خبر خطر كبير قد يكون في انتظار الفلسطينيين ..د. بشير موسى نافع

الساعة 10:57 ص|06 أغسطس 2009

خطر كبير قد يكون في انتظار الفلسطينيين

د. بشير موسى نافع

 

ـ القدس العربي 6/8/2009

تصاعد أزمة العلاقات بين فتح وحماس، أو بين غزة ورام الله، ما كان يجب أن يفاجئ أحداً. خلف هذا التصاعد، ثمة سعي حثيث في رام الله لتهيئة الأجواء لتسوية نهائية للمسألة الفلسطينية، تتحول فيها السلطة الفلسطينية (على رأس دولة، دولة مؤقتة، أو حكم ذاتي موسع) إلى ملحق أمني للدولة العبرية، إلى خزان يد عاملة رخيصة للاقتصاد الإسرائيلي، وإلى مؤسسة قمع دائمة للشعب الفلسطيني. مؤتمر فتح ليس إلا حلقة في مسار التحول الكبير الذي تحاول مجموعة رام الله إنجازه في مجمل الوضع السياسي الفلسطيني، والتصعيد في لغة بعض الفتحاويين السذج (أو المتواطئين) ليس إلا شاشة من الدخان لتغطية الانقلاب الشامل، الذي تتواصل فصوله، على الحركة الوطنية وعلى ميراث حركة فتح نفسها.

تعقد فتح مؤتمرها السادس في بيت لحم، المؤتمر المؤجل منذ أكثر من عقدين. طوال عامين، والقيادة الفتحاوية تحاول جهدها عقد المؤتمر العتيد، بدون أن تحرز تقدماً يعتد به؛ بل حتى أسبوع قبل موعد انعقاد المؤتمر لم تكن مسألة قوائم الأعضاء قد حلت بعد. المسألة التي حلت بالفعل، بعد طول أخذ ورد، كانت مكان انعقاد المؤتمر. عدد من التفاهمات بين رئيس سلطة الحكم الذاتي والعواصم العربية المجاورة، أمن رفض هذه العواصم استضافة المؤتمر على أراضيها. وتفاهم مواز بين عباس وأبو ماهر غنيم، رئيس دائرة التعبئة والتنظيم في فتح، ومعارض أوسلو السابق، أمن دعم غنيم لعقد المؤتمر في بيت لحم. وفي مفاجأة من العيار الثقيل، تضمنت، بين عدد من الاسترضاءات، وعداً بدعم ترشيحه لخلافة عباس في رئاسة السلطة، قرر غنيم مغادرة المنفى والعودة إلى رام الله، تاركاً رفاق الخارج الآخرين من أعضاء اللجنة المركزية في العراء.

كانت هذه التطورات هي التي دفعت فاروق القدومي، أبو اللطف، للقيام بالعملية الانتحارية التي ادعى فيها وجود محضر أودعه لديه المرحوم الرئيس عرفات، حول مجريات لقاء بين عباس ومحمد دحلان، من جهة، ورئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق شارون، من جهة أخرى، نوقش خلاله فكرة اغتيال عرفات. أدرك القدومي أن عقد المؤتمر في بيت لحم سيكون نهاية له على أية حال، فاتخذ قراره بالتالي لتحطيم ما يمكن تحطيمه من شرعية عباس. بغض النظر عن مصداقية (أو عدم مصداقية) محضر عرفات/ القدومي، فقد كان الاتهام الذي وجهه لعباس ودحلان مؤشراً على عمق الصراع السياسي على روح فتح، أو ما تبقى من هذه الروح.

