خبر صهيونية دفتر الشيكات(*)..عبد الوهاب المسيري

الساعة 01:09 م|07 يوليو 2009

ـ الجزيرة نت 6/7/2009

من العناصر التي تقوِّض الأيديولوجية الصهيونية إدراك المستوطنين أن يهود العالم، الذين كان يُشار إليهم بأنهم شعب بلا أرض، ثبت أنهم ليسوا شعباً، وإنما جماعات متفرقة لكل خطابها الحضاري الذي تستمده من المجتمع الذي تعيش بين ظهرانيه.

كما أن غالبيتهم الساحقة متمسكة بوطنها الذي تعيش فيه، وأنهم ليسوا من الصهاينة الاستيطانيين، بل ينتمون إلى الصهاينة التوطينيين، الذين يرسلون غيرهم للاستيطان في فلسطين بينما ينعمون هم بالحياة المريحة الآمنة في الولايات المتحدة أو أوروبا.

وهؤلاء الصهاينة التوطينيون على استعداد كامل لأن يطلقوا الشعارات الصهيونية الملتهبة عن الوطن القومي وأن يتظاهروا من أجله وأن يدفعوا التبرعات له، ولكنهم لا يظهرون أي استعداد للاستيطان فيه.

وقد وصف المفكر الصهيوني العمالي بوروخوف هذا النوع من الصهيونية بأنه "صهيونية الصالونات" “salon Zionism” أو "صهيونية المقاعد الوثيرة" “armchair Zionism”، كما أشار إليها آخر بأنها "صهيونية بدون استيطان".

وهذه المفارقة لا يمكن أن يتعامل معها الإسرائيليون إلا من خلال النكتة. فيقول الإسرائيليون في إشارة واضحة ليهود الولايات المتحدة، إن أهم "دولة يهودية" في العالم هي "دولة نيويورك اليهودية" The Jewish State of New York. وفي هذا لعب بالألفاظ، فكلمة State الإنجليزية تعني "دولة" و"ولاية" في الوقت نفسه. كما يشير الإسرائيليون إلى يهود أميركا باعتبارهم Jewish Wasps، وكلمة "واسب"، والتي تعني "دبور"، هي اختصار للعبارة الإنجليزية White Anglo-Saxon Protestant أي "بروتستانتي أبيض من أصل أنجلوساكسوني"، فكأن يهود أميركا أميركيون لحماً ودماً وقلباً وقالباً ولكنهم يتمسحون في الهوية اليهودية.

ويرى بعض الإسرائيليين أن يهود الولايات المتحدة والصهاينة التوطينيين ينظرون إلى إسرائيل باعتبارها "ديزني لاند" يهودية، أي مدينة ملاه يهودية يقصدونها بهدف الترويح عن النفس. وقال آخر إنها بالنسبة لهم بمنزلة "متحف قومي يهودي" يدخلونه ويقضون فيه بضع سويعات ويخرجون مليئين بالحماس الوطني، لأنهم يسيرون في شوارع تمتلئ باللافتات المكتوبة بالعبرية ويسمعون أغاني بالعبرية ويشاهدون بعض الأماكن التي قرؤوا عنها في العهد القديم وينفقون دولارتهم بسخاء ثم يعودون بعدها إلى بيوتهم وأوطانهم الحقيقية.

وقد استخدم أحد المثقفين اصطلاح "فندق صهيون" ليصف علاقة يهود العالم بإسرائيل، فهم لا يحضرون إلى إسرائيل إلا حينما يكون الجو حسناً في الربيع والصيف، ويتركونها في الخريف والشتاء لعمال الفندق (من الصهاينة الاستيطانيين) ليغلقوا الأبواب والنوافذ ويقوموا بأعمال الصيانة والتحسينات إلى أن يعود السياح من الصهاينة التوطينيين أحباء فندق صهيون (وعلى كل يعود اصطلاح "صهيونية" لفعل "يصون"، حسب أحد التفسيرات، ولذا إذا قام الصهاينة بأعمال الصيانة فإن هذا أمر منطقي).

ويمكن هنا أن نميّز بين "الصهيونية الاستيطانية" و"الصهيونية التوطينية"، فالأولى هي صهيونية اليهودي الذي يحمل متاعه ويستوطن في فلسطين المحتلة. أما الثانية فهي صهيونية اليهودي الذي يطلق الشعارات الصهيونية ويجمع الأموال للحركة الصهيونية ولكنه لا يهاجر قط، أي أنها بعبارة أخرى صهيونية اليهودي الذي يجمع الأموال من يهودي ثان لإرسال يهودي ثالث لأرض الميعاد!.

