خبر خيارات المستقبل في إيران ..فهمي هويدي

الساعة 01:01 م|07 يوليو 2009

خيارات المستقبل في إيران ..فهمي هويدي

ـ السفير 7/7/2009

بعدما انتهت في إيران الفورة وجاءت الفكرة، تداعت أسئلة المستقبل وخياراته قوية وملحة، ليس في الداخل فحسب، بل في جهات الكرة الأرضية الأربع.

(1)

صحيح أن ما جرى بعد الانتخابات كان مدهشا ومفاجئا ومثيرا. لكن الصدى في العالم الخارجي كان مدهشا ومفاجئا أيضا. وهو من ناحية كشف عن مدى قوة الحضور الإيراني في الوجدان العام، كتجربة مثيرة وقوة إقليمية كبرى من ناحية، وكدولة سببت إزعاجا للعالم الغربي بوجه أخص من ناحية ثانية. ثم ــ وهذا عنصر مهم ــ كهدف ظلت أطراف عدة في العالم العربي متوجسة منه أو متربصة به. إما لتصفية حسابات خاصة، أو تنفيذا بالوكالة لحسابات آخرين.

حضرت ندوة عن إيران بالدوحة دعا إليها «مركز الجزيرة للدراسات» في الأسبوع الماضي، وشارك فيها اثنان من المحللين السياسيين الإيرانيين الذين تستطلع وسائل الإعلام العربية آراءهم بين الحين والآخر. ومن الملاحظات التي أبدياها أن بعض الصحافيين العرب يتصلون بهما هاتفيا، لا لكي يتعرفوا على تحليلهما للتطورات التي تشهدها إيران، بل لكي يحصلوا منهما على شهادات أو قرائن تؤيد افتراضات مسبقة عندهم.

قال لي أحدهما إن إحدى الفضائيات العربية اتصلت به لتسأله عن مساندة «البازار» للسيد مير حسين موسوي ومظاهر الثورة في شارع ولي عصر. فكان رده أن البازار لم يؤيد موسوي، وعلاقته مع رموزه متوترة بسبب سياسته منذ كان رئيسا للوزراء قبل عشرين عاما. ثم إنه لا تظاهرات في شارع ولي عصر (أطول شوارع طهران)، وكل ما هناك أن 150 شخصا تجمعوا أمام مجلس الشورى وهتفوا ضد الحكومة وأحمدي نجاد، وهو ما يتعذر وصفه بأنه من مظاهر الثورة. ولكن مندوب الفضائية أصر على أن البازار مع موسوي وأن هناك تظاهرات حاشدة في شارع ولي عصر، حينئذ قال لي زميلنا الإيراني: أنا الموجود في طهران وليس أنت، وإذا كنت ترى وأنت في لندن أشياء لا نراها نحن في قلب طهران فأنت حر. ثم قطع الخط وأغلق الهاتف.

الثاني قال إن صحافية عربية اتصلت به هاتفيا وسألته عن دور الباسيج (قوات التعبئة) في إطلاق الرصاص على الشابة ندى، حتى قتلوها وهي سائرة وسط المتظاهرين. في رده قال: إنه ليس صحيحا أن الباسيج وراء عملية القتل. ولكن ثبت أن الرصاصة التي أصابتها ليست مما تستخدمه الأجهزة الأمنية. كما أن ندى لم تكن ضمن المتظاهرين، بل هي كانت تسير في طريق بعيد عن مكان تجمعهم. ولكن الصحافية أصرت على أن الباسيج هم الذين قتلوها، وأنها كانت وسط جمهور المتظاهرين. حينئذ رد عليها صاحبنا قائلا: إذا كانت كل المعلومات لديك وأنت متأكدة من صحتها، فلماذا تسألينني عن الوقائع إذاً؟

(2)

كثير من المحللين وقعوا في الخطأ ذاته، فعالجوا ما جرى انطلاقا مما تمنوه. حتى شاعت في كتاباتهم الإشارات الدالة على أن ما جرى هو مقدمات «ثورة مخملية» على غرار ما حدث في بعض دول أوروبا الشرقية. وكان ذلك في أحسن فروضه من قبيل التسرع الناجم عن الكسل العقلي، الأمر الذي حجب عنهم الكثير من تعقيدات الصورة وخلفياتها.

