خبر هكذا حوّل الاحتلال الإسرائيلي معبراً للعمال إلى سوق للعبيد

الساعة 10:27 ص|07 أغسطس 2009

هكذا حوّل الاحتلال الإسرائيلي معبراً للعمال إلى سوق للعبيد

معبر ارتاح .. بوابة جحيم يدخلها آلاف العمال الفلسطينيين بحثاً عن قوت أطفالهم

فلسطين اليوم- قدس برس(سليم تايه)

 

يستيقظ العامل الفلسطيني علي، في مدينته طولكرم، في الساعة الواحدة بعد منتصف الليل، للاستعداد ليوم عمل شاق آخر، يمتد طيلة النهار. إنه كما يقول، يضطر للنهوض في هذا الوقت حتى يتمكن من الوصول إلى عمله داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة سنة 1948 في الوقت المحدد، وهو الساعة الساسة والنصف صباحاً، وإلاّ سيُفصل من عمله في ورشة للبناء في ملبس، أو ما يسمى إسرائيلياً "بيتاح تكفاه".

 

ومع اقتراب الساعة من الواحدة والنصف فجراً، يكون علي قد وصل إلى ميدان جمال عبد الناصر، مركز مدينة طولكرم، بعد أن ترك زوجته وأبناءه الخمسة خلفه نائمين. يسترق العامل الفلسطيني الكادح نظرة خاطفة إليهم دون أن يروه، فهو يستعد للتوجّه إلى حيث تتواجد السيارات التي تقل العمال إلى معبر ارتاح، وسط حركة كثيفة للعمال في هذا الوقت المبكر جداً.

 

بعد نحو عشر دقائق يصل علي إلى معبر الطيبة، الذي يُطلق عليه أيضاً اسم معبر ارتاح، لنسبة لقرية ارتاح، لكنّ علي يقول "في الحقيقة لا توجد هنا أي راحة أبداً".

 

 

 

معبر مفعم بالشواهد المأساوية

 

يُعتبر هذا المعبر، من أبرز المعابر التي يدخل منها العمال الفلسطينيين ليتوجهوا يومياً إلى مواقع عمل وراء الخط الأخضر. ويبدو المشهد في هذه المنطقة مفعماً بالشواهد المأساوية، التي تشي بانسداد فرص العمل أمام قطاعات واسعة من الفلسطينيين في الضفة، فيضطرون للعمل في مواقع إسرائيلية في ظروف فائقة القسوة، علّهم يعودون بقوت اليوم لأبنائهم الذين ينتظرونهم طويلاً كل نهار.

 

يقع معبر ارتاح إلى الجنوب الغربي من مدينة طولكرم، ويبعد عنها حوالي ثلاثة كيلومترات. ويتموضع المعبر داخل الأراضي المحتلة سنة 1967، وله جانبان، ومن الجانب الشرقي المقابل للضفة لا توجد به سيطرة لأحد، أما من الجانب الغربي فيقع بشكل كامل تحت سيطرة جيش الاحتلال الإسرائيلي. أمّا داخل المعبر سيئ السمعة، فتقوم شركة أمن خاصة بمراقبة عملية الدخول إلى المعبر والخروج منه.

 

ويقول علي لمراسل "قدس برس" الذي رافق العمال في سفرهم للاطلاع على حجم معاناتهم، "رغم أنني أصل باكراً إلى المعبر؛ إلا أنني أجد طوابير هائلة متعددة من العمال، الذين يعملون  بتصاريح عمل داخل أراضي 48 والذين يأتون من جميع محافظات الشمال (الضفة)".

 

يقف هؤلاء العمال في طوابير في حالة زحام نادرة، حتى أن معظم الأيام لا تخلو من إصابات بين العمال من شدة الاكتظاظ. ويقول علي "أحيانا يتسبّب ذلك في الوفاة لبعضهم، وسمعنا الكثير عن هذه الحالات"، معتبراً أنّ هذه الطوابير "تشبه معسكرات الاعتقال، وطوابير الفلسطينيين اللاجئين على أبواب وكالة "الأونروا". إنه وقوف إجباري، لأجل اجتياز هذا المعبر المشبّع بالقسوة، فهو المعبر الوحيد بالمنطقة الذي يمكن للباحثين عن فرصة عمل نادرة وشاقة اجتيازه. ويمرّ عبر معبر ارتاح نحو أربعة آلاف عامل فلسطيني يومياً، بعد أن تقطعت فيهم سبل كسب القوت في الضفة الغربية.

