خبر « فتح » بين مؤتمرين .. مياه كثيرة جرت في الوادي والوجهة محسومة مسبقاً

الساعة 02:49 م|04 أغسطس 2009

عباس يحاول استجماع خيوط مبعثرة .. بعيداً عن الناقمين

"فتح" بين مؤتمرين .. مياه كثيرة جرت في الوادي والوجهة محسومة مسبقاً

فلسطين اليوم- غزة

إن ظلّ الاسم حاضراً؛ فإنّ التغيّرات والتبدّلات هي التي تفترش المشهد. فحركة "فتح" في مؤتمرها السادس المنعقد في بيت لحم، لم تعد بالقطع ما كانت عليه في مؤتمرها الخامس الذي التأم في تونس. فخيط الزمن الذي يعود لعشرين سنة، عندما التقى قادة الحركة وكوادرها للمرة الأخيرة؛ شهد انعطافات شديدة الحدّة، ومطبّات وعرة، تحوّرت معها اللافتات والشعارات، وتغيّرت الوجوه والأسماء، في ما تبدّلت الخيارات والرهانات كذلك.

 

كان ياسر عرفات هو الزعيم الممسك بالخيوط، في المؤتمر الخامس المنعقد في تونس، في آب (أغسطس) 1989. جاء المؤتمر وقتها في خضمّ مرحلة فلسطينية مُفعَمة بالزخم، تفاعلت فيها الانتفاضة الشعبية، وبرزت فيها قوى فلسطينية اقتطعت مساحة ملحوظة من الشعبية والشرعية من خلال الحراك الفلسطيني المتسارع. أشّرت وجهة "فتح" آنذاك لاغتنام الانتفاضة في اتجاه إطلاق عملية سياسية من خلال مؤتمر دولي للسلام، يرسم أفقاً سياسياً للقضية الفلسطينية، ويؤسس عملياً للانقسام الداخلي الذي شهده البيت الفلسطيني وتفاقمت عوارضه لاحقاً.

 

في سنة 1989؛ رفع الفصيل الفلسطيني الأوّل وقتها، وعلى لسان عرفات ذاته، شعار "سلام الشجعان"، في ما ظلّ التغنِّي ببطولات الانتفاضة الشعبية هو حديث المرحلة. هي مزاوجة بدت قابلة لاحتمال تحقيق إنجاز ما، في لحظة تاريخية صعبة؛ اضمحلّ فيها الظهير الدولي السوفياتي ودُشِّنت معها الحقبة الأمريكية، وبدت الساحة الفلسطينية مرشّحة خلالها للتحوّل إلى نفوذ القوى الإسلامية الصاعدة والحاضرة بقوة في الداخل الفلسطيني، وتحديداً حركة "حماس".

 

في كل الأحوال؛ كانت "فتح" وقتها حركة واحدة، تستظلّ بقيادة عرفات المشبّعة بكثير من القيمة الرمزية المُضافة. وكان لابد للحركة، في مؤتمرها الخامس المنصرم، أن تستذكر شهداءها، وبالأخص منهم رجلها الثاني خليل الوزير، الذي اغتاله الاستخبارات الإسرائيلية في مقرّ إقامته بتونس، قبل سنة من ذلك.

 

لكنّ وفود الحركة، التي جاءت هذه المرة إلى بيت لحم من كل حدب وصوب، باستثناء قطاع غزة المحاصَر؛ تجتمع للمرة الأولى منذ عشرين سنة، وقد جرت مياه كثيرة في الوادي.

 

فلم يعد من مجال للتغنّي بالانتفاضات التي تم إخماد نارها بصمت، وبالتراضي مع أطراف "الرباعية"، عبر إجراءات وترتيبات مثيرة للجدل. وقد حلّت قيادة "فتح" ما تبقى من تشكيلات مقاومة، بما فيها ما يتبع "فتح" ذاتها. كما تمّ نزع فتيل الفعاليات الشعبية المناوئة للاحتلال والمتصادمة معه، ليبقى الأمر في حدود تجمّعات سلمية رمزية، سرعان ما تنفضّ، كلما استدعى الموقف، مع تحاشي الاحتكاك بحواجز الاحتلال على مداخل رام الله وغيرها من مدن الضفة.

