هل كانت إيران تتحسب لاحتمال إقدام الكيان الصهيوني على شن حرب شاملة عليها؟ أظن أنه بدا مستبعداً بالنسبة إلى كثير من المراقبين.
فالمسافة التي تفصلها عن فلسطين المحتلة تزيد على 1500 كم، وتشغلها ثلاث دول أخرى، هي الأردن وسوريا والعراق، تشكل حاجزاً جغرافياً غير قابل للقفز فوقه، ما يجعل من احتمال اندلاع حرب مفتوحة بينهما، وليس مجرد تبادل الضربات الموجعة، أمراً تكتنفه صعوبات فنية ولوجستية يصعب التغلب عليها.
غير أن دخول الولايات المتحدة طرفاً مباشراً في الجولة الأخيرة من الصراع المسلح في المنطقة، وليس مجرد طرف داعم أو حليف للكيان، قلب معطيات الصراع رأساً على عقب، وجعل من الاحتمال المستبعد أمراً واقعاً تعيشه المنطقة، ستكون له بالضرورة تداعيات جيوسياسية هائلة، ليس على توازنات القوى فيها فحسب، وإنما أيضاً على مستقبل الصراع مع المشروع الصهيوني نفسه.
لم يكن الصراع الذي اندلع بين إيران والكيان، وتعمّد الآن بالدم والنار، صراعاً رئيسياً وبدا وكأنه فرع ثانوي من فروع صراعها الرئيسي مع الولايات المتحدة.
فحين أسقطت الثورة الإيرانية نظام الشاه، الركيزة الأساسية للسياستين الأميركية والصهيونية في المنطقة، خشي النظام الإيراني الجديد من أن تحاول الولايات المتحدة تكرار ما جرى عام 1953، حين نجحت أجهزتها الاستخبارية في تدبير انقلاب أجهض ثورة مصدق وأعاد الشاه المخلوع إلى السلطة عام 1953، ما يفسر تصاعد التوتر بين البلدين منذ البداية، وهو التوتر الذي جسده اجتياح الطلاب الثائرين مقر السفارة الأميركية في طهران واحتجاز موظفيها كرهائن إلى أن تقوم الولايات المتحدة بتسليم الشاه الهارب لمحاكمته في طهران.
بوسع أي متتبع لمسار الصراعات في المنطقة، أن يلاحظ أن إيران حاولت دائماً تجنب الدخول في صدام مباشر، سواء الولايات المتحدة أو مع الكيان الصهيوني، غير أن عوامل كثيرة ساعدت على تأجيج الصراع الذي راح يتصاعد معهما باستمرار. من هذه العوامل:
1- الدور الذي لعبته الولايات المتحدة، بمساعدة الكيان، لاستدراج العراق للدخول في حرب مع إيران استمرت لمدة 8 سنوات. إذ يرجح معظم الخبراء أن تكون إحدى النتائج الرئيسية لهذه الحرب قرار إيران بإعادة إحياء برنامج نووي كان نظام الشاه قد بدأ العمل فيه وأهملته الثورة، وبدأ التفكير في تصميم برنامج آخر لتصنيع الصواريخ والمسيرات.
2- الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة على جنوب لبنان، واعتداءاتها المتواصلة على الشعب الفلسطيني. فإيران لم تفكر في المساعدة على تأسيس حزب الله إلا بعد الاحتلال الإسرائيلي لبيروت عام 1982، ولم تبدأ في تقديم الدعم للفصائل الفلسطينية المسلحة إلا بعد الاعتداءات الإسرائيلية التي لم تنقطع على قطاع غزة.
3- أخطاء السياسة الأميركية في المنطقة، التي وصلت ذروتها باحتلال العراق عام 2003، وفتحت الباب واسعاً أمام تغلغل وتنوّع النفوذ الإيراني في المنطقة.
4- ثورات "الربيع العربي"، التي أحدثت خللاً في النسيج الاجتماعي للعديد من الدول العربية، ما فتح الباب واسعاً أمام تدخل قوى إقليمية ودولية في شؤونها الداخلية، ومنها سوريا واليمن اللذان حظيا باهتمام خاص من جانب إيران لأسباب جيواستراتيجية واضحة.