 

 

 

يُلقى بهم مثل الدجاج المذبوح

 

يشرح علي طبيعة التجربة التي يمرّ بها المرء في مكان كهذا، فيقول "عندما تقف في الطابور لا تستطيع أن تفعل شيئاً، لا ذهاب إلى دورة المياه أو لجلب فنجان قهوة أو طعام أو غيره. نضطر للوقوف على هذه الحالة حتى الساعة الرابعة والنصف صباحاً أو الخامسة (أي لنحو أربع ساعات)، حين يبدأ الجنود بإدخال العمال عبر بوابة واحدة لا يتجاوز عرضها المتر ونصف المتر، وأمامها توجد ثلاث بوابات على شكل دولاب".

 

يطلق العمال الفلسطينيون على هذه البوابات الكريهة مصطلح "المعاطات"، لأنها تشبه "معاطة" الدجاج بعد ذبحه. ومن ثم يتوجه العامل عبر بوابه تسمى "الآلة الزنانة"، وهي توصف بأنها شديدة الخطر على أرواح هؤلاء العمال حيث يتم التفتيش في هذه البوابة بأشعة الليزر على ما يبدو، وذلك بشكل يومي متكرر، مع أخذ بصمة جميع العمال.

 

وبعد ذلك يتم إدخال العامل إلى غرف صغيرة خاصة هو ومجموعة من العمال، ليتم إخضاعهم لفحص دقيق يشمل كل شيء. أما إذا ما تم الاشتباه بأحد منهم فيكون التفتيش أشد صرامة إلى درجة إجباره على خلع جميع ملابسه. ومن ثم يصل العمال إلى النافذة الأخيرة، ليتم فحص تصريح المرور والهوية الشخصية. وفي بعض الحالات يقوم الجنود بالتباطؤ المتعمد في الإجراءات المتشددة لكي يتأخر العمال عن مواقعهم. وتشتد الأزمة أحياناً عند معبر ارتاح، وخاصة في أيام المطر.

 

 

"نخرج من المعبر منهكين"

 

إلاّ أنّ مآل هذه المسارات الشاقة لو اكتملت أن يخرج العامل إلى بوابة الخروج، وتكون الساعة قد وصلت السادسة والنصف صباحاً، فيذهب العامل عبر سيارة أجرة أو خاصة إلى عمله، ليضطر إلى دفع نصف أجره كثمن للمواصلات داخل أراضي الـ 48، كي يصل عمله. وعند وصوله موقع العمل، "نكون منهكين من الوقوف والزحام والإجراءات الروتينية اليومية، ومع ذلك نجد معاملة سيئة من أصحاب الشركة حيث يقومون بالضغط علينا أثناء العمل"، حسب توضيح علي.

 

ويقصّ علي حكايته التي تشبه حكايات آلاف العمال فيقول "في أحد المرّات، ونتيجة التزاحم الشديد في المعبر؛ كنت محشوراً بين العمال وقضبان الحديد، وحدث تدافع شديد على المعبر، ففقدت الوعي ولم أستيقظ إلاّ بعد ساعات وأنا في مشفى طولكرم أتلقى العلاج، حيث أُصبت برضوض".

 

وأضاف العامل الفلسطيني ورب الأسرة الكادح "رغم أنني أملك جسداً قوياً؛ إلا ّأنني لم أستطع الاحتمال، فكيف بأولئك الرجال والنساء الكبار بالسن الذين يصطفون بين العمال؟!".

 

ويذكر علي أنه قبل عدة أشهر لقي أحد العمال مصرعه بطريقة مأساوية جراء اختراق قضبان حديدية لرقبته، بينما وقعت امرأة ولحقت بها إصابات خطرة. وإزاء هذه الحوادث ورغم خطورتها، لا يقوم جيش الاحتلال الإسرائيلي بتداركها أو إصلاح ما يهدد حياة العمال، أو حتى تقديم الإسعافات لهم رغم أنها تقع تحت سمعه وبصره.

 

وبالرغم من أن علي يعمل مع شركة تعد من شركات البناء الإسرائيلية الكبرى؛ إلاّ أنّ الشركة ورغم جلوسه بالبيت لأيام ومعرفتها بالموضوع فأنها لم تحاول الاتصال به أو تعويضه عن الخسائر التي لحقت به، حتى أنها لم تعطيه بدل أجرة الأيام التي قضاها في البيت مريضاً، خلافاً للالتزامات والأعراف العمالية.

