قائمة الموقع

السّلاح مقابل الأرواح..هل تنجح معادلة الاحتلال في قطاع غزة!

2025-04-21T11:21:00+03:00
أحمد عبد الرحمن
فلسطين اليوم

لم يسبق أن مرّ الشعب الفلسطيني بظروف مشابهة لما يمر به اليوم، إذ إنه يتعرّض منذ تسعة عشر شهراً لحملة من التطهير العرقي،  والإبادة الجماعية،  فاقت في بشاعتها ما جرى طيلة سنوات الاحتلال السابقة، حتى تلك التي وقعت في العام 1948، والتي شهدت آنذاك عمليات قتل وتهجير موصوفة، إلا أن ما يجري خلال الشهور الماضية قد فاقها بمراحل، سواء من ناحية عدد الشهداء والجرحى الذي يقترب من المائتي ألف شهيد وجريح، أو في ما يتعلّق بحجم الخراب والدمار الهائل التي تعرّض له قطاع غزة ولا يزال، وهو الأمر الذي ينسحب، وإن بنسبة أقل، على مخيمَي جنين وطولكرم شمال الضفة الغربية.

منذ بداية الحرب الإسرائيلية على القطاع الصغير والمحاصر في تشرين الأول/أكتوبر من العام 2023، تعرّضت المقاومة لعمليات ابتزاز متواصلة،  تمت فيها مقايضة العديد من المتطلبات الحياتية التي تحتاجها كل شعوب العالم، مقابل إعلان الاستسلام الكامل أمام العدوان المجرم، والقبول بكل الشروط المجحفة والظالمة التي كان يرفعها الاحتلال في وجه الشعب الفلسطيني ومقاومته الباسلة والشريفة، إذ سبق أن اشترط تسليم الأسرى الصهاينة لدى المقاومة أو تقديم معلومات تفصيلية عن أوضاعهم مقابل حفنة من المساعدات الغذائية والصحية المغمّسة بالدم، كما سبق له أن اشترط التخفيف من عمليات التهجير الممنهج الذي يمارسه بحق المدنيين العزّل،  مقابل وقف إطلاق الصواريخ على مستعمرات الغلاف، أو باتجاه المدن الصهيونية الكبرى مثل "أسدود" وبئر السبع و"تل أبيب".

في أوقات أخرى، تجاوز الاحتلال مقايضاته وابتزازاته بشكل لم يكن يتوقعه أحد، متخطّياً عتبة استهداف المدنيين العزل، ومنعهم من حقهم الذي كفلته لهم كل القوانين والمواثيق الدولية، إذ قام بتهديد المؤسسات الصحفية العاملة في قطاع غزة، لا سيّما تلك التي تحظى بنسب مشاهدة عالية، والتي فضحت تغطياتها النوعية المئات من الجرائم الصهيونية، والتي تجاوزت في بشاعتها كل ما سبقها من مذابح ومجازر على مدار التاريخ الحديث، حيث قايض أرواح العديد من الطواقم الصحفية مقابل إخفاء الحقيقة، وعدم نقلها عبر الشاشات ليراها كل العالم، مُتبعاً ذلك باستهدافات مباشرة طالت عشرات الصحافيين، وعوائلهم، ومنازلهم، محاولاً فرض شروطه بقوة الحديد والنار،  محوّلاً أجسادهم إلى كتلة من اللهب، كما جرى مع الشهيد الصحفي أحمد منصور قبل أسبوعين.

ابتزاز المؤسسات الصحافية انسحب أيضاً على المؤسسات الإنسانية الدولية،  والتي تقدّم دعماً رئيسياً للشعب الفلسطيني على صعيد الصحة والغذاء والتعليم،  والتي وإن كان معظم موظفيها يحملون جنسيات دول تدعم العدوان،  مثل بريطانيا والولايات المتحدة الأميركية وهولندا وغيرها،  إلا أن هذا الأمر لم يمنحهم الحماية من القتل والقصف،  إذ سقط العشرات منهم بين شهيد وجريح،  في استهدافات مباشرة من طائرات الاحتلال،  وأمام مسمع ومرأى من العالم الظالم والعاجز،  الذي وقف مكتوف اليدين إلا من بعض التنديد والاستنكار كما جرت العادة.