تجدر الإشارة هنا إلى أن قادة الكيان ظلوا يرددون لسنوات طويلة، خصوصاً بعد صعود نجم نتنياهو، مقولة مفادها أن إيران تشكل تهديداً وجودياً للكيان، بسبب برنامجيها النووي والصاروخي، من ناحية، وبسبب دعمها المتواصل لحزب الله والفصائل الفلسطينية المسلحة، من ناحية أخرى، إلا أنهم لم يجرؤوا على شن حرب مفتوحة عليها إلا حين أصبحت مشاركة الولايات المتحدة فيها مضمونة تماماً. لذا، يلاحظ أن الصراع المسلح بين إيران والكيان، في "مرحلة ما قبل الطوفان"، اتخذ أشكالاً أخرى، منها حروب بالوكالة ضد حزب الله في لبنان وضد حماس والجهاد في قطاع غزة وضد أهداف بعينها في سوريا، وحروب سيبرانية واستخبارية أدت إلى اغتيال عدد كبير من العلماء النوويين والقادة العسكريين، سواء داخل أو خارج إيران، ثم جاء "الطوفان" ليقلب الأوضاع في المنطقة رأسا على عقب.
تتردد أحياناً مقولة أن الكيان تمكّن وحده من تصفية "الأذرع الإيرانية" ولم يلجأ إلى الولايات المتحدة إلا حين احتاج إلى قطع "رأس الأفعى" ذاتها، غير أنها ليست دقيقة. فالواقع أن نتنياهو نجح في أن يتخذ من "طوفان الأقصى" ذريعة لجرّ إدارة بايدن للمشاركة معه عملياً في تصفية "الأذرع" أولاً، ثم لجرّ إدارة ترامب للدخول معه بعد ذلك في حرب مباشرة ومفتوحة لقطع "الرأس".
صحيح أن مشاركة كل منهما اختلفت نوعياً، غير أن كليهما أسهما معاً في إنجاز المهمة. فإدارة بايدن لم تكتف بإمداد الكيان بكل ما يحتاج إليه من مال وسلاح ومعلومات استخبارية، وإنما ذهبت إلى حد المشاركة معه في عمليات عسكرية مباشرة عدّتها "دفاعية"، أما إدارة ترامب فلم تكتف بمنح الكيان ضوءاً أخضر لشن حرب شاملة ومفتوحة على إيران، وإنما ذهبت إلى حد انفراد طائراتها الاستراتيجية بضرب وتدمير منشآت إيران النووية، في فوردو ونطنز وأصفهان، ما يعني أن الولايات المتحدة و"إسرائيل" خاضتا معاً، ولأول مرة في التاريخ، الجولة الحالية من الصراع المسلح مع المشروع الصهيوني، والتي لم تحسم بعد.
ربما يكون من السابق لأوانه تقييم ما أسفرت عنه حرب الأيام الاثني عشر بين إيران والكيان، خصوصاً وأن وقف إطلاق النار الذي تم التوصل إليه ما زال هشاً، وبالتالي لم يتضح بعد ما إذا كان قابلاً للاستقرار والدوام، خصوصاً أن كل طرف ما زال يصر على أنه وحده المنتصر.
غير أن إعادة التذكير بالأهداف التي سعى الكيان لتحقيقها، تسمح لنا باستخلاص مؤشرات عامة قد تساعد على تحديد مسار الأحداث في المستقبل المنظور. فقد بدا واضحاً من طبيعة الضربة الافتتاحية التي قام الكيان بتوجيهها إلى إيران في الساعات الأولى من الحرب، ثم من القرار الذي اتخذه ترامب بأن تتكفل الولايات المتحدة وحدها بمهمة تدمير المفاعلات النووية الإيرانية التي عجز الكيان عن تدميرها، والتصريحات التي أدلى بها عقب هذه الضربة، وطالب فيها إيران بالاعتراف بالهزيمة وتوقيع صك الاستسلام، أن الهدف الحقيقي والأسمى للحرب هو إسقاط النظام الإيراني نفسه، وليس الاكتفاء بتدمير برنامجيه النووي والصاروخي.
