في ظل انطلاق المفاوضات الأميركية الايرانية حول مستقبل البرنامج النووي الإيراني، عاد الخلاف الجوهري بين الولايات المتحدة و"إسرائيل" إلى الواجهة، خاصة بعد حرب "السيوف الحديدية" في غزة، التي أجلت هذا الخلاف طوال فترة الحرب، وعمقت العلاقات بين واشنطن وتل أبيب خاصة مع عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، لكن سرعان ما تلقى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو صدمة لا تقل عن صدمة الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلنسكي، لكنه فضّل الصمت، على عكس زيلنسكي.
نتنياهو ذهب إلى البيت الأبيض بشكل عاجل وبطريقة دراماتيكية، محمَّلاً بقناعة أن هناك فرصة استراتيجية نادرة لضرب إيران، لا يجوز تفويتها، قد لا تتكرر، فبحسب تقديراته، إيران مكشوفة استراتيجيًا بعد تلقّي حزب الله ضربات موجعة في لبنان، وسقوط نظام بشار الأسد في سوريا، والمجتمع الدولي غارق في أزمات أخرى. لكنه في الوقت نفسه، لا يريد الذهاب إلى الحرب بمفرده.
في المقابل، يفضّل الرئيس الأميركي دونالد ترامب المفاوضات، ولو كانت تحت التهديد العسكري، ويبدو أقل استعدادًا للسير نحو الحرب، على عكس ما تحاول إسرائيل دفعه نحوه.
فالرؤية الأميركية رغم تفضيلها التفاوض تحت التهديد، لا يعني ذلك نيتها التورط في الحرب، إدارة ترامب حشدت ثلث القاذفات الاستراتيجية الأميركية في قاعدة "دييغو غارسيا" في المحيط الهندي، وأرسلت حاملتي طائرات إلى الشرق الأوسط، لكن ذلك لم يُترجم إلى التزام حقيقي بالحرب. بعض المحللين، مثل الباحث الأميركي مارك دوبويتز، يعتبر أن ترامب يريد "صفقة بأي ثمن"، وإن كانت أقل من شروط "إسرائيل"، لأن الحرب تتناقض مع شعاراته الانتخابية بالانسحاب من النزاعات الخارجية.
ويُجمع خبراء كثر، مثل إريك بروير من "مبادرة التهديد النووي"، على أن ضربة عسكرية لن تُنهي البرنامج النووي الإيراني بل ستؤخره، وقد تدفع طهران إلى تسريع التخصيب في منشآت تحت الأرض بعد طرد مفتشي الوكالة الدولية. بذلك، يرى ترامب أن التفاوض، حتى لو جرى من موقع القوة، يظل أقل كلفة وأكثر نفعاً.
في ظل الموقف الأميركي، ومع وجود رئيس لا يمكن توقع ردات فعله مثل ترامب، لا يجرؤ نتنياهو أن يهاجم ترامب كما فعل سابقاً مع الرئيس باراك أوباما عام 2015، لذا اعتمد نتنياهو استراتيجية الضغط العلني والتسريبات، كما كشفت عنه صحيفة "نيويورك تايمز"، من أن "إسرائيل" كانت تستعد لضربة عسكرية في مايو المقبل ضد إيران، لكن البيت الأبيض أوقفها. هنا، نتنياهو، الذي لم ينفِ التقرير، يفضّل التهديد بالحرب على خوضها فعلاً، مستخدِمًا ما يشبه "الدبلوماسية الدرامية" لتحريك الموقف الأميركي، الموقف الذي وصفه رئيس الوزراء السابق نفتالي بينيت بوضوح: "بينما كانت عقيدة بيغن تقوم على الضرب المسبق كما في العراق وسوريا، فإن نتنياهو يكتفي بالتهديد ثم يقول إنهم منعوه. إنها عقيدة وهمية يجب أن لا تنفجر في وجوهنا".
هذا التباين في الرؤية بين ترامب ونتنياهو يتجاوز الخلاف على التوقيت أو الأسلوب، ليكشف عن فجوة استراتيجية حقيقية. نتنياهو يعتبر أن الضربة العسكرية باتت ضرورية، بل حتمية. أما ترامب، فهو يتعامل مع الملف النووي لا كتهديد وجودي آنيّ، بل كجزء من معركة أوسع للنفوذ في الشرق الأوسط، تشمل:
- التنافس مع محور روسيا-الصين-إيران.