آخر مقايضات الاحتلال كان اشتراطه تسليم المقاومة سلاحها بشكل كامل،  مقابل وقف جزئي ومؤقّت للقتال،  وهو الشرط الذي، وإن كان مرفوعاً منذ بداية العدوان، إلا أنه بات في الأيام الأخيرة مقروناً بمتغيّرات أخرى، من ضمنها تشكيل إدارة بديلة لحركة حماس في قطاع غزة،  إلى جانب "تسوية" واسعة تتضمّن وجود قوات عربية أو دولية في داخل القطاع، إضافة إلى سيطرة أمنية غير مباشرة لـ"جيش" الاحتلال على مجريات الأوضاع فيه، إلى جانب فرض إجراءات جديدة تتعلّق بإنشاء منطقة عازلة على طول الحدود مع الأراضي المحتلة عام 48، والتي في حال تطبيقها ستقلّص مساحة القطاع إلى أقل من النصف.

متغيّر آخر متعلّق بهذا الشرط هو التحوّل الملحوظ في موقف بعض الدول العربية منه، والتي لعب بعضها دور الوسيط طوال المرحلة الماضية، إذ شهدت اللقاءات التي جرت مؤخراً بين وفد من المقاومة مع جهاز مخابرات عربي طلباً مباشراً يتعلّق بهذا الأمر، وهي المرّة الأولى التي تطلب فيها دولة عربية من المقاومة تسليم سلاحها، وتُضمّن ذلك في مقترح رسمي تقدّمت به للوصول إلى تسوية تُنهي الحرب، وتُوقف العدوان.

هذا الأمر وإن بدا مفاجئاً بالنسبة إلى البعض، فإنه كان مُتوقعاً ومُنتظراً، إذ إن هذه الدولة وغيرها من الذين كانوا يضطلعون بدور الوسيط فيما مضى كانوا عبارة عن ناقل رسائل من الاحتلال ليس أكثر، ولم يكونوا في يوم من الأيام وسطاء نزيهين، ولم يكونوا يملكون أي أوراق ضغط عليه، والتنصّل الإسرائيلي من اتفاق التهدئة الموقّع في التاسع عشر من كانون الثاني/يناير الماضي خير دليل على ذلك.

على كل حال، وبما أن هذا الشرط الإسرائيلي تم تبنّيه من دول وسيطة عدّة،  بعضها بات معروفاً،  فيما الأخرى تختبئ خلف مواقف وتصريحات علنية فضفاضة، وتطالب به الكثير من دول العالم وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية، والتي تحاول الاستفادة مما يجري حالياً من تعثّر لجهود الوصول إلى اتفاق جديد، وتسعى لتحقيق إنجاز جانبي يتعلّق بتأمين الإفراج عن عدد من الأسرى من أصحاب الجنسية المزدوجة،  وهذا ينسجم تماماً مع شخصية الرئيس ترامب، الذي يحاول على الدوام الظهور في شخصية البطل، فإن أمام المقاومة تحدّياً مهماً وخطيراً، وهو يتعلّق في الأساس بمشروعية المقاومة، وحقّها في ممارسة دورها في مواجهة الاحتلال، وليس بأنواع وكميّات السلاح الموجود لديها، ولا بقدرة هذا السلاح على إحداث الفارق في التصدّي للحرب المجنونة التي تشنّها "دولة" الاحتلال على المقاومة وشعبها.

يقول البعض إما جهلاً أو تماهياً مع مطالب الاحتلال،  إن تسليم المقاومة سلاحها أهون الشرّين، إذ إن هذا السلاح الذي فشل كما يقولون في حماية الشعب الفلسطيني، ولم ينجح في وقف عمليات القتل والإبادة التي تُمارس في حقّه، ولم يمنع "جيش" الاحتلال من التوغّل في كل قرى ومخيمات قطاع غزة، ولم يستطع لا سيّما في الأشهر الأخيرة أن يفرض على "الدولة" العبرية معادلة القصف بالقصف، والخراب بالخراب، بل ويتم استخدامه من قبل نتنياهو وعصابته لتبرير استمرار الحرب، ومواصلة المحرقة، فإنه من الأفضل التخلّي عنه، وتسليمه حسب بعض الدعوات إلى قوات عربية، أو دولية، بما يضمن نزعاً للذرائع من يد "دولة" الاحتلال، وتجنيب الشعب الفلسطيني الذي عانى الأمرّين مزيداً من عمليات القتل والتدمير، والتي قد تتطوّر لاحقاً في حال استمرت الحرب إلى تهجير معظم سكّان القطاع من أرضهم، ودفعهم إلى مغادرتها قسراً بعد أن يتم تحويلها إلى مكان غير صالح للسكن.