وقد شبّه أحد الكتّاب هذا النوع من الصهيونية بأنه مثل فرقة إنشاد عسكرية تقف على المسرح وتنشد "تقدموا، تقدموا" وتحرك أقدامها فيما يشبه الخطوة العسكرية، ولكنها لا تتحرك قيد أنملة. ولعل من أطرف الوقائع الكوميدية الحقيقية التي تعبر عن الصهيونية التوطينية ما رُويَ عن البارون دموند ديروتشيلد (الذي أخذ وعد بلفور شكل خطاب أرسل له) حين سُئل، "ما هي الوظيفة التي تود أن تشغلها بعد إعلان الدولة اليهودية؟" فرد دون تردد: "سفير الدولة اليهودية في باريس بطبيعة الحال"، أي أنه لا يود التزحزح من مكانه الغربي المريح.

أما دفع المعونات للوطن القومي فهو هدف كثير من النكت التفكيكية. وقد أشار أحد المعلقين إلى ما سماه "يهودية دفتر الشيكات" (التي تُسمى أيضاً "الصهيونية النقدية" أو "الصهيونية الاقتصادية")، وهي تشير إلى اليهودي الذي يعتقد أن بوسعه تحقيق هويته اليهودية بأن يدفع التبرعات للمؤسسات اليهودية والصهيونية. وهو يدفع هذا الشيك ليريح ضميره وحتى يمكنه بعد ذلك أن يتمتع بحياته الأميركية الاستهلاكية غير اليهودية دون أي حرج وبشراهة بالغة.

وهذا كله يعني أن العلاقة بين يهود العالم والدولة الصهيونية ستكون علاقة "اقتصادية" مجردة، فلن يُطلَب من يهود العالم الهجرة وسيُكتفي بمطالبتهم بالاستثمار في إسرائيل أو دعمها مالياً، وبدلاً من الحديث عن مركزية إسرائيل في حياة الدياسبورا ككل يمكن الحديث عن «مركزية إسرائيل في الحياة الاقتصادية للدياسبورا»، وهو ما يعني المزيد من انحسار الرؤية الصهيونية وحصرها في الوجود الاقتصادي لأعضاء الجماعات اليهودية.

وثمة مصطلح أكثر طرافة مترادف تقريباً مع "الصهيونية النقدية" و"صهيونية دفتر الشيكات" وإن كان يُشكِّل انحساراً شبه كامل للصهيونية، وهو مصطلح "صهيونية النفقة". فالصورة الكامنة هنا هي صورة اليهودي الذي تطارده مطلقته (الدولة الصهيونية) وتطالبه بالنفقة، فيضطر إلى أن يدفع لها بل يجزل لها العطاء حتى تكف عن ملاحقته وفضحه أمام نفسه وأمام الجيران، أي أن المصطلح يجعل العلاقة بين يهود العالم والدولة الصهيونية علاقة برانية نفعية تماماً، تسقط كل الأبعاد الروحية والعاطفية، فاليهودي يدفع التبرعات للدولة الصهيونية لا حباً فيها وإنما اتقاءً لشرها ولشراء سكوتها عنه.

وقد استخدم كاتب إسرائيلي آخر صورة مجازية مغايرة تماماً ولكنها تعبّر عن نفس المعنى، أي الاتصال المؤقت وعدم الالتزام، حينما قال: إن يهود الخارج يغدقون الأموال على إسرائيل مثلما يغدق الرجل الأموال على عشيقته التي تعطيه بضع سويعات من السعادة الملونة (التكنيكلور)، ولكنه يعود في نهاية الأمر لزوجته الأميركية الحقيقية الدائمة.

ولا يخلو الأمر من المشاكل حتى حينما يأتي اليهود من الخارج للاستيطان. فهناك، على سبيل المثال، مشكلة السفارد والإشكناز الذين يتبادلون الاتهامات والنكات.

فيشير الإشكناز للسفارد باعتبارهم "شفارتز" أي "سود" ويقولون إن "الفرانك كرانك" أو "شحوريم"، أي إن "السفارد مرض"، ويرد السفارد بدورهم بالحديث عن "إشكي نازي". وهناك نكتة تبادلها السفارد عن طفل سفاردي سُئل عما يود أن يصبح حينما يكبر فكان رده "إشكنازي"! ولم يختلف الأمر كثيراً مع حضور المهاجرين السوفيات.

فقد لاحظ الإسرائيليون أنهم صهاينة استيطانيون قالباً، أما قلباً فهم مرتزقة تماماً، باحثون عن الحراك الاجتماعي بأي ثمن وفي أي مكان، حتى لو كان أرض الميعاد، ومن ثم جاؤوا إلى صهيون لا بسبب قداستها وإنما بسبب أسعارها والفرص المادية المتاحة لهم.

وتتناقل الصحف الإسرائيلية تصريحاتهم التي تعبِّر عن موقفهم النفعي تماماً. فواحد منهم يقول إنه لم يأت لاقتناء سيارة، فقد كانت عنده سيارة في روسيا، وإنما أتى لاقتناء سيارة أكبر. وآخر يشكو من أن أرض الميعاد حارة جداً، وثالث، رغم ادعاءاته اليهودية، يظهر أنه لا يعرف عن عقيدته المزعومة سوى أن اليهود يوقدون الشموع في أحد أيام الأسبوع: الثلاثاء أو السبت، ورابع يسخر من حائط المبكى (بالعبرية: كوتيل) ويشير إليه بأنه «ديسكوتيل». وقد وصفت إحدى الصحف الإسرائيلية هؤلاء المهاجرين بأنهم يجلسون على حقائبهم، أي أنهم يتحينون الفرصة السانحة كي يفروا من صهيون إلى أي مكان آخر يحقق لهم قدراً أكبر من الحراك الاجتماعي.

وقد كتب صحفي إسرائيلي خبيث مقالاً فكاهياً في باب كان يُسمَّى "العمود الخامس" (وهي عبارة يمكن ترجمتها أيضاً إلى "الطابور الخامس"!) في صحيفة "الجيروزاليم بوست"، معلقاً على وضع المهاجرين الجدد.

يبدأ المقال في مكتب التوظيف في إسرائيل ويدخل شاب تبدو عليه علامات الذكاء فيسأله الموظف: ماذا تعمل؟ فيقول "مهاجر جديد"، فيفهم الموظف من إجابته هذه أنه من الوافدين ويسأله: أي وظيفة تود أن تشغلها؟ فيجيبه الشاب: "مهاجر جديد".

- نعم فهمت أنك "مهاجر جديد" ولكن ما نوع العمل الذي تود تأديته؟

- "مهاجر جديد".

فيبتسم الموظف، إذ يتحقق من أن الشاب لا يفهم العبرية ويتحدث معه ببطء شديد:

- أأ نـ نـ ت

مـ مـ هـ هـا جـ جــ ر

جـ د يــ يـ د

حسناً أين ولدت؟

فيجيبه الشاب: "بتاح تكفا".

وعند سماع هذه العبارة تغمر الدهشة وجه الموظف، إذ إن بتاح تكفا هي أول مستوطنة صهيونية في فلسطين والمولود فيها لا يمكن أن يكون وافداً فقد وُلد على أرض فلسطين المحتلة، ولغته الأولى هي العبرية، وحينما يطلب الموظف من الشاب تفسيراً يجيب هذا بقوله:

"سمعت أن لديكم وظائف للمهاجرين الجدد، وأنا عاطل عن العمل، ولذا قررت أن أكون مهاجراً جديداً.. وقد سمعت أن هناك مئات الملايين من الدولارات لتأهيل المهاجرين الجدد. لمَ لا يُعاد تأهيلي حتى أصبح مهاجراً جديداً؟ فمثلاً يمكنني أن أتعلم كيف أتحدث بالعبرية الأساسية. ويمكن أن أتحدثها بلهجة رديئة، وسأرتدي ملابس مضحكة مثل المهاجرين الجدد. انظر، أنا مستعد أن أضحي بكل هذه الأمور، لقد سُرحت من الجيش منذ عام ولم أعثر بعد على عمل. أسمع أن كثيراً من أصدقائي ينزحون عن هذا البلد ولا أريد أن أفعل ذلك فأنا مؤمن بالصهيونية، وأحب هذا البلد، وإذا كانت الطريقة الوحيدة للبقاء هنا هي أن أصبح "مهاجراً جديداً" محترفاً، حسناً إذن فسأفعل ذلك.

أعرف أن هذا يعني أنني سأصبح عضواً في أقلية محتقرة وسأشعر بالحنين نحو وطني الأصلي.. كل شيء.. لا مانع عندي! إذا كان هذا هو المطلوب فأنا على استعداد للقيام به، سأكون مهاجراً جديداً مثالياً.. سأقضي وقتاً قصيراً في معهد تعليم العبرية. وسأتكيف تماماً في الجيش، وأعدك أن أطلب كل شيء مثل المهاجرين الجدد، وسأبقي هيئة الاستيعاب في حالة قلق حيث إنني لن أكف عن الشكوى بخصوص كل ما أحتاج إليه".

وقد رسم لنا الكاتب صورة فكاهية دقيقة للمهاجر الجديد وموقفه الاستهلاكي وبحثه عن الترف وشكواه المستمرة، عند هذه النقطة يُظهر الموظف تعاطفاً نحو الشاب ولكن تظهر مشكلة وهي أن شهادة الميلاد الخاصة به تدل على أنه وُلد في بتاح تكفا وبالتالي من المستحيل تصنيفه "مهاجراً جديداً"، فيخبره الشاب أنه لا توجد مشكلة البتة ويطلب ورقة لاصقة.

وحينما يستفسر الموظف عن السبب يخبره الشاب أن وزارة الداخلية تصدر ورقات لاصقة تقول إن المعلومات الواردة بشهادة الميلاد ليست دليلاً قانونياً على القومية. وعند هذه النقطة يرفض الموظف ويعرفه أن الورقات اللاصقة التي تصدرها وزارة الداخلية تشير إلى قضية من هو اليهودي، وتعني أن مَنْ يسجل نفسه يهودياً فيها لا يعني بالضرورة أنه قد تهود حسب الشريعة، فالإشارة هنا -كما يقول الموظف- إنما هي إلى التهود غير الشرعي، وهنا يقول الشاب: وماذا عن وصمة الانتماء إلى جيل الصابرا طيلة حياتي؟

ولعل أطرف تعليق إسرائيلي كوميدي على الصهيونية التوطينية هو هذا المقال الذي يحمل عنوان "الصهيونية الخالدة"، وهو عبارة عن حوار بين متشائم ومتفائل. فحين يعلن الأول موت الصهيونية يؤكد له الثاني خلودها ثم يقدم له الأدلة الدامغة والبراهين القوية، مؤكداً له "أن الهجرة الصهيونية من الولايات المتحدة لا تزال على قدم وساق".

وبنبرة كلها يقين يقول "إن القنصلية الإسرائيلية في نيويورك أرسلت 100 نعش، إذ إن يهود أميركا يحبون أن يُدفَنوا في إسرائيل" (وهذه ليست نكتة وإنما حقيقة تشكل استمراراً للتقاليد الدينية اليهودية).

المهاجرون يحضرون إذن -كما يقول المتفائل- ولكن في قسم البضائع، والتظاهرات الصهيونية لا تزال تُعقَد ولكن في مكاتب الجنازات، وهي تطرح الشعار التالي: "اعطوني المؤمَّن عليهم، الموتى، المومياءات التي تود أن ترقد حرة" (وهذه معارضة ساخرة للشعار المكتوب على قاعدة تمثال الحرية في الولايات المتحدة). "ورغبة يهود أميركا في أن يُدفَنوا في إسرائيل تقوم دليلاً على أنهم قد يعمدون بوجودهم الزمني أو الدنيوي للولايات المتحدة، ولكن حينما يتصل الأمر بالأبدية فإنهم يعرفون أن وطنهم الحقيقي هو إسرائيل.

ومن هنا فإن أصحاب "الصهيونية الخالدة"، "كان بوسعهم أن يُدفَنوا في إحدى المناطق الكثيفة الأشجار في الولايات المتحدة، ولكنهم يفضلون الريادة في أرض الميعاد بين شعبهم في تابوت خشبي... ويا لهم من مهاجرين مخلصين.. لا تراهم قط يتألمون من مفارقة أوطانهم ولا من أنه لا يوجد "كنتاكي فرايد تشيكن" في إسرائيل، بل إنك لا تراهم على الإطلاق، حمداً للسماء كنا نظن أن الهجرة من الولايات المتحدة قد انتهت.. ولكننا نعرف الآن الحقيقة.. إن الأميركيين يموتون من أجل الحضور لإسرائيل". والله أعلم.

ـــــــــــــــــــ

(*) المقال أعده المرحوم المسيري قبيل وفاته