 

وعلى رأس المشهد يقف اليوم محمود عباس، وليس "القائد العام لقوات الثورة الفلسطينية". يقف عباس محاولاً استجماع خيوط مبعثرة بين يديه، وفي عرض المشهد يعبِّر واقع "فتح" عن حالة من عدم الانسجام الحركي، يصعب تعريفها في قالب واحد، أو توصيفها ضمن إطار جامع.

 

تجتمع "فتح"، أو بعض "فتح" كما يقول غاضبو الحركة من المؤتمر السادس؛ مستظلة هذه المرّة بقيادة عباس، الذي يستجمع أوراقاً أخرى لتعويض الفارق الملحوظ في القيمة الرمزية المضافة التي كانت لسلفه الراحل.

 

وفي المؤتمر الجديد ليس من حاجة لشعار من قبيل "سلام الشجعان"، لأنّ الولوج إلى عملية التسوية السياسية تمّ بالفعل إلى حد الانغماس الكامل؛ منذ مؤتمر مدريد (1991)، ومن ثم اتفاق أوسلو (1993). استنفذت التسوية فرصتها الزمنية والمنطقية؛ قبل أن تنهار العملية ذاتها وتتقوّض، باستثناء الاسم الذي ظلّ مرفوعاً عبر المراحل، وصولاً إلى أنابوليس (2007) وما بعدها. انهارت التسوية منذ زمن، إن لم تكن "وُلدت ميتة" كما يقول خصومها، لكنّ الذي بقي هو اعتراف "فتح" وقادتها بإسرائيل وبـ"حقها في الوجود"، وهو ما لم يكن قد طرأ بعد في المؤتمر السابق للحركة.

 

كان يُقال في المؤتمر السابق إنّ الدولة الفلسطينية "على مرمى حجر"؛ لكنّ المقولة ذاتها تجرّدت من الحجارة وما فوقها من أدوات المقاومة. فها هي "فتح" تلتئم في مربّع "مهندس التسوية"، وفي الأفق خيارات مختلفة عمّا سبق، ورهانات مستجدة؛ عنوانها مزيد من التفاوض، وصولاً إلى دولة يصعب تعريفها بمواصفات تقليدية، بما استدعى نعوتاً مبتكرة من قبيل أن تكون "قابلة للحياة"، و"إلى جانب دولة إسرائيل".

 

 

وفي الانعقاد الصعب الذي طال انتظاره للمؤتمر السادس؛ يستذكر الجميع أنّ "فتح" لم تعُد الحركة الأولى فلسطينياً، لكنها تحوّلت إلى حزب السلطة، في ما انتقلت قيادتها من الزعامة الشعبية إلى خانة "الرئاسة".

 

غاب "الختيار" بكوفيته، ومسدّسه، وملابسه العسكرية المتواضعة، التي توحي بمرحلة "النضال الوطني"؛ لتبرز ما يسميها الفلسطينيون "قيادات ربطات العنق"، التي تتحدّث إلى الشعب من منصّات الإلقاء المستوحاة من أنماط الإدارة الأمريكية، وليس بالطبع من خنادق الثورة. والرسالة واضحة: ثمة دولة على الطريق، وها هي رموزها تتشكل وهياكلها تنهض، من البساط الأحمر والأعلام المتكاثرة، وصولاً إلى أجهزة الأمن المنضبطة بالالتزامات المكلّفة بها وفق "خارطة الطريق".

 

لكنّ المؤتمر السادس يبقى "انعقاداً تحت الاحتلال"، وفق ما يشير إليه ناقمو "فتح"، بينما يفاخر المؤيدون بأنه انعقد للمرة الأولى "على أرض الوطن". وفي بياناتهم ورسائلهم وتصريحاتهم ومذكراتهم المعلنة والداخلية؛ يستدرك الناقمون بالتذكير أنّ أولئك الذين حضروا من الخارج "اضطرّوا للمرور عبر بوابات إسرائيلية"، وأنّ مخاوف "قطع الرواتب" دفعت وفوداً للحضور طوعاً أو كرهاً، حسب الاتهامات التي تتردّد بأصوات مسموعة.

 

أيا كان عليه حال التراشقات الداخلية؛ ففي المؤتمر الجديد، تُكرِّس "فتح" خطابَها الجديد، الذي يبرز فيه استحضار التناقض المتفاقم مع "حماس"، أكثر من أي شيء آخر. وهكذا جاء خطاب محمود عباس في افتتاح المؤتمر واضحاً، في استدعاء الخصام مع "الانقلابيين"، ملوِّحاً بإيحاءات حادّة من قبيل "الطابور الخامس". ويبدو أنّ الموقف المناهض لـ"حماس"، الذي شغل مساحة ملحوظة من خطاب عباس، حتى بالمقارنة مع مناهضة الاحتلال ذاته؛ هو أحد معالم هوية "فتح" الجديدة، المنشغلة بمعضلات البيت الفلسطيني الداخلي وتراشقاته، في قطيعة مع إرث "حركة التحرير الوطني الفلسطيني"، كما هو اسمها في الأساس. لكنّ الأمر ليس سيئاً بالضرورة؛ إذ يمكن لعقدة "حماس"، كما يصفها محللون فلسطينيون، أن تسعف قيادة عباس في تعزيز اصطفاف فتحاوي داخلي، بعيداً عن استقطابات معارضي الحركة الذين قاطعوا المؤتمر. وهكذا، طالب عباس المؤتمر السادس بأن "يحسم العلاقة مع حماس"، فلا متسع للتشرذم والتشظي والاستقطابات البعيدة عن المركز.

 

أمّا وجهة المؤتمر فهي محسومة بالقطع، كما يُستدلّ من اختيار نقطة الانعقاد الجغرافية، التي لا تتيح مراجعة الاستراتيجية الحركية بعمق إزاء التسوية والمقاومة، أو تسمح برفع سقف الخطاب السياسي، أو بالنظر الجادّ في تكتيكات الأداء، أو أدوات الفعل. فـ"فتح" المؤتمر السادس منساقة في الاتجاه الجبري للمسار، بعد أن أحرقت سفنها؛ واحدة تلو الأخرى. هي في مؤتمرها الأكبر؛ مُرغَمة على التقيِّد بالتزامات المكان وقيود سلطته الفلسطينية، ومضطرة لمراعاة توقعات المانحين الذين يدفعون الرواتب، وللحفاظ على التعهدات المقطوعة لشركاء التسوية.

 

أما هو فيظلّ حاضراً برمزيّته. فـ"أبو عمار" يبقى ماثلاً في الوعي العام للحركة؛ رغم أنّ القيادة آلت إلى من كان منافسه السياسي في سنواته الأخيرة. هو حاضر بقوّة في الشعارات والمقولات، وهو حاضر فوق العادة في الاتهامات والوثائق التي أطلق شرارتها فاروق القدومي، قطب "فتح" المناوئ لمحمود عباس. وإزاء هذه الاتهامات لم يكن على عباس سوى أن يسترسل في الإشادة بعرفات والترحّم على روحه، وإن تحدّث ضمنياً عن "ارتكاب أخطاء" في عهد القائد الراحل للحركة.

 

ما رآه الجميع؛ أنّ عرفات حاضر في مؤتمر بيت لحم، على الأقل بصورته العملاقة التي اختيرت خلفيّة لمنصة المتحدثين. وهي صورة رآها بعضهم في المؤتمر فائقة الدلالات والتعبيرات، يطلّ فيها "أبو عمار"، للمرة الأخيرة ربما، على حركته التي ذوَت شعبياً وتفرّقت بها السبل، بنظرات المساءلة والعتاب. وفي عيون ناقمي "فتح" بخيالاتهم الخصبة تبدو هذه نظرات مشبّعة بالحنق والغضب، على المسالك الجديدة ورموزها، وعلى ملف الرحيل الذي ظلّ مطوياً طيلة سنوات؛ منذ أن خرج "القائد الرمز" من المقاطعة؛ وعاد إليها محمولاً على الأكتاف.