خبر فراغات القوة الأميركية ..محمد سيّد رصاص

الساعة 10:26 ص|29 يوليو 2009

فراغات القوة الأميركية ..محمد سيّد رصاص

ـ المستقبل اللبنانية 29/7/2009

في يوم 5 كانون الثاني1957، وبعد شهرين من انتهاء حرب السويس التي أظهرت علامات الأفول في قوة الامبراطورية البريطانية، قدم الرئيس الأميركي أيزنهاور مشروع (ملء الفراغ) لملء فراغ القوة الذي تصور الأميركان أنه سيحصل في منطقة شرق السويس بمناطق النفوذ والسيطرة البريطانيتين في العراق والخليج العربي وفي جنوب اليمن.

لا تنتج فراغات القوة فقط عن حالة أفول الامبراطوريات، وإنما أيضاً عن حالة اعتلالها. تحصل الحالة الأخيرة الآن عند الامبراطورية الأميركية، التي عاشت حالة مدِ استغرقت من نهاية الحرب الباردة عام1989إلى منتصف عام2006، عندما بدأ الإعتلال في القوة الأميركية بالظهور في منطقة الشرق الأوسط مع نهاية حرب تموز 2006ونتائجها التي انعكست على مجمل المنطقة.

استفاد خصوم ومقاومو وممانعو الأميركان ومشروعهم ("مشروع الشرق الأوسط الكبير" 13 شباط 2004) من حالات فراغ القوة الأميركية بالمنطقة، هنا أوهناك، وقاموا بملئها واحتلال حيزها. أيضاً أتاح هذا المجال لحلفاء الولايات المتحدة لكي تنطلق قوتهم فوق السطح برضا واشنطن، من أجل سد الفراغ، سواء كانوا عرباً، (بعد أن أطلقت وزيرة الخارجية الأميركية في تشرين الأول 2006 نظريتها "حول الصراع بالمنطقة بين المعتدلين والمتطرفين"، وهو ما يمثل تعاكساً مع سياسات الولايات المتحدة أثناء غزو العراق واحتلاله عندما أدى التحالف الأميركي ـ الايراني لتجاهل أميركي لمصالح ورؤى السعودية ومصر وتركيا في الموضوع العراقي)، أم غيرهم كما يحصل منذ ذلك الحين من تعويم أميركي كبير للدور التركي، والذي امتد لإمساك ملفات مفصلية (المفاوضات السورية ـ الاسرائيلية، مثلاً).

شكَل امتداد الإعتلال الأميركي إلى نطاق أبعد من الشرق الأوسط، أو بسببه، فرصة لروسيا لكي تلجم الإندفاعة الأميركية في القفقاس (جيورجيا، آب2008)، أو لتلغيم الأوضاع الداخلية التي ساعد الأميركان على انشائها بالسنوات السابقة لتستطيع موسكو عبر أزمة امدادات الغاز وكذلك من خلال الدرس الجيورجي قلب التحالفات الداخلية لغير صالح الموالين لواشنطن (أوكرانيا، كانون الأول2008)، أو لدفع القوى المحلية لإنهاء الوجود العسكري الأميركي في البلد المعني (قرغيزيا، شباط 2009).

في بعض الحالات، تجتمع المصالح المشتركة بين (القطب الواحد للعالم)، الذي يمر بحالة اعتلال كبيرة لم تقتصر على السياسة وإنما امتدت إلى (وول ستريت)، وبين القوة الإقليمية المعنية لكي ترسم دوراً معيناً يتلاقى عليه الطرفان. في حالات أخرى، يُفرض الدور ضد إرادة واشنطن، كما يحصل منذ عام 2006 من طهران، أو ابتداءً من آب 2008 من قبل موسكو في "حدائقها الخلفية السابقة". في هذا الإطار، يمكن أن يكون الدور الفرنسي، الذي برز في لبنان وجيورجيا بصيف2008 ثم حيال دمشق بالفترة ذاتها، جامعاً وحصيلة لكلا الوضعين السابقين، أي الرضا الأميركي مع القبول المُرغَم من قبل واشنطن بدور تؤديه باريس في وضع معتل أميركياً ما كانت العاصمة الأميركية لترضى بأداء باريس له لو كانت ما زالت في وضع القوة والإندفاع، كما حصل من قبل بوش الأب قبل أيام من حرب 1991لما رفض وأفشل مبادرة الرئيس ميتران(بالتشارك مع الرئيس الجزائري بن جديد) لمنع نشوب الحرب من خلال عرض فرنسي على الرئيس العراقي بانسحاب قواته من الكويت مقابل ضمانات دولية بعدم ضرب القوات العراقية والعراق والغاء عقوبات الأمم المتحدة التي فرضت إثر غزو العراق للكويت.