خلال أيام من تنفيذ القدومي عمليته الانتحارية، انفجرت أزمة أعضاء المؤتمر من أبناء قطاع غزة، التي سرعان ما وظفت لتضخيم العصبية الفتحاوية. كانت فتح وحماس قد أوشكتا التوصل إلى اتفاق مصالحة في مباحثات القاهرة، يضع حداً للانقسام بين غزة ورام الله. العقبة الكأداء التي واجهت، وما تزال، اتفاق المصالحة، كانت تلك المتعلقة بمئات المعتقلين من حماس في الضفة الغربية (وعدد ملموس، ولكن أقل، من معتقلي الجهاد). فمنذ حسم الوضع في قطاع غزة قبل عامين لصالح حماس، تعهدت سلطة رام الله حملة اعتقالات واسعة النطاق لنشطي وكوادر حماس والجهاد في الضفة الغربية، إلى جانب حملة موازية لتحطيم مؤسسات العمل الخيري والمدني المشتبه بدعمها لحماس. الأغلبية العظمى من المعتقلين أودعوا السجون بلا محاكمة ولا لائحة اتهام، بعضهم تعرض لتعذيب بشع، وعدد منهم قتل تحت التعذيب. هذه، بالطبع، حملة اعتقالات سياسية؛ وكان من الطبيعي أن تكون بداية أية مصالحة هي الإفراج عن المعتقلين. ولكن عباس ورئيس وزرائه فياض، رفضا الإفراج عن أي من المعتقلين، مما تسبب في توقف مسار المصالحة.

بيد أن حماس وجدت في مؤتمر فتح فرصة أخرى لمحاولة الإفراج عن المعتقلين، أو كشف حقيقة سلطة رام الله أمام الفلسطينيين، بوضعها ملف المعتقلين في الضفة، إلى جانب مطالبة رام الله بتزويد حكومة غزة بجوازات السفر، كشرط للسماح لأعضاء مؤتمر فتح في القطاع الالتحاق بمؤتمرهم في بيت لحم. حكومة حماس في غزة ليست مكونة من ملائكة؛ ولكن أحداً لا يمكن أن يتجاهل عدالة مطالب حماس. فليس من المنطقي أن تتواصل حملات الاعتقال والتعذيب في الضفة الغربية، وتساهم سلطة رام الله في الحصار المفروض على قطاع غزة وأهله، بما في ذلك حرمان آلاف المرضى والطلاب والأسر من جواز السفر، ثم يجري التباكي على منع عدة مئات من أعضاء فتح في القطاع من السفر إلى مؤتمر خطط له أصلاً ليكون مؤتمر عباس والمجموعة الملتفة حوله.

في الأيام القليلة التي سبقت انعقاد مؤتمر فتح، لم تبق دولة عربية أو غير عربية ذات صلة بحماس إلا وطلب منها عباس التدخل لتأمين التحاق مندوبي فتح في قطاع غزة بالمؤتمر، بما في ذلك روسيا ومصر وسورية وتركيا والأردن والسعودية، وحتى عُمان. ما لم يقم به عباس هو الإفراج عن المعتقلين، الذين كاد عددهم أن يصل إلى الألف، أو حتى الوعد بالإفراج عنهم. وهذا هو السؤال الهام في كل هذا الضجيج الفلسطيني.

قبل زهاء الإسبوعين من انعقاد مؤتمر فتح، نشرت 'يديعوت أحرونوت' الإسرائيلية مقالاً مدهشاً حول اتفاق تسوية غير رسمي، توصل إليه مفاوضون فلسطينيون وإسرائيليون تحت مظلة ما بات يعرف بمبادرة جنيف. مبادرة جنيف، لمن لا يذكر، هي تلك التي تم إعلانها قبل سنوات بين الفلسطيني ياسر عبد ربه والإسرائيلي يوسي بيلين، وتحولت سريعاً إلى مؤسسة تفاوض غير رسمي بين الطرفين. خلال السنوات القليلة الماضية، سيما بعد صعود عباس وفياض، تحول عبد ربه، الذي يفتقد أية قاعدة شعبية أو سياسية، إلى شخصية نافذة في معسكر الرئيس عباس وإدارته. يقدم مقال 'يديعوت أحرونوت'، الذي تبناه موقع مبادرة جنيف بكامله، في دلالة واضحة على مصداقيته، وصفاً تفصيلياً لاتفاق لا يقل تفصيلية للتوصل إلى سلام دائم يؤدي إلى إقامة دولة فلسطينية في الضفة الغربية (إلى حين حسم الوضع في غزة)، مع تقاسم للقدس الشرقية وتبادل للأراضي، بدون المس بالمستوطنات اليهودية في الضفة الغربية، لا يتضمن عودة اللاجئين الفلسطينيين، ويوفر ضمانة أمنية كاملة للدولة العبرية، ويجعل الكيان الفلسطيني المنشود مجرد ملحق سكاني لدولة إسرائيل.