فكثيرون لا يعرفون مثلاً صلة القرابة الشديدة من ناحية الأب التي تربط بين السيد خامنئي والسيد مير حسين موسوي (للعلم: شقيق المرشد السيد هادي خامنئي من زعماء الإصلاحيين). وفي وقت مبكر، سبعينيات القرن الماضي، كانا يشتركان في آرائهما الإصلاحية والتقدمية. وهذه القرابة كانت الباب الذي دخل منه موسوي إلى عالم السياسة ومشروع الثورة الإسلامية. إذ كان السيد خامنئي هو الذي قدمه إلى الإمام الخميني، ورشحه لرئاسة الحكومة. وكان السيد خامنئي رئيسا للجمهورية وقتذاك، الأمر الذي أثار خلافا بين الرجلين بسبب الصلاحيات. واحتدم ذلك الخلاف ذات مرة، الأمر الذي أدى إلى غضب السيد موسوي وامتناعه عن الذهاب إلى مكتبه واختفائه عن الأنظار أياماًعدة. وهو ما أزعج الإمام الخميني فوجه إليه رسالة عتاب قال فيها إنه لولا ثقتي فيك وخدماتك التي قدمتها للثورة الإسلامية لكان لي معك شأن آخر.

في وجود الإمام الخميني وأثناء رئاسة السيد موسوي للحكومة، كان السيد خامنئي مقيد الحركة ومضغوطا عليه من الطرفين. وبعد وفاة الإمام اختير خامنئي مرشداً، وكان للشيخ هاشمي رفسنجاني دوره المهم في ترتيب إيصاله إلى ذلك المنصب. وفي ظل الدستور الجديد الذي صدر في العام 1989، وبعد إلغاء منصب رئيس الوزراء، أصبح الشيخ رفسنجاني رئيسيا للجمهورية، إلى جانب «المرشد» السيد خامنئي. ولأن الثاني لرفسنجاني شخصية قوية ومستقلة، فإن دور المرشد إلى جانبه ظل محدودا، من حيث إنه بقي مغلول اليد بصورة نسبية. وبعدما انتهت مدة رفسنجاني وتم انتخاب السيد محمد خاتمي رئيسا للجمهورية، ظلت يد المرشد في شؤون الحكم مغلولة أيضا لمدة ثماني سنوات أخرى. وفي سنة 2005 حدث تطور مهم للغاية في تركيبة هرم القيادة بإيران، إذ انتخب الدكتور أحمدي نجاد رئيسا للجمهورية، وفاز على الشيخ رفسنجاني الذي تلقى هزيمة قاسية آنذاك. وأهمية هذا التطور تكمن في عدة أمور، أبرزها أن أحمدي نجاد، الذي كان رئيسا لبلدية طهران وقتذاك، يدين بولاء شديد للسيد خامنئي، وهو ما كان يعني أنه ــ لأول مرة منذ قامت الثورة ــ ستكون له اليد الطولى في إدارة البلد. وكان يعني أيضا أن الجيل الثاني من أبناء الثورة ممثلا في أحمدي نجاد قد تقدم خطوة إلى الأمام في سلم القيادة. كما كان يعني أن أسهم الشيخ رفسنجاني اتجهت إلى الهبوط، شعبيا على الأقل.

منذ انتخاب أحمدي نجاد، وفي ظل التوافق الذي يصل إلى حد الامتثال مع المرشد، أصبح دور هاشمي رفسنجاني وفريقه مهمشاً بصورة نسبية في مسؤوليات الحكم رغم أنه يرأس مجمع تشخيص المصلحة ومجلس الخبراء. وهو لم يكن سعيدا بذلك بطبيعة الحال. الأمر الذي يفسر وقوفه إلى جانب منافسي أحمدي نجاد في معركة الانتخابات الرئاسية، واعتماد مير حسين موسوي في تمويل حملته الانتخابية على دعم ابني الشيخ هاشمي اللذين أصبحا من كبار الأثرياء، وهو ما قد يفهم منه أن الشيخ كان يسعى لاسترداد مكانته.

معروف أن السيد خاتمي كان قد أعلن ترشيح نفسه لانتخابات الرئاسة، وحين تقدم موسوي بأوراق ترشيحه رسميا، فإن خاتمي استاء من هذا التصرف، ولم يكن أمامه سوى أن يتراجع، خصوصا حين أدرك أن الشيخ هاشمي وراءه. ولم يخل المشهد في مجمله من مفارقة، لأن المرشحين الثلاثة «كروبي، موسوي ورضائي» من الجيل الأول للثورة، فيما أحمدي نجاد الذي تحداهم من الجيل الثاني. أما المتظاهرون الذين خرجوا به في الشوارع غاضبين ومحتجين، فهم من الجيل الثالث.

(70٪ من أبناء الشعب الإيراني تحت سن الثلاثين).

(3)

قلت في الأسبوع الماضي إن الأزمة انتقلت من الأرصفة إلى الأروقة، بمعنى أن آثارها اختفت من الشارع، ولا تزال تداعياتها تتفاعل في محيط النخبة، على الأقل في حدود العلماء ورجال السياسة.

قال لي أحد المقربين من الشيخ رفسنجاني إن الرجل أدرك أن الأمور خرجت عن السيطرة، فما بدأ تنافسا على الرئاسة وصراعا بين أجنحة مشروع الثورة الإسلامية حول النفوذ والصلاحيات، ظل مكتوما طول الوقت، انتهى على نحو مختلف تماما، إذ شوهت صورة الجمهورية الإسلامية، وفقدت في الخارج تماسكها التقليدي.

وتراجعت هيبة المرشد بصورة نسبية، وهذا العنصر الأخير تجلى حين دعا السيد خامنئي في خطبة الجمعة (19/6) إلى الهدوء والقبول بنتائج الانتخابات، وبعد أربع ساعات خرجت التظاهرات في طهران متحدية تلك الدعوة وهو ما لم يحدث من قبل بهذا الحجم لأنه من حكماء النظام ودهاة أهل السياسة، فإن رفسنجاني تراجع خطوة إلى الوراء، وحرص على أن يلعب دور الوسيط في حل الأزمة.

قلت لأحد الخبراء الإيرانيين إن خطاب المرشد بدا استباقا لقرار مجلس صيانة الدستور الذي يفترض أن يبحث شكاوى المرشحين وطعونهم، كأنه فصل في قضية ما زالت منظورة أمام المحكمة. في رده قال إن المرشد اجتمع مع موسوي بعد إعلان النتيجة ودعاه إلى تقديم شكواه إلى مجلس صيانة الدستور المختص بدراسة الطعون الانتخابية، فوعد صاحبنا بتهدئة الأمور، لكنه لجأ إلى الشارع وطالب بإلغاء الانتخابات، كما اجتمع المرشد في اليوم التالي مباشرة مع ممثلي المرشحين الأربعة (خمسة عن كل مرشح)، ولكن اللجوء إلى الشارع استمر، وتصعيد موسوي لم يتوقف، لذلك لم يجد المرشد حلاً سوى أن يتدخل، ويتحدث مباشرة إلى الناس لاحتواء الموقف، والحيلولة دون اتساع نطاق التظاهرات.