في هذا الإطار، يمكن القول بأن حالة الإعتلال في القوة الأميركية، خلال السنوات الثلاث السابقة، قد أدت إلى انزياحات، وتعديلات، وتغييرات، في توازن القوى، على الأصعدة الإقليمية، بهذه المنطقة أو تلك، ما أدى إلى فرض لوحات اقليمية مختلفة (وأحياناً أوضاع داخلية جديدة) كما حصل في المنطقة الممتدة بين كابول وغزة هي على تعاكس كبير مع لوحة2001 ـ 2005، وهو أمر ينطبق على قفقاس ما بعد آب 2008. إلاأن ذلك لم يتجاوز حدود الأطر الإقليمية لكي يصل إلى مستوى التوازن العالمي، الذي لا يمكن القول حتى الآن بأن اللوحة العالمية قد وصلت توازناتها إلى حالة مقلقلة أومهددة لوضعية (القطب الواحد للعالم) التي وصلت إليها واشنطن في خريف1989، ما دامت الدول الكبرى، إما هي تحت جناح واشنطن (بريطانياـ ألمانياـ فرنساـ اليابان)، أو هي لا تفكر بالصدام مع واشنطن مكتفية بمكاسب اقتصادية وتكنولوجية ولو مع بعض الضربات تحت الحزام أو التشويشات ضد الأميركان في قضايا اقليمية محددة (الصين)، أو لا تنوي التحول إلى قوة عالمية من جديد مكتفية بدور لا يتعدى ضمان عدم تحول "حدائقها الخلفية "إلى مناطق نفوذ للآخرين أو تهديد أو عداء لها (روسيا).

هنا، نجد سياسات مختلفة عند الرئيس الأميركي الجديد، باتجاه الابتعاد عن سياسات صدمت الحلفاء قبل الأعداء عند بوش الابن، مثل "تحالف الراغبين" و"الحرب الوقائية" التي سوَغ بهما حرب العراق 2003 ضد إرادة مجلس الأمن الدولي وشركائه الأطلسيين في باريس وبرلين، نحو التفات أميركي أكبر إلى "الناتو" كوسيلة لتحقيق المهمات (أفغانستان، مثلاً)، ونحو سياسات تشاركيةـ تعاونية مع الدول الرأسمالية الكبرى (مجموعة الثماني) لإيجاد سياسات مشتركة بين واشنطن والآخرين لمعالجة الأزمة الماليةـ الاقتصادية العالمية، وهو ما برز بوضوح في قمة العشرين بلندن في نيسان الماضي، وفي القمة الأخيرة للثماني بإيطاليا. كما يلمس، عند أوباما، تكتيك جديد، بخلاف سلفه، باتجاه الابتعاد عن سياسات تصادمية، مع روسيا والصين، عبر تقديم تنازلات إرضائية لهما، بعد أن برزت قوتهما بالترافق مع الضعف الأميركي المستجد، في مواضيع كانت مثيرة للصدام والاحتكاك معهما (الدرع الصاروخي ـ جيورجياـ أوكرانياـ تايوان........إلخ) مقابل تعاونهما في قضايا أخرى أصبحت أكثر إلحاحا عند واشنطن (إيران ـ أفغانستان ـ كوريا الشمالية)، في وقت، أيضاً، يلاحظ وجود سياسات ارضائية أميركية جديدة للمسلمين (برزت إشاراتها بوضوح في خطاب أوباما الأخير بالقاهرة) من أجل كسب مساعدتهم لحل مشكلات شائكة (أفغانستان ـ ايران ـ العراق) تقف الآن أمام الرئيس الأميركي الجديد.

كانت سياسات الرئيس أوباما، خلال الأشهر الستة الأولى من توليه منصبه، متركزة على معالجة فراغات القوة، التي نتجت عن الحفر والمستنقعات وحالات الفشل التي تركها له سلفه: هل سينجح؟.