هذا أول اتفاق من نوعه بين الطرفين؛ والواضح أن الرئيس عباس كان على اطلاع واف على كل تفاصيل تفاوض جنيف ومراحله، وأن إدارة أوباما ومعسكر الاعتدال العربي أبدوا اهتماماً ملموساً به؛ ولا يستبعد أن يتحول إلى قاعدة للتفكير الأمريكي حول التسوية. من وجهة نظر الحد الأدنى للمطالب الوطنية الفلسطينية، فإن اتفاق جماعة جنيف ليس أقل من كارثة. ولكن المشكلة الأكبر أن الاتفاق ليس رسمياً، وقد جرت العادة منذ بدء مسار التفاوض بين الفلسطينيين والإسرائيليين أن تأتي الاتفاقات الرسمية بما هو أقل بكثير من التفاهمات غير الرسمية. إن كان فلسطينيو رام الله قد ذهبوا إلى هذا المدى من أجل التوصل إلى اتفاق غير رسمي مع ما يوصف أحياناً بمعسكر السلام الإسرائيلي، فإن الله وحده يعلم المدى الذي يمكن أن يذهبوا إليه للتوصل إلى اتفاق رسمي مع نتنياهو وليبرمان.

المهم، أن سلطة رام الله اعتبرت أن اتفاق جنيف هو اتفاق، وأن تحويله إلى تعاهد رسمي يتطلب التزام السلطة بما يلزمها به الاتفاق غير الرسمي. سلسلة الإجراءات الأمنية التي اتخذتها السلطة لا علاقة لها بادعاءات تخطيط حماس للسيطرة على الضفة الغربية، بل بما يجب أن تقوم به السلطة من دور استراتيجي لتأمين الدولة العبرية، في حال تحولت السلطة إلى دولة، ولأن قيادة السلطة، بمن في ذلك عباس وفياض وعبد ربه، تؤمن بإمكانية التوصل إلى اتفاق سلام نهائي مع الدولة العبرية، فإن كل سياساتها تقوم على بناء مستودع الثقة لدى القيادة الإسرائيلية في قدرة السلطة على القيام بمهماتها ودورها المستقبلي في عملية التسوية.

تصعيد الأزمة مع حماس ليس أكثر من عرض جانبي لامتصاص التوتر في صفوف حركة فتح، وتوحيد الحركة خلف قيادة عباس، الذي لم يعد يؤمن أصلاً لا بفتح ولا بدورها ولا بثقلها.

وحتى مفاوضات المصالحة في القاهرة، لم يكن يرجى منها سوى تعزيز موقع قيادة السلطة في مفاوضات السلام النهائي. وليس لمؤتمر فتح من دور إلا التخلص من معارضي عباس في اللجنة المركزية والمجلس الثوري، وانتخاب قيادة فتحاوية جديدة تسير كلها، أو أغلبيتها العظمى، خلف قيادة السلطة ومشروعها للسلام بدون أسئلة كثيرة؛ أي تحويل فتح ليس إلى حزب للسلطة وحسب، بل وإلى مظلة للتسوية المنشودة.

ثمة انقسام فلسطيني وطني بلا شك، سياسي وجغرافي. وهناك انقسام مواز في حركة فتح، ليس من الممكن تنبؤ أبعاده وما قد ينتهي إليه. ولكن خطراً أكبر ينتظر الفلسطينيين، خطراً يتعلق بمستقبل قضيتهم الوطنية ككل. وليس تأجيج الانقسامات إلا وسيلة لتقديم الخطر القابع على منعطف الطريق وكأنه الخلاص الأخير لصراع المئة عام.