 

 

 

معبر .. من "أبواب جهنم"

 

وتصف منظمة "محسوم ووتش" (مراقبة الحاجز، فمحسوم يعني حاجز بالعبرية) الحقوقية الإسرائيلية، معبر ارتاح بأنه باب من "أبواب جهنم"، يجتازه آلاف العمال الفلسطينيين يومياً في طريقهم للعمل، جراء إخضاعهم لعمليات تفتيش مهينة، يتحوّل هذا المعبر إلى "سوق عصري للعبيد".

 

وتؤكد المنظمة أنّ ما بين مائة وخمسين ومائتي عامل فلسطيني يضطرون للوقوف داخل الحاجز، في ممرّ تقل مساحته عن عشرة أمتار مربعة، قبيل البدء في إخضاعهم لتفتيش دقيق، كما ينتظر المئات قبالة الحاجز فجر كل يوم، وتضيف "يستغرق عبور كل شخص باباً حديدياً دواراً داخل الحاجز نصف دقيقة لكل واحد، وبعد ذلك يضطر لاجتياز عوائق وفحوص كثيرة مضنية".

 

وتنقل "محسوم ووتش" عن عمال فلسطينيين قولهم إنّ الجنود ألقوا مؤخراً بقنبلتي غاز نحوهم وهم ينتظرون اجتياز حاجز ارتاح، وهكذا تؤكد المنظمة أنّ مهمة العامل الفلسطيني "أشبه بدخول أبواب جهنم"، وهو يحتاج للسفر من موقع الحاجز بعد عبوره نحو مكان عمله، لافتة الانتباه إلى أنّ عذاباً مماثلا ينتظره في الإياب كذلك، في ما "لا يتورع الجنود عن توجيه بنادقهم للمارة الفلسطينيين وإلقاء قنابل صوتية نحوهم وشتمهم".

 

كما تتم عملية فحص المارة من خلال تعريتهم كلياً بشكل جماعي، مما يزيد من حالة الضغط عليهم، حيث تشير المنظمة إلى أنّ الأطفال الفلسطينيون يخضعون أيضاً للتدقيق، كما يُعامَل الكبار والشبان.

 

وتؤكد "محسوم ووتش" أنّ حاجز ارتاح يفتح متأخراً عن الموعد المُعلن، وهو أصغر من أن يلبي حاجة التحرك والمرور في منطقة طولكرم، وتضيف "بغية السيطرة على العدد الهائل من العمال يفرط الجنود في استخدام القسوة وإطلاق النار بالهواء".

 

وتؤكد المنظمة أنّ الحاجز يزداد ازدحاماً عند الظهر جراء تقليص عدد الجنود المسؤولين عن إجراء الفحوص من خمسة عشر جندياً إلى جندي واحد، فيما يضطر الفلسطينيون إلى الاصطفاف في طوابير تحت أشعة الشمس.

 

وتشير المنظمة إلى شهادات بعض العمال ممن يغادرون بيوتهم عند الساعة الواحدة ليلا لبعدهم عن حاجز ارتاح، ويضطرون إلى اجتياز حواجز أخرى، كما يؤكد آخرون أنهم يبيتون في الحاجز ولا يعودون لمنازلهم حينما يطول يوم عملهم.

 

 

 

إحباط محاولات للتنظيم

 

وعلى إثر الكثير من المشكلات التي حدثت على المعبر وبعد الإصابات المتكررة التي حدثت، وفي ظل ما يوصف بتجاهل الجهات الرسمية الفلسطينية لوضع العمال على المعبر من الجانب الفلسطيني؛ بادرت مجموعة من المتطوعين من سكان بلدة ارتاح، لتشكيل لجنة من سبعة أشخاص، يعملون من الثانية صباحاً حتى الثامنة صباحاً، من أجل تنظيم عملية العبور وتنظيم العمال. وبالفعل؛ تم تنظيم العمال في طوابير بشكل صحيح، وتنظيم البسطات والباعة في المنطقة.

 

وهكذا عاش العمال شهراً من الهدوء النسبي على المعبر، رغم الإعاقات داخل المعبر من قبل جنود الاحتلال. إلاّ أنّ السلطة الفلسطينية منعت هؤلاء المتطوعين من العمل، واعتقلت عدداً منهم بحجة أنّ المعبر "يجب أن تكون عليه سيادة فلسطينية رسمية"، وبسبب عدم سماح الجانب الإسرائيلي بذلك فالعملية "معطلة، ولا ضرورة لوجود متطوعين". هكذا "عادت الفوضى من جديد"، كما يؤكد أبو ربيع لوكالة "قدس برس"، باعتباره أحد المتطوعين البارزين في عملية التنظيم على المعبر.