خبر الكاتب والقارئ والقراءة..علي عقلة عرسان

الساعة 12:35 م|07 أغسطس 2009

 

الكاتب والقارئ والقراءة

علي عقلة عرسان

 

لاشك في أن للأدب دوراً في حياة الناس، أفراداً وجماعات، وعبر العصور المترامية من حياة البشر على الأرض كان الأدب موجوداً وفعالاً في الوجود، ومعنى هذا أنه ضرورة من ضرورات الحياة من جهة، ودليلٌ على وجودها ونتيجة لتفاعل الإنسان مع الآخرين ومع الطبيعة فيها من جهة أخرى. ولا يمكن أن يمارس الأدب دوراً ويقوم بفاعلية ما.. إلا إذا كان واضح الهدف، متقَن الصنعة، قادراً على التأثير في من يتوجه إليهم بالخطاب، وربما كان الصدق والمعاناة إضافة إلى التمكُّن من الأدوات، والموهبة، والتجربة، من أوائل شروط المبدع في مجال الأدب.. ولكن هل يكفي أن ينتَج الأدب حتى تتحقق فاعليته، لاسيما في عصره، ألا يتطلب ذلك مناخاً وشروطاً أخرى..؟!

إن جوهرة في الظل تساوي الظل.. وقديماً قال الإمام الشافعي في قصيدة له:

                    والتبر كالتراب ملقى في أماكنه     

        والعود في أرضه نوعٌ من الحطب

ومن أهم شروط تأثير الأدب قراءته قراءة واعية خالصة من الإغراض والتوهم والمشايعة أو المكايدة، وتحقيقه لفاعليته ـ على افتراض وجود مقومات العمل الأدبي الفعال ـ  وجود من يقرأ الأدب ويفهمه ويتأثرُ به ويستخلص منه ما يعزز رؤية إيجابية أو تفاؤلاً أو فهماً للحياة وإقبالاً عليها، ومواجهة مشكلات يواجهها الناس في الحياة، والناس تحركهم الكلمة الواضحة الصادقة.

 وأظن أن أكبر مشكلة يواجهها الأدب هذه الأيام عدم وجود هذه الفئة من الناس التي تقرأ بموضوعية وتعطي للكلمة معناها وتحولها إلى فعل، وانعدام الصلة الموضوعية بينه وبين المتلقي، مع افتراض وجوده، وعدم انتقال التلقي إلى فعل ٍ يجسَّده المتلقي في الواقع على شكل أعمالِ هدمٍ أو بناء. ولا نستطيع أن نلقي المسؤولية في هذا على الأدب ومنتجيه فقط، وإن كانوا يتحملون النصيب الأوفر من المسؤولية، لأن هناك شركاء في هذا.. منهم القراء الذين ينبغي ألا يلزموا جانب الانحياز أو الحياد في عملية التواصل والتفاعل مع العمل الأدبي من جهة ومع الحياة اليومية من جهة أخرى، وهم أولئك الذين على يديهم تتحقق النتائج التي يرمي إليها الإنتاج الأدبي والملتزمون بالكلمة قولاً وعملاً.

ولفاعلية القراء تأثير كبير في هذا المجال، فهي تؤثر على الأديب نفسه وعلى نوعية الإنتاج بإقبالها أو إحجامها عن أديب ما أو إنتاج إبداعي ما أو موضوعات بعينها، كما تؤثر في عملية ترجمة الكلمة إلى فعل، وخلق مناخٍ عملي ما يؤدي بدوره إلى إلهام وإبداعٍ في مجال الكلمة وإلى قيام عملية التواصل البناءة تلك. أو إذا أردنا أن نسميها ولادة الحوار الفني الملهم بين صانع الأدب ومتلقيه، أو العلاقة الجدلية بينهما، أو ما شئت من تسميات..  حيث تقوم هذه العملية بدور كبير في رفع قيمة الكلمة في عصرها، ورفع أدب عصرٍ بين العصور. وإذا لم يتحقق ذلك.. وتبذل في سبيل تحقيقه الجهود المخلصة، كتابة ونقداً وقراءة، فإن كلَّ قولٍ مجهضٌ الغاية سلفاً..

وسيفضي الأمر إلى دوران في حلقه  كلمات مفرغة، وإلى لهاثٍ فيأسٍ فإحجام المنتج عن الإنتاج وانصراف ومزيد من انصراف القارئ عن القراءة. ولن يقف تأثير هذا عند حدود الجدب الأدبي، وإنما سينتقل إلى جدبٍ في الثقة والجدوى ومن ثم في كل مجالات الحياة الفردية والجماعية، على الصعيد الداخلي للفرد على الأقل.. وعلى صعيد علاقاته مع الآخرين، ومستوى المثاقفة في عملية التلاقي بين حضارةِ شعبٍ والشعوب الأخرى.