ولأنه لم يسقط، بل ويبدو اليوم في وضع سياسي أقوى مما كان عليه قبل الحرب، بدليل قيامه بتعليق التعاون مع الوكالة الدولية للطاقة النووية، يمكن القول إنه لم يخسر الحرب التي شنت عليه، حتى وإن لم يحقق فيها انتصاراً حاسماً. فإذا أضفنا إلى ما تقدم أن مصير المخزون الإيراني من اليورانيوم المخصب بنسبة 60% ما زال مجهولاً، والأرجح أنه سليم معافى ويوجد الآن إما في مكان أو ما زال مدفوناً تحت الأنقاض على أسوأ الفروض، وأنه كان بمقدور إيران مواصلة إطلاق الصواريخ والمسيرات حتى اللحظة الأخيرة من دخول قرار وقف إطلاق النار حيز التنفيذ، بل وراح سلوكها يدل على أن لديها أنواعاً أكثر تطوراً لم تستخدم بعد، لتبيّن لنا بوضوح أن النظام الإيراني ما زال يمتلك أوراقاً تفاوضية قوية، أن المعركة العسكرية التي انطلقت يوم 13/6 الماضي ربما تكون قد انتهت، لكن الحرب لم تحسم بعد.
تشير تحليلات، ظهرت مؤخراً في صحف إسرائيلية، إلى أن إيران تواجه حالياً موقفاً يشبه ما واجهته مصر، عقب قبولها قرار وقف إطلاق النار في ختام المعارك العسكرية التي شهدتها حرب أكتوبر 1973، وأن ترامب يتبنى نهجاً في إدارة الصراع في مرحلته الحالية، يكاد يكون نسخة طبق الأصل من النهج الذي انتهجه كيسنجر في ذلك الوقت، يقضي بعدم السماح للطرف الذي رجحت كفته في الميدان (أي الكيان) بإلحاق هزيمة ساحقة بالخصم (أي إيران)، وذلك بهدف إفساح المجال لظهور هامش مناورة يسمح بالوصول إلى حل سياسي يتيح لجميع الأطراف حفظ ماء الوجه.
غير أن هذا النوع من التحليلات، والتي تبدو في ظاهرها براقة وذات نكهة علمية أو أكاديمية، تخفي في طياتها رسائل سياسية موجهة أساساً إلى الداخل الإسرائيلي، وتستهدف الإيحاء بأن الكيان حقق انتصاراً كبيراً، وهي رسائل وإيحاءات لا تستند إلى أي حقائق على أرض الواقع. فحتى بافتراض أن أيران أصبحت الآن أكثر استعداداً للبحث عن تسوية سياسية ليس مع الولايات المتحدة فحسب وإنما مع الكيان أيضاً، إلا أنها تملك أوراقاً تفاوضية قوية تسمح لها بطلب إدراج موضوع إعلان الشرق الأوسط منطقة خالية من كل أسلحة الدمار الشامل على طاولة المفاوضات.
في مواجهة الإصرار الأميركي على حرمانها من حقها الطبيعي في برنامج نووي سلمي يتيح لها تخصيب اليورانيوم على إراضيها، كما تسمح لها بأن تطلب في الوقت نفسه أن تتضمن المفاوضات موضوع إقامة دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس الشرقية على كامل الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 67، وانسحاب الكيان من الأراضي التي ما زال يحتلها في لبنان وسوريا، في مواجهة الإصرار الأميركي على أن تقوم إيران بقطع علاقاتها بالكيانات من غير الدول.
سترفض الحكومة الإسرائيلية الحالية أي حديث يطالب بتحويل الشرق الأوسط إلى منطقة خالية من أسلحة الدمار الشامل، كما سترفض بشكل قاطع أي حديث عن إقامة دولة فلسطينية مستقلة على الأراضي المحتلة عام 67. لذا، يرجح أن تتجه المنطقة نحو هدنة مؤقتة، قد تطول أو تقصر، انتظاراً لجولة قادمة، من صراع مسلح ممتد لم يحسم بعد، ستكون إيران في قلبها هذه المرة. وهذا هو الجديد في ما يشهده صراع الشرق الأوسط من تحولات جيواستراتيجية عميقة في المرحلة الراهنة!