وفي حقيقة الأمر، فإن معظم ما يتم الاستدلال به في هذا المجال صحيح، فسلاح المقاومة لم يستطع وقف عمليات القتل والذبح والتنكيل، ولا منع الاحتلال من السيطرة على مساحات واسعة من أراضي القطاع، ولا فرض معادلات تُجبر الاحتلال على التخلّي عن مشاريعه الهادفة إلى فرض سياسة التهجير، وعودة الاستيطان من جديد، كل ما سبق وغيره صحيح ولكن! متى كانت مقاومات الشعوب تملك الإمكانيات نفسها التي بحوزة المحتلين؟ ومتى كانت مقاومات الشعوب تملك الخيارات نفسها التي يملكها المحتلون؟ ومتى كانت تضحيات الشعوب تستوي كمّاً ونوعاً مع خسائر المحتلّين؟ وفي أي ثورة عبر التاريخ حصلت الشعوب على حقوقها المشروعة من دون أن تقدّم الغالي والنفيس في سبيل ذلك، وفي أي الثورات قدّم الاحتلال تنازلات مجانية للطرف الآخر من دون أن يُضطّر إلى ذلك.

التجارب التاريخية القديمة والحديثة تقول إن كل الثورات التي نجحت في تحقيق أهدافها بذلت جهوداً مضنية ومتواصلة، وقدّمت في سبيل ذلك تضحيات هائلة، أدّت في بعضها إلى سقوط مئات آلاف الشهداء والمصابين، وإلى دمار غير مسبوق في البنى التحتية، والمؤسسات الخدمية، كما هي الحال تماماً في قطاع غزة، أما الثورات التي سقطت في منتصف الطريق،  مؤثرة السلامة والنجاة فقد دفعت أثماناً مُضاعفة، وأن رفع راية الاستسلام لا يعني على الإطلاق تأمين الحياة الكريمة للشعوب، ولا يمكن أن تحوّل الاحتلال من وحش قاتل إلى حمل وديع يهتم بشؤون الرعيّة، ويحرص على راحتها وأمنها.

في قطاع غزة لا يتعلّق الأمر بتسليم عدة آلاف من البنادق، أو ما تبقّى من صواريخ محليّة الصنع، إذ إن الاحتلال يعرف أكثر من غيره أن هذه الأدوات لا تصنع معادلات، ولا تغيّر نتيجة المعركة، بل المطلوب هو فرض الاستسلام الكامل على عموم الشعب الفلسطيني، ودفعه إلى التسليم بمشيئة المحتل، وأنه مطلوب من الشعب الاعتقاد بأنه لا معنى ولا قيمة لكل ما قام به من نضال وكفاح خلال الـ76 عاماً الماضية من عمر الاحتلال، وأن كل ما قدّمه من تضحيات ذهبت أدراج الرياح، وهي لم تكن سوى مغامرة خاسرة أقدم عليها بعض القادة نتيجة حسابات خاطئة، وأجندات كانت في معظمها خدمة لجهات أجنبية تبحث عن مصالحها فقط.

يريد الاحتلال قبل نزع السلاح أن ينزع من الشعب روحه، وعقيدته، وإيمانه بحقه في الحياة كباقي شعوب العالم، وأن يدفعه للقبول بحياة العبيد التي تفرض عليه تقديم فروض الطاعة لأسياده المحتلين، وأن يكتفي بما يُقدّم له من مساعدات مغمّسة بالذل والعار، وملطّخة بدماء أطفاله ونسائه الذين سقطوا على مدار عشرات السنين من القتال والكفاح والفداء.

في فلسطين، وفي قطاع غزة على وجه الخصوص، كما هي الحال في لبنان الصامد والحر، وفي اليمن العنيد والعزيز، لا يُنظر إلى السلاح المتبقّي بين أيدي المقاتلين الشرفاء بأنه سيحقّق المعجزات، أو أنه سيتمكّن من هزيمة قوى الشر والعدوان في ميدان المعركة العسكرية، بل يُنظر له بأنه عنوان للكرامة والشرف، والعزة والإباء، وأن هذا السلاح الذي امتشقه أجدادنا وآباؤنا قبل عشرات السنين لن يكون في يوم من الأيام قابلاً للمساومة أو المقايضة، إذ إن التخلّي عنه تحت أي عنوانٍ كان هو تخلّ عن الشرف، وعن الكرامة، وعن مستقبل الأجيال القادمة التي ستواصل هذا المشوار مهما بلغت التضحيات.

سلاح الشعب الفلسطيني الذي بدأ بالحجر والسكين، وصولاً إلى البندقية والصاروخ لن يكون في يوم من الأيام سلعة تُباع أو تُشترى، فهو ليس ملكاً لأحد من الفصائل والأحزاب، ولا لهذا القائد أو ذاك، وإنما هو ملك للشعب الذي ضحّى وقدّم، وبذل كل ما في وسعه لتستمر مسيرة المقاومة، وصولاً إلى لحظة النصر والتحرير.   

اخبار ذات صلة