 ربما جاز للأديب أن يقول، في لحظة من لحظات رؤيته لنفسه وفنه، قطباً من أقطاب الوجود: إنني أضع تاريخ الحياة الإنسانية ونبض الأنفس نصب عيني، مضافاً إليه خبرتي ورؤيتي الخاصتين، وأنا أقدم خلاصة أفكاري وتفاعلي وتجربتي مع الحياة والناس في أطرٍ من العطاء الأدبي، أحرص على أن تكون أخاذة الجمال، مقنعة فنياً، ملتصقةً بالواقع، معبرةً عنه هادفة فيه، وقادرةً في الوقت ذاته على أن تلهم الإنسان وتجدده وتحفِّزه على متابعة السير في طريق تحفّ بها المخاوفُ وتعترضها  الصعاب وتنبت على جانبيها التساؤلات.. وتتكاثف فوق مراحل منها سحبٌ تزيد الظلام شدة. وغايتي أن أجعل الإنسان مقاوماً للضعف والسقوط واليأس، والحياة محتمله.. بل ممتعة، وأن أكون خلال رحلتي فيها ملحوظاً وأكثر فاعلية من غيري في تغيير مجراها إلى حيث تتوافر فيها شروطٌ إنسانيةٌ أفضل تجعل منها شديدة البهجة، تكون لائقةً فعلاً بأن يتمسك الإنسان بها.. ويحرص على أن يطول بقاؤه فيها وإقباله عليها بشغف.

وربما جاز له أيضاً أن ينظر إلى الأدب بتقديسٍ أكبر.. ولكن عندما يصبح الأدب- رغم وجود هذه الادعاءات العريضة- بضاعةً يروِّج لها كما يروِّج التجار - كباراً وصغاراً- لبضائعهم المختلفة، ويشوهون بضاعة غيرهم.. فإنه يدخل باب السلعة، ويربط حباله بالربح والخسارة وبنوع من الاحتكارات والشعارات والسياسات، ويضطر إلى الدخول في مقايضات مع الجهات القادرة على البهرجة والترويج، والشعوذة في التعتيم، عن طريق الإعلان والإعلام والتضخيم والتفخيم والتقزيم، سواء أتمثلت تلك الجهات في سلطةٍ أو اتجاهٍ سياسي أو أيديولوجي أو تنظيمٍ أو قومية أو طائفة أو " شلةٍ"..إلخ.. من تلك التي تحقق له الرواج وتفرضه على الناس بقوةً أساليبها لا بقوةٍ نابعة منه، وبما توفره له من دعمٍ على الصعيدين المادي والمعنوي لا بما يتوافر فيه من مقومات الإبداع والبقاء والصمود والتأثير. وعندما يصل الأدب هذه التخوم.. ويتوغل في تلك الفيافي .. يصل حقيقةً إلى مناطق الجدب والجفاف والعقم، حتى لو انتشر وحقق لصاحبه شهرة وهالة يخشاها بعض النقاد ومالاً وفيرا. ويصح أن نطلق عليه عندها جملةً من التسميات إلا تسمية الأدب بمواصفاتٍ ومقومات ومعايير رسخها الأدب عبر العصور وادعاها الأديب لنفسه.. ذلك لأن الأدب ألصق بالإنسان والحرية والعدل والحقيقة والصدق أكثر من أي شيء آخر، أو هكذا يُفتَرَض فيه أن يكون، وهو يفرض نفسه على الناس لأنه يحمل همومهم وطموحاتهم ويفجر فيهم ينابيع طاقة وغنى يكتشفون وجودها في أنفسهم، وهو اعتراضٌ على واقعٍ سيء.. وثورةٌ لتحقيق واقعٍ أفضل، ومقاومة على صعيد النفس والمجتمع والعالم، وهو مشروع عالمٍ جديد وتجديد رؤية للعالم.. ورؤية متفرّدةٌ للعلاقات الإنسانية والعالم، تمتاز بصدقها وصحتها وجدتها وتألقها، وهو في هذا الإطار ليس من السلع في شيء.. ولا يصلح لأن يكون موضوع تجارة ولا وسيلة دعاوة.. وإنما هو سلاح إنساني يشهَر في سبيل مجد الإنسان ورفعته وسعادته وبقائه المتجدد، وقد يعارض ويقاوم ويقاتل من أجل ذلك.. ولكنه يربأ بنفسه أبداً عن أن يكون ذيلياً أو شللياً أو أداة أو وسيلة للفساد والإفساد والتخريب، أو عدواً للحقيقة والقيم. ويبقى متنفساً للعقل والنفس والروح يجيز للأديب أن يقول في لحظات انتشائه ما يحلو له أن يقول.

