيون، سوريا ـ تقدماً فعلياً بقواها الذاتية، يمكن للعالم العربي أن يسلم بمساهمته. إن التعاون الإقليمي ضد الخطر الراديكالي، إذا تم، يمكن أن يتحقق فقط بعد أن تتراءى ملامح تسوية شاملة للقضايا غير المحلولة في الصراع العربي الإسرائيلي.

ــــــــــــــــــــ

التقرير الاستراتيجي السنوي ـ مركز دراسات الأمن القومي الإسرائيلي ـ تموز 2009