في شمال قطاع غزة، وبعد مرور أكثر من 469 يومًا من الإبادة الجماعية والتطهير العرقي، لا يزال المواطنين يقفون بصبر وثبات في وجه آلة القتل "الإسرائيلية"، وسط ركام المنازل والشوارع التي خنقتها صواريخ الحرب، يُصر الآلاف على التمسك بما تبقى من ذاكرتهم، متشبثين بمنازلهم كما لو أنها آخر قلعة في قطاع غزة.
ورغم الدمار الذي نهش ذكريات الغزيين بتدمير منازلهم، والحصار الذي يخنق الأنفاس، فلا طعام يكفي ولا ماء يروي، لكن العزيمة لم تعرف الانكسار بعد، فغزة بصمتها وفي صراخها، لا تزال تكتب رواية من رماد وركام البيوت، رواية لم تنتهي بعد كتابة سطور نهايتها.
وتشير الإحصاءات الرسمية، أن عمليات الإبادة والتطهير العرقي التي يرتكبها جيش الاحتلال في شمال القطاع منذ أكثر من 100 يوم، أسفرت عن استشهاد وفقدان 5 آلاف مواطن وإصابة 9,500، و2600 معتقل.
"وكالة فلسطين اليوم الإخبارية" رصدت قصة الصحفي أحمد أبو قمر، يقول: "عندما دُفع الآلاف للنزوح إثر تصاعد القصف العنيف، كان النزوح حينها يبدو الخيار الوحيد للنجاة، لكنني اخترت البقاء في قلب الجحيم، كانت لدي وجهة نظر مختلفة. "البقاء كان قراري، رغم كل الأسباب المقنعة للنزوح، شعرت أنني جزء لا يتجزأ من هذا المكان.
رباب استشهدت
في نوفمبر 2023، واجه أبو قمر أولى فصول المعاناة، عندما قُتلت شقيقته رباب وزوجها وطفلهما في قصف "إسرائيلي" دمر منزلهم، يسرد بألم: "الجثامين ظلت تحت الأنقاض أربعة أيام، ولم يكن الإنترنت أو الاتصالات متاحة لطلب المساعدة" ومع ذلك، رفضت النزوح.
وفي ذات الشهر، انقطع الإنترنت عن شمال غزة بالكامل، مما تسبب في خسارته لعمله مع إحدى كبرى المؤسسات الإعلامية العربية، معبّرًا: "كان عملي بوابتي نحو المستقبل، لكنه كان تضحية مستحقة لأظل هنا."
حتى المنزل دُمر
لم يكن شهر ديسمبر مختلفًا عن باقي فصول المعاناة في حرب الإبادة، فقدتُ شقتي بعد أن سُوّيت العمارة التي كنت أعيش فيها بالأرض جراء القصف الإسرائيلي، ولم يبقَ هناك سبب مقنع للبقاء، خاصة مع استمرار نزوح الناس بشكل جماعي، يصف المشهد: "باتت الآليات قريبة جدا من منزل عائلتي الذي بقينا داخله، كنّا ندرك أن من يتعرض لإصابة سيبقى ينزف حتى الموت، ربما كان سبب مقنع للنزوح ولكني لم أفعل".
يتابع الصحفي أبو قمر لمرسلنا: "رغم أن كل شيء حولي كان ينذر بالرحيل، بقيت، ربما كان في هذا القرار نوع من التحدي أو محاولة للتشبث بما تبقى من الكرامة والهوية، أو ربما كان للبقاء معنى لا يستطيع النزوح أن يقدمه".
اختبار الجوع
بعدها، سرعان ما تدهورت الأوضاع في الحرب المجنونة ليبرز شبح الجوع، الذي بدا للوهلة أنه لا يمكن هزيمته، بمرارة يقول: "لن أتحدث كثيرا عن المجاعة، فلا حديث يوصف ما عشناه، ولكن يكفي أن أقول إنني نمت وأطفالي أياما ونحن جوعى".
وحسب تقارير المنظمات الحقوقية، تعمد جيش الاحتلال على مدى الأشهر الماضية، استخدام جميع الوسائل لإجبار السكان على النزوح القسري، إلا أن آلافاً من الفلسطينيين رفضوا الانصياع وواجهوا خطر الموت والجوع في منازلهم ومراكز الإيواء المستمر حتى الآن.
ويقتبس: "تحدثوا كثيرا أنه لا ينام أحدا جائع في بلادنا، ولكن نحن في شمال غزة بِتنا لأيام جوعى، في وقت كان كيس الطحين يُباع بخمسة شواكل في جنوب غزة، نزح جزء من جيراننا بسبب الجوع ولأول مرة أقتنع في خطوتهم، رغم كل ذلك لم أنزح".
أرض قاحلة
إلى أن جاء شهر مايو العام الماضي، اجتاح جيش الاحتلال مخيم جباليا، مسويًا إياه بالأرض تقريبًا، ما أجبر السكان للنزوح، لكنهم عادوا بعد أقل من شهر إلى مكان عجزوا عن معرفة تفاصيله "ليجدوا أنفسهم أمام مهمة شبه مستحيلة تتمثل بإعادة بناء حياتهم من الصفر".
يردف أبو قمر: "بعد أسبوع فقط، وجدت أن الحياة عادت للمخيم من إزالة الركام ووضع الخيام وتمديد المياه وفتح السوق وبناء المسجد، كنت متعجبًا من حالة الصمود بين الناس وأنا أعيش بينهم، فقد عادت الحياة تدريجيا للمخيم حتى شهر أكتوبر 2024 حينما هُجّرنا للمرة الثانية لأكثر من مئة يوم، وها نحن نعود على أرض محروقة لا نرى منها إلا الدمار.
إعلان الهدنة
ومع إعلان نجاح مفاوضات وقف إطلاق النار التي أعلنت عنها الخارجية القطرية، شرعت جموع المواطنين النازحة في غرب مدينة غزة بتفكيك خيامها وتنتظر دخول وقت إطلاق النار حيّز التنفيذ، يرددون: "لن ننام ليلة أخرى خارج مخيم جباليا".
يختم الصحفي أبو قمر: "أمشي بين الناس حاليا، وأنا أدرك أن لا شيء يعوّض السكان الذين صمدوا، أفخر كثيرا بمن حولي وأعذر أهلي وأحبابي الذين نزحوا لجنوب غزة، فلكل منهم سببه ولا شيء ينقص ممن اعتقد أن نزوحهم سيجلب لهم الأمان، وها ننحن ننتظرهم بشوق كبير".
وأطلق جيش الاحتلال "الإسرائيلي" في الـ5 من أكتوبر 2024، عملية عسكرية مكثفة في شمال قطاع غزة، وفرض حصارًا مشددًا بمنع دخول الطعام والماء والدواء، بهدف تحويله إلى منطقة عازلة وتهجير سكانه تحت وطأة قصف دموي وحصار مشدد.
وحسب أرقام الدفاع المدني فإن من بين إجمالي سكان محافظة شمال غزة البالغ عددهم 200 ألف، هُجّر بالفعل قسرا نحو 180 ألفاً، بينما لم يتبقَّ سوى 20 ألفاً.