 

وإذا كان المؤلف يشكل أحد قطبي عملية الإبداع وأهم  أطرافها وأشدها معاناة من جهة وأهمية في انطلاقها وتأثيرها وعمقها وكفايتها من حيث النوع من جهة أخرى، فإن القارئ يشكل القطب الثاني الذي تصب عنده الحصيلة النهائية للتأليف والترجمة والنشر، وتنعكس آثارها عليه سلبياً وإيجاباً، ويتمكن تأثيرُها فيه ويتجلى درجات في الوعي ومعيار الذوق والقيمة والقدرة على الإصلاح والتغيير والتقدم، والعيش بثقة وندية مع الآخر ومتعة وعمق شعور ووضوح رؤية.. وهو القطب الذي تتجمع  لديه محصلات جهود الأطراف المعنية بحركة التأليف والنشر واجتهاداتها، ويتحمل نتائج جهودها واجتهاداتها وطموحاتها وأطماعها بشكل أو بآخر ويدفع تكاليف وأرباحاً.. فالقارئ هو حقل الكلمة الحرة وحاضنها وحلقات الدرع التي تحمي صاحبها، وهو المستفيد من المادة المعرفية ومن يجني الثمر الفاسد في بعض الأحيان ويدفع ثمنه مع ذلك، وهو مسؤول عن استمرار حركة النشر وازدهارها بوصفه الطرف المستهلك الذي يؤثر تأثيراً كبيراً في تغذية حركتها من حيث التلقي والتفاعل واستمرار الحاجة وتنوعها، ودفع تكاليفها وتجسيد الانتفاع بها.

والقارئ العربي محكوم بكل معوقات الحياة العربية ليس في مجالات حركة النشر فقط وإنما في مجالاتها جميعاً، ابتداءً من استقرار وضع التجزئة وانعكاساته الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية عليه، وانتهاء بآخر مجازر الرؤى والأحلام والتطلعات المشروعة له بوصفه إنساناً،  تلك المجازر التي يواجه نتائجها إحباطاً في ذاته ومحيطه، من جراء سلسلة من الأسباب والمسببات تبدأ بجهله وتخلفه وسلبيته وتنتهي بهيمنة القوى الكبرى على قراره ومقدراته والمركزيات الثقافية القوية على آفاق تفكيره وثقافته. وهذا القارئ المحروم من كثير من زاد المعرفة وثمرات القرائح والمطابع لكل الأسباب التي أشير إليها سابقاً وفي توصيات ورصد أوضاع تم في أكثر من مناسبة وندوة ودراسة ومؤتمر على المستوى العربي، ولعدم قدرته في المحصلة على توفير مناخ العيش الذي يسمح للمعدة والرأس بغذاء متوازن أو متقارب، نتيجة للفقر وضغط الحاجة وفقدان الخدمات وتراخي الإرادة وتآكل التطلع والطموح ولكثرة ترسبات القهر والإحباط.. هذا القارئ يبقى في النهاية هو المقصود بحركة النشر وهو أهم محركاتها والمقصود برسالتها النبيلة، إذ هو أسمى أهدافها وجوهر ديناميتها.

إن القراء والقراء المحتملين العرب يساهمون في ازدهار حركة نشر عربية متكاملة ويشكلون أهم عوامل دفع تدفق الكتاب في هذا الاتجاه أو ذاك حسب الطلب، وحركتهم جاذبة قادرة على التأثير في توفير النوع الجيد المتميز في كل مجال من مجالات المعرفة والإبداع، على زيادة الكم والتنوع في قطاعات القراء وأنواع اهتماماتهم، وقطاعات المعرفة العلمية والتقنية والإنسانية المطلوبة كلها بما في ذلك دقائق المعلومات التي يتدفق سيلها باستمرار.

وإذا استطاعت حركة النشر العربي التي تعاني من بؤس حقيقي اليوم في الانتشار والتواصل من جهة، وفي شمولها لحقول المعرفة وأنواعها ولعمق ما ينشر في تلك الحقول من جهة أخرى.. إذا استطاعت أن تضع خططها المستقبلية وبرامج تحركها وإنتاجها على أساس نظري بسيط ـ هو أقرب ما يكون إلى الواقعية التامة مستقبلاً بمقاييس الإحصاء والعقل والمنطق ـ وهو وجود مائة ألف قارئ عربي لكل كتاب جيد، في حقول المعرفة العامة والإنسانيات، وعشرة آلاف قارئ على الأقل في حقول متخصصة، فإنها ستنجح  في تحقيق مشاريع تجسد هذا الحلم وتغذيه وتنميه، وتستطيع أن تركن إلى قدرة  هذا الكم البشري المتميز من حيث النوع بشكل عام، على خلق تيار تقدم وازدهار في كل مناحي الحياة العربية،  الأمر الذي سينعكس إيجابياً بدوره على ازدهار حركة النشر والإبداع وينمي عدد القراء المحتملين من جديد، ومن ثم يساهم في التنمية الثقافية العربية.

