قائمة الموقع

سايكس بيكو… لم تنتهِ بعد: من تمزيق الأوطان إلى تفتيت الإنسان الفلسطيني

2025-05-25T11:51:00+03:00
مقال
فلسطين اليوم

بقلم: محمد الفارس

قبل أكثر من قرن، وتحديدًا في عام 1916، وقّع الاستعمار البريطاني والفرنسي اتفاقية سايكس بيكو لتقاسم إرث الدولة العثمانية. هذه الاتفاقية، التي عُرفت لاحقًا بأنها وضعت الأساس لترسيم الحدود السياسية في المشرق العربي، لم تكن مجرد إجراء إداري لتقسيم الجغرافيا، بل كانت، في جوهرها، محاولة منظمة لتمزيق فكرة الأمة، وتحويل المجتمعات العربية إلى كيانات قطرية مغلقة، معزولة نفسيًا وثقافيًا، ومفصولة عن عمقها الحضاري والجغرافي.

لقد نجح سايكس وبيكو، ليس فقط في رسم حدود من حديد ونار، بل في غرس حدود نفسية وعقلية ما زالت آثارها تتغلغل في وجدان الشعوب العربية حتى اليوم. وبالرغم من مرور أكثر من مئة عام، فإن مفاعيل هذه الاتفاقية لا تزال حاضرة، بل وتتخذ أشكالًا أكثر تعقيدًا وخطورة.

في هذا السياق، يظهر النموذج الفلسطيني باعتباره المثال الأكثر تجليًا لتلك الآثار الممتدة. لقد فشلت سايكس بيكو في تصفية القضية الفلسطينية، لكنها نجحت في زرع بذور تدميرها الذاتي، من خلال إدخال منطق التقسيم إلى داخل الصف الفلسطيني ذاته.

الإنسان الفلسطيني… من رمز إلى شتات داخلي

كان الفلسطيني، ولا سيما في العقود الأولى بعد النكبة، رمزًا جامعًا لكل عربي حر. شخصية تتجاوز الحدود والانتماءات، وتمثل وجدان الأمة في نضالها ضد الاستعمار والاحتلال. غير أن هذا الرمز، بفعل عوامل داخلية وخارجية، تفكك وتحول إلى خارطة من التنظيمات والأيديولوجيات والانتماءات المتباينة.

بات الفلسطيني ينتمي إلى حزب يساري أو فصيل إسلامي أو تيار قومي، أو ينخرط في منظمات نسوية، أو جمعيات مجتمع مدني، أو مؤسسات حقوقية تحصي الضحايا دون أن تجرؤ على تسمية الجلاد. كل جهة تدّعي امتلاك الحقيقة، وكل تنظيم يُعاد تشكيله وفق تمويل خارجي يعيد صياغة الأولويات والولاءات.

تمامًا كما أراد الاستعمار أن تبقى الأمة فقيرة رغم ثرواتها، هكذا انقسمت الفصائل الفلسطينية رغم امتلاكها لأعظم الطاقات وأصفى العقول وأصدق النوايا. لكنها جُرّت إلى منظومة المصالح، وأُغرقت في الحسابات الفئوية، فاختلط مشروع التحرير بالبُنى البيروقراطية، وتقدّمت الكراسي على القدس.

انقسام الإرادة بدلًا من توحيدها

لم يكن الطريق إلى التحرير غامضًا، بل كان واضحًا في ملامحه الأساسية: وحدة وطنية، رؤية استراتيجية، مقاومة متعددة الأشكال، وتحشيد للرأي العام الدولي. إلا أن فقدان البوصلة لم يكن بسبب تعقيد الطريق، بل بسبب صراع الطرق: كل فصيل أراد أن يسلك طريقه الخاص دون اعتبار لبوصلة جامعة. نشبت النزاعات على المعابر والمناصب، وتعرضت الكوادر الوطنية للتهميش، فقط لأنها “ليست ضمن المعسكر”.

هذا الواقع أجهض إمكانيات التغيير من الداخل، وأهدر الطاقات الشبابية، التي وجدت نفسها عالقة في مكاتب الفصائل أو مشاريع المنظمات الدولية، بدلًا من أن تكون في الصفوف الأمامية لمشروع وطني شامل.

العودة إلى فلسطين تبدأ من الداخل

إن تحرير فلسطين لا يتم بالبندقية وحدها، ولا عبر المفاوضات وحدها، بل باستعادة الوعي الوطني الجامع. لا بد من تحطيم النموذج المشوّه الذي حوّل النضال إلى إدارة، والفصائل إلى دول صغيرة، والصراع إلى موازنات بين كيانات متنافسة.

إن أول الطريق نحو التحرير يبدأ بإعادة الاعتبار لجوهر الصراع: نحن شعب تحت استعمار، ولسنا مجرد مجموعات منقسمة تحت إدارة ذاتية. العودة إلى فلسطين تمرّ عبر المصالحة الوطنية الحقيقية، وبناء بوصلة جامعة تتجاوز الانقسام الحزبي، وترتقي إلى مستوى تضحيات الشهداء وصمود الشعب.

فربما لم تنتهِ سايكس بيكو رسميًا، لكنها ستنتهي فعليًا، يوم نكفّ عن تمثيلها بأنفسنا.

اخبار ذات صلة