- صراع "إسرائيل" لبقائها كقوة مهيمنة إقليمياً.
- رغبة واشنطن في تحجيم التكاليف الاستراتيجية لـ"الحروب اللانهائية".
وهنا تحديدًا يأتي الموقف الخليجي ليضيف طبقة جديدة من التعقيد. السعودية، التي دخلت في مسار دبلوماسي مع طهران منذ أكثر من سنتين، سارعت في إرسال وزير الدفاع السعودي الأمير خالد بن سلمان إلى طهران، لترسل رسالة للأميركيين والإسرائيليين على حد سواء، أنها لا تريد مواجهة عسكرية كبرى، لكنها أيضًا لا تقبل بعودة الاتفاق النووي القديم من دون توسيع بنوده.
هي تؤيد الضغط السياسي والاقتصادي، لكنها تخشى أن أي ضربة قد تُشعل المنطقة، وتجهض مشاريع التحول الكبرى مثل رؤية 2030. ورغم التنسيق غير المعلن مع "إسرائيل"، إلا أن الخليج لا يريد أن يكون شريكًا في التصعيد، بل شريكًا في الحل.
ترامب يدرك حساسية الموقف الخليجي، وهو ما يجعل قراره في ملف إيران محكومًا باعتبارات متعددة، لا فقط بالعلاقة مع "تل أبيب".
على الجانب الإيراني، تفهم طهران أن الاندفاع نحو المفاوضات الآن يخدمها بتبديد الزخم الإسرائيلي، خاصة أن أي اتفاق، حتى لو لم يكن مثاليًا، سيمنحها وقتًا ومساحة لمواصلة تطوير بنيتها النووية والعودة إلى المجتمع الدولي.
سيناريوهات مفتوحة: من التفاهم إلى الانفجار
لكن إذا كانت الصورة الآن محكومة بتوازن دقيق بين الضغط والتردد، فإن الأشهر المقبلة قد تشهد انزياحًا حاسمًا باتجاه أحد السيناريوهات التالية:
أولًا، سيناريو الصفقة الأميركية-الإيرانية: إذا قبلت طهران بشروط مخففة ووافقت واشنطن على "اتفاق محدود" مقابل تجميد التخصيب من دون تفكيك البنية النووية، فقد يعلن ترامب عن "نصر تفاوضي" يُرضي ناخبيه، لكن "إسرائيل" ستعتبر ذلك كارثة استراتيجية، ما قد يدفعها إلى التحرك منفردة.
ثانيًا، الضربة الإسرائيلية المنفردة: إذا شعرت تل أبيب بأن الوقت ينفد، وبأن إيران باتت على عتبة القنبلة من دون رادع دولي، فقد تُقدم على ضربة محدودة تستهدف منشآت نووية حساسة، مع أو من دون تنسيق مع واشنطن. هذا السيناريو مرجح فقط إذا تراجعت مؤشرات التفاهم الأميركي-الإيراني، ولكن في حال نجاح أو استمرار التفاوض، فلا يمكن لـ"إسرائيل" الذهاب إلى الضربة منفردة بالمطلق.
ثالثًا، الاستمرار في "إدارة الأزمة": وهو السيناريو الأكثر ترجيحًا حاليًا. استمرار التهديدات المتبادلة، والضربات الخفية، والتفاوض غير المباشر، ضمن معادلة "لا حرب ولا صفقة نهائية"، مع تحريك أوراق الضغط من كل طرف، وانتظار تغير الظروف السياسية أو تبدل موازين القوى في الإقليم.
في كل سيناريو، يبقى السؤال المركزي كما هو: هل تملك "إسرائيل" فعلاً القدرة – لا الإرادة فقط – على تغيير قواعد اللعبة النووية وحدها؟ أم أن مصير هذه المواجهة سيُحسم في أروقة البيت الأبيض، لا في سماء طهران أو "تل أبيب"؟
الإجابة ستظل رهينة التوازن بين حسابات ترامب الدولية، ورهانات نتنياهو الوجودية، وصبر طهران على طاولة المفاوضات.