إن كسب معركة الثقة التي لا بد لجسور اتصال تعمل بالاتجاهين من أجل خوضها والفوز فيها، من الأمور الجوهرية والبنيوية في العلاقة مع القارئ. ومن أجل الوصول إلى ذلك لا بد من تذليل صعوبات كثيرة وخلق مناخ ملائم، وقيام تعاون شامل بين جميع المعنيين الذين  يهمهم أن يكون قطاع النشر العربي قطاع خدمة متميزة تلبي حاجة عليا متجددة للفرد والمجتمع، حاجة ماسة من الغذاء المعرفي العلمي والأدبي والإبداعي، يتدفق زادها في أرواح  متعطشة للانتعاش. ومن شأن ذلك أن يضع الأمة العربية على طريق النهضة والمستقبل بكل مستلزماتهما واحتياجاتهما المادية والمعنوية علمياً وعملياً وأخلاقياً.

إن التطور المستقبلي المنتظر لقراء محتملين يربوا على المئة ألف قارئ على الأقل كمرحلة أولى يجعل إمكانية خفض تكلفة الكتاب والدورية أمراً ممكناً جداً، كما يتيح فرص تحرير المؤلف والمبدع اقتصادياً وبالتالي تحرير قلمه وطاقته الإبداعية من القيود الخارجية والداخلية المنظورة وغير المنظورة، ولاسيما تلك التي تفرضها الحاجة والسلطات السياسية القطرية بشكل ظاهر أو خفي على المؤلفين والمبدعين وعلى حركة النشر والإبداع، سواء أكان ذلك بسبب من محدودية النظرة السياسية القطرية أو لأسباب اقتصادية، أو بسبب حصر أفق الكلمة وخنق جناح الفكر والإبداع ضمن جزر وأسوار وحدود التجزئة السياسية والجغرافية والبشرية السائدة في الوطن العربي، وانعكاس ذلك من خلال مخافر تركزت في وجدان المبدعين ولا وعيهم، هذا فضلاً عن مردوده الذي لا يمكن التكهن بمدى تأثيره في حركة الوعي العربي عمقاً وشمولاً وعلى الحس القومي والتكوين الوحدوي والوجدان العربي والمد النهضوي والحضاري.

إن الوضع البائس للمؤلف والمبدع والناشر والموزع والقارئ ولجميع العاملين في حركة النشر العربية في وضعها الراهن، وكذلك بؤس مناخها وعائداتها المعنوية، كل ذلك لم يعد يلائم الواقع وتحديات العصر، ولا يتفق مع درجة الوعي بحدود المشكلة وأبعادها من وجهة نظر الذين يعانون منها على الأقل ويتابعونها، فضلاً عن وجهة نظر أولئك الذين يعلنون عن رغبتهم في أن تتجاوز تلك الحركة حدود البؤس، ويُعْمِلون إراداتهم من أجل أن تدخل دائرة الانفراج والضوء والأمل وكل ما يمكن أن تضفيه شمس المجموعة العربية الشاملة لجمهرة المعنيين بالمعرفة والمنتفعين منها وأولئك الذين يعلقون آمالاً كبيرة عليها.

ونعتقد أن هذا المدى الذي أوصلتنا إليه ملامسة وضع القارئ العربي في الواقع الراهن الذي يشير إليه متوسط عدد النسخ المنشورة من الكتاب العربي اليوم ونصيب المواطن العربي من نسخ الكتب المنشورة"؟؟؟" أو قل نصيب كل نسخة من عديد المواطنين العرب ، وذلك الذي تشير إلى أفقه أبسط الأرقام المنقولة عن الإحصاءات وتلك المعقولة والمقبولة منطقياً في مجال النشر مستقبلاً، في أدنى الأرقام التي يبشر بها أفقه، يسمح بالانتقال إلى ملامسة بعض المشاريع القومية التي تسمح بتغيير جوهري في واقع حركة النشر العربي، وتفتّق بعض قطب السُّتُر التي تحجب وجهه، وسوف نكتفي بأن تكون ملامستنا سريعة وموجزة، تتذوق بعض مشهد الحلم، ولا تتعرض لصعقة كهربائه تكون مدمرة لواقف بين قطب مشرق للرؤية وآخر يشحنه الواقع المجلل بالسواد.

 

دمشق في 7/8/2009