خبر في ذكرى رحيله ..عبدالوهاب المسيرى: رحلة البحث عن الذات..والمعنى

الساعة 05:40 م|05 يوليو 2009

.هبة رءوف عزت مدرس العلوم السياسية - جامعة القاهرة -

استغرق الأمر ثمانية أشهر كى أمتلك شجاعة أن أدخل مكتبته فى الطابق الأسفل من بيته، هناك حيث كان يعقد لقاءاته مع الشباب ليناقش قضايا فكرية.

 

بعد وفاته انشغلت بأداء دين له فى عنقى هو أن أشارك فى منتديات لمناقشة فكره وتأبينه.

 

ألقيت بحثا كان قد كتبه قبل وفاته فى ندوة فى عمان، وتحدثت عنه وسط جمع من الأكاديميين فى بيروت، كما كتبت عدة مقالات عنه، ومقدمة لملف صدر فى مجلة علمية عن فكره، ومقدمة لكتاب يجمع بعض مقالاته.

 

بعد أن هدأ زحام البكائيات ومجالس الحزن.. أخذت هدنة.. وتوقفت.

 

تجنبت النظر للأغلفة التى تحمل اسمه فى مكتبتى، ولم أستطع زيارة بيته بعد أن مرت الأسابيع الأولى، واكتفيت بمكالمات الهاتف للسؤال عن زوجته الدكتورة هدى حجازى، من بعيد.

 

بعد أن هدأ الموج على السطح صعد الحزن من القاع.

 

صرت أفتقد جلساتنا الفكرية الممتعة مع جيلى من الباحثين ونقاشنا فى القضايا الفلسفية والمعرفية، والتى كان يملؤها بصخبه ونكاته القوية..اليوم لم أعد أضحك على النكات..تفتقد النكات حماسته وضحكته المدوية.

 

أفتقد مكالماتنا الهاتفية الطويلة، فأطلب رقم بيته فيرد صوته المسجل على الآلة..فيزيدنى شوقا إليه.

 

أفتقد دعوته طلابه لنزهة فى قارب فى عصر يوم ربيعى فى نيل القاهرة كى نقضى وقتا إنسانيا يروى فيه ذكريات ويتفقد أحوالنا ويداعب أطفالنا..الآن أراقب الغروب وأنظر للقوارب فى النيل..وأسمع من بعيد صدى نقاشاتنا وصوت أطفالى ينادونه:«جدو هابو».

 

أفتقد إهداءاته لى على كتبه التى كان يكتبها أحيانا على الصفحة الأخيرة مقلوبة ويضحك حين أتناول الكتاب وأظل أفتش عن موضع الإهداء كأنها لغز..بعد وفاته تصدر بقية كتبه وأضمها لمكتبتى دون أن تحمل إهداء.

 

أفتقد صوت الخف المغربى وهو يجرجره على الأرض حين أزوره فأعرف أنه سيدخل غرفة الجلوس التى ملأها بالكتب واللوحات الفنية والنباتات الخضراء، وأفتقد سخريته منى حين أطلب القهوة باللبن والسكر فيقول: القهوة لا تشرب إلا بدونهما كى تعرفى جودتها..وحرصه على أن يعطينى كل الاهتمام وينصت ثم نتناقش، وأنا محض تلميذة له من خارج تخصصه ومن خارج جامعته، فيمنحنى الثقة ويدفعنى لتحصيل المعرفة كى أكون أهلا لمجالسته..ويعلمنى كيف أترفق مع تقدم عمرى بمن هم أصغر منى سنا من الباحثين والطلاب.

 

أفتقد مشاكسته حين أتهمه بالحرص لأنه دمنهورى فيضحك.. فقد منحنى قبلها بأيام قليلة مبلغا محترما لشراء كتب لرسالتى للدكتوراه من الخارج ــ شريطة أن نتقاسم الأفكار ونتناقش مناقشة ثرية يوم جمعة فى هدوء بعد الصلاة.

 

أفتقد جلوسنا فى شرفة بيته وزوجته تشكو من عدم خلوده إلى الراحة فى مرضه فيبتسم ويدعوها لأن تجلس بجواره ويداعبها فتزداد غيظا ويزداد لها توددا، وأنا أضحك.. وأفتقد حديثه عن أحفاده الذين كتب لهم قصص الأطفال التى نالت الجوائز.. لنقرأها نحن.

 

أفتقد دعوته لى كى أرى آخر لوحة لفنان شاب اشتراها.. ليشجعه.

 

أفتقد حماسته لدعوتنا المرة تلو المرة لعروض السيرة الهلالية فى رمضان، ونشوته حين يسقط المنشد جزءا من القصة قٌتل فيه بطله المفضل فيداعبه ويطلب منه أن يرويها فيرفض المنشد، فيعلمنا أن الحكى الشعبى يرفع من إرادة الراوى لأن القصة إنسانية..ويتحدث فى وسط ضجيج القاعة المفتوحة عن فلسفة الإنسان واللغة والثقافة الشفاهية وقوة الناس، ثم يواصل الاستماع فى سعادة.

 

أفتقد زجره لى حين آخذ موقفا حادا، وابتسامته حين أوصيه بالشىء نفسه حين يفعل هو فيلين، وأفتقد أدبه مع المتثاقلين من الصحفيين، ومع المتنطعين من أترابه، ومسارعته للاستجابة لأى حديث إعلامى لا حبا فى الظهور بل شعور بالمسئولية تجاه صحفى يخطو خطواته الأولى فى حياته المهنية، وتواضعه حين يكتب على كتبه اسمه غفلا من حرف الدال ويقول إذا لم يكن لما أكتب قيمة فلن تمنحه الدال أية قيمة إضافية.. وهو أستاذ الأساتذة.

 

أفتقد صوته الواهن فى مرضه، وقوة نبرته فى نهاية المكالمة وتأكيده أنه بخير كى لا نقلق، أفتقد تأملاته عن الحياة وقصصه عن عالم الأدب وفرحته بصدور كل كتاب كأنه أول عمل له، وسعادته بالجوائز التى كان دوما أكبر منها كما يفرح الطفل بملابس العيد.

 

يوم جلست فى مكتبه بعد وفاته أقرأ..قضيت اليوم أتجول بين الأوراق، وأعيد استيعاب كل تفاصيل المكان بعد أشهر من موته، أحسست بروحه فى كل التفاصيل، ومر أمام عينى شريط.

 

الذكريات..ابتسمت..وبكيت..وضكت.. ونظرت مليا لصورة له معلقة على الحائط، وتشممت أوراقا خط عليها بقلمه بعض الهوامش.

 

هذا الافتقاد كان بسبب هذا الحضور الإنسانى لعبدالوهاب المسيرى فى حياة من حوله، وهذا الوجود الفياض فى كل كلمة كتبها، هذا الحضور الوجودى متعدد الأوجه والأبعاد والألوان.

 

«عندى فكرة».. كان يأتينى صوته عبر الهاتف.. ثم يبدأ نقاش طويل، نتجاