خبر كغثاء السيل ..بثينة شعبان

الساعة 04:58 م|10 أغسطس 2009

ـ الشرق الأوسط 10/8/2009

تخيل عزيزي القارئ جنودا غرباء يفتحون باب بيتك عنوة ودون استئذان، ويأمرونك تحت تهديد السلاح بأن تغادر فورا مع زوجك وأولادك المسكن الآمن الذي بنيته من تعب العمر، وحولته إلى مأوى حنون لك ولأبنائك وأحفادك، جنودا غرباء أتوا من أصقاع الأرض البعيدة مدججين بالحقد المتوارث الدفين ضدك ليطردوك من منزلك، وليحلوا مكانك، وليحتلوا أرضك، وينهوا وجودك وتاريخك. فتنظر حولك، كما يفعل كل إنسان يتعرض للظلم: هل من معين من الأهل والأصدقاء والجيران؟ فترى الأهل منشغلين إما بمسالمة الغرباء إلى حد الخنوع، أو بالنزاع فيما بينهم على التقرب من مرجعيات يعتقدون أن بيدها الحل والربط، بينما الحل والربط بأيديهم هم إذا ما أحسنوا احترام أنفسهم والانتصار لكرامتهم وحقوقهم. وتراهم رغم اختلافاتهم يتساوون أمام عدو غاصب فقط في ضروب الإذلال المفروض عليهم جميعا على الحواجز التي أوجدها الغزاة لتنتقص من كرامتهم، ولتذلهم، وتنتهك هويتهم، وتغتصب حقوقهم، ومع ذلك ما زالوا منشغلين بمعارك صغرى بين بعضهم البعض، متناسين المعركة الوحيدة الجديرة بجهودهم وتركيزهم وبذلهم، ألا وهي معركة نيل حريتهم واستقلالهم. وإذا كنت لا تستطيع أن تتخيل ذلك لأنك لم تتعرض يوما ما لإذلال الاحتلال وجرائمه، ولذلك فإنك لا تعلم المعنى الكارثي لسرقة الأرض واستلاب سيادة الأوطان، والذل والهوان اللذين ينجمان عن فقدان الحرية، واللذين يجعلان الموت أمرا مشرفا ومرحبا به، فانظر في قضية عائلتي حنون والغاوي في حي الشيخ جراح بمدينة القدس العربية كمثال على ما يصيب عرب القدس من الطغيان اليهودي اليوم، حيث رمى جنود الغزاة العائلتين وأثاث منزليهما خارج الدار، ودخل مستوطنون أجانب وهم يتضورون وحشية يتسم بها عادة كل العنصريين ليملأوا أرجاء البيتين غزاة جددا لفلسطين، الأسيرة منذ أكثر من قرن، بينما أطفال ونساء ورجال العائلتين العربيتين، والبالغ عددهم سبعين عربيا، يسترقون نظرات الأسى والحزن والخيبة على دارهم وذكرياتهم وحقوقهم، وقصص ولادة ونشأة أطفالهم، وأفراحهم التي جمعتهم مع الأهل والأصدقاء، والطموحات التي ملأت صدورهم، ويعودون بالنظر إلى مصيرهم اليوم وهم مطرودون في بلدهم يفترشون الرصيف، هل هو كابوس سيستفيقون منه بعد حين ليعودوا إلى دارهم؟ أم أنه نهاية الحياة الكريمة في أرض الوطن وبداية اللجوء، واللجوء إلى أين؟ وتستطيع أن تقرأ أيها العربي صدمة الألم في عيون الأم العربية المسلمة التي جمدت أضواء عينيها، بينما عبر طفلها الذي يقف قربها عن الرعب الذي يعتمل في صدره. تستطيع أن تقرأ أيها العربي المسلم أينما كنت مشاعر العتب واللوم والخيبة التي تملأ قلب هذه الأم العربية في وحدتها ومظلوميتها وضعفها من كل تلك الملايين من العرب والمسلمين، ومن كل العالم «المتحضر» الذي يتشدق بالحرية والديمقراطية وبحقوق الإنسان، كما يمكنك أن تقرأ سؤالا في وجهها البريء: أولسنا نحن الفلسطينيين العرب المسلمين من البشر؟! أين كل أولئك المئات من ملايين العرب والمسلمين المنتشرين في أصقاع الأرض ليتداعوا لنجدتنا وحمايتنا، أم أنهم كغثاء السيل كثيرون بالملايين ولكن دورهم معدوم؟

رغم حجم الجريمة الإسرائيلية وضراوة المأساة التي يتعرض لها عرب القدس، فقد اكتفى معظم الإعلام العربي بأخبار سريعة عن عائلتي حنون والغاوي، وعن ممارسات المستوطنين اليهود الإجرامية، كما طوى الإعلام صفحة تهويد أسماء القرى والمدن العربية في فلسطين، ومنع الفلسطينيين من ذكر النكبة وانتقل لوضع صورة لمجسم الهيكل الذي وضعته الجماعات اليهودية المتطرفة في إسرائيل قرب المسجد الأقصى ضمن عملية مستمرة منذ سنوات يقوم بها المتطرفون اليهود لتحويل الأقصى إلى كنيس باستخدام كل الأساليب بما في ذلك الإرهاب، وترى الشعب الفلسطيني يتظاهر بصدوره العارية وإيمانه الدفين بحقوقه، بينما لا يرى دعما فعليا أو تأييدا حقيقيا ملموسا من الحكومات العربية أو من الجهات الدولية المتبجحة بالدفاع عن حقوق الشعوب في الحرية والديمقراطية، مما يسارع في استباحة اليهود لحقوق العرب في أرضهم فلسطين. وبدلا من انشغال الجهات الرسمية العربية بالتهديدات اليهودية لحقوق أشقائهم، ولمقدساتهم الإسلامية في القبلة الأولى، ينشغل البعض بحساب مدى قوة تركيا وإيران وأثرهما الممكن على عروبة المنطقة، ومستقبل المنطقة، بينما يجتاح التهديد اليهودي القدس، ويستوطن اليهود كامل فلسطين، ويهدد باراك بتدمير كل لبنان إذا لم يخضع شعبه وحكومته لوصاية دولته، وتستمر جريمة الإبادة الإسرائيلية بحصار المدنيين العرب في غزة، ولكن دون أن ينبس أحد بكلمة حتى ربما ما عدا السيدة كلينتون التي «تأسفت جدا» على بعض ذلك! ولكن الخشية الرسمية على عروبة المنطقة لم تظهر إلا بعد تصريحات لمسؤولين إيرانيين عن واجب العرب جميعا دعم أي بلد عربي يتعرض للعدوان، وبعد دعوات مسؤولين أتراك للعرب أن يتحدوا ويقفوا في وجه مخططات تفتيتهم وإضعافهم، حيث ظهرت مقالات لكتاب عرب يتحدثون فيها عن خطر «الباشا العثماني» و«العدو الفارسي» على العرب، وبالطبع فإن مثل هذه المقالات تنضم إلى غيرها لتصبح جزءا لا يتجزأ من حملة مستمرة منذ سنين تعمل على إضعاف العرب وإحباطهم واستباحتهم بشكل تام، حتى في مجال الروابط والعلاقات التي قد تسهم في نهوضهم إذا ما أحسنوا استثمارها.

حقيقة الأمر هي أن الواقع الجيوسياسي والاقتصادي في منطقتنا يمر بمرحلة انتقالية يعاني خلالها العرب من وهن شديد، وشرذمة مقصودة، وخرق أكيد من قبل العدو في الصفوف العربية وبشكل يحرمهم من القدرة على توحيد الكلمة، ويدخلهم في معارك تزيد من وهنهم رغم أنهم يتشاركون في المصير الواحد أدركوا ذلك أم لم يدركوه. وتركيا وإيران تميزتا خاصة في السنوات الأخيرة، ولدوافع سياسية ودينية، بدعم واضح للموقف العربي خاصة ضد العدوان والاحتلال الأجنبي لفلسطين ولبنان، بعد أن كانتا طوال عقود في صف أعداء العرب. فما هو الموقف العربي اليوم من هذا التحول الجيوسياسي الهام استراتيجيا؟ ومن أين تنطلق مواقفهم تجاه تركيا وإيران وغيرهما من جيران العرب كباكستان التي تتعرض إلى ما تتعرض له من تدمير لأنها وقفت مع العرب دوما؟ وما هي المعايير التي يستخدمونها في صياغة وتقييم هذه العلاقة؟

لا يختلف اثنان أن العصر القادم هو عصر الطاقة والمعرفة بتوليدها، وأن الصراع بدأ منذ الآن على مصادر ومعارف الطاقة، ومن يمتلك مصادر الطاقة أو المعرفة بها قادر على توفير الطاقة لأمته ذاتيا وبالتالي تحصينها أمام أطماع الغزاة في العالم، ومن لا يمتلكها لا يمتلك شيئا مهما بلغ تعداده. وأن يفاخر أحد من العرب اليوم بأنهم ليسوا قلة، فإن كثرة العدد وحدها لا تدخل أحدا في حساب موازين القوى، بل ما يمتلكه من مصادر طاقة ومعرفة في توليد الطاقة هو الذي يدفع الآخرين ليحسبوا له حسابا. وبهذا الإطار يمكن القول إن الهجمة الغربية، والإسرائيلية بشكل خاص، على إيران سببها خوفهم من امتلاك إيران المعرفة النووية المولدة للطاقة، وبالتالي امتلاكها لإرادتها الوطنية المستقلة. ومعاركهم المعلنة والخفية على تركيا سببها السياسة التركية الاستراتيجية التي تحول تركيا إلى رقم صعب في مجال نقل الطاقة بين أوروبا وآسيا. فها هي تركيا تضمن دورا أساسيا لها عبر خط «نابوكو»، ومشروع «ساوث ستريم»، وبذلك تكون قد ضمنت لاقتصادها الازدهار وللأمة التركية مكانتها وعناصر قوتها للعقود القادمة، وربما للقرن القادم، بينما يتجاهل العرب مصدر القوة الاستراتيجية التي يمثلها نفطهم، وموقعهم الجغرافي، ومياههم، ويحطمون كل عناصر قوتهم بالفرقة والتشرذم وبمسالمة أعدائهم، مما جعل دورهم يتقزم دوليا ويضمحل إقليميا، فترى دولهم لعبا صغيرة يدق العدو بينها أسافين ضعفهم وفرقتهم، ويستعرض قوته بالاستهانة العلنية بها جميعا عندما يبيد عرب غزة بالحصار وهم صامتون كمن اعتاد المهانة!. ومن هنا يجب أن نرى مأساة عائلتي حنون والغاوي، ومأساة تهويد القدس، والاستيطان اليهودي المستشري في فلسطين من منظور استباحة حقوق العرب والاستهانة بهم بعد أن تم إنهاء دورهم الدولي والإقليمي بالتشرذم.