ما يلفت النظر في المشهد أن أحدًا من الإصلاحيين لم يتحدث عن النظام، ولكن تركيزهم الأساسي كان ولا يزال على صلاحيات المرشد وسقف الحريات العامة المتاح. لكن الضغوط والقوى الخارجية سعت طول الوقت إلى تصوير ما جرى وكأنه صراع ضد النظام وليس بين أجنحته وحول أساليبه.

(4)

أخشى ما أخشاه أن يؤدي استمرار توتير الموقف في إيران ومواصلة تحريض المعارضين على السلطة إلى عسكرة النظام، بمعنى زيادة نفوذ الأجهزة الأمنية، بمظنة أن ذلك ربما كان ضروريا لحماية الجمهورية الإسلامية من التهديدات التي تتعرض لها. وهذه الأجهزة، خصوصا حرس الثورة وقوات التعبئة، قوية بما فيه الكفاية، ويقال إن 36٪ من اقتصاد البلد تحت سيطرتها، وليس مستبعدا أن يشكل الظرف الراهن مناخا مواتيا لتمددها وزيادة دورها في الحياة السياسية.

العسكرة ليست الخيار الوحيد أمام النظام، لأن الأزمة قد تكون دافعا إلى الانكفاء على الداخل، في محاولة للملمة الجراح، والتعاطي مع المشكلات الداخلية، السياسية والاقتصادية، وغير ذلك من الأسباب الاجتماعية للغضب، التي دفعت الناس إلى التظاهر والاحتجاج.

ثمة خيار ثالث أمام المرشد هو أن يثبت حضورا أكثر فاعلية في السياسة الخارجية، لكي يعطى انطباعا للمراقبين والمتربصين في الخارج بأن النظام لا يزال محتفظا بعافيته وقدرته على التأثير، وهو ما يستدعي دورا أكثر نشاطا في العراق وأفغانستان، ودعما أكبر للقضية الفلسطينية والمقاومة الإسلامية عموما، وتشددا أكثر في الملف النووي.

أما خيارات السيد موسوي فهي محدودة. فقد يكتفي بمواصلة إصدار البيانات عبر موقعه الإلكتروني، التي يتمسك فيها بمطلب إلغاء الانتخابات وعدم الاعتراف بشرعية الحكومة. وهو ما لا يعني الكثير بمضي الوقت. ويتحدث المحيطون به عن بديلين آخرين، أحدهما أن يدعو إلى عصيان مدني حتى تستجاب مطالبه. لكنه ليس واثقا من نجاح الدعوة، وفشله فيها يعني هزيمة أخرى له.

الثاني يتمثل في تشكيل حزب (الكلمة الخضراء) ليخوض في انتخابات البلديات التي ستجري بعد عام.

وإذا فاز برئاسة بلدية طهران، فقد يفتح ذلك له الباب للفوز برئاسة الجمهورية، كما حدث مع أحمدي نجاد، ولكن ذلك ليس أمرا سهلا، لأن حلفاءه لهم تجمعاتهم أو أحزابهم الخاصة (خاتمي/ حزب المشاركة ـ كروبي/ اعتماد مللي ـ رفسنجاني/ كوادر البناء) أما الاحتمال الأسوأ فهو أن يستمر موسوي في تصلبه، وعناده وتشهيره بالانتخابات وانتقاده للمرشد، بحيث يدفع ذلك المتشددين من معارضيه إلى المطالبة بمحاكمته، بما يؤدي إلى سجنه في نهاية المطاف.

حين سألت عن تفسير لحالة المعاندة التي جعلت الرموز الثلاثة يتشبثون بمواقفهم وآرائهم، السيد خامنئي وأحمدي نجاد والسيد موسوي، قال لي أحد الخبراء الإيرانيين ضاحكا، إنه «العرق التركي» الذي نقح وغلب، فخامنئي وموسوي من عائلة آذرية تركية، وكذلك أحمدي نجاد الذي نزحت أسرته من أذربيجان قديما، وأثبتت التجربة أنه لا يزال وفيا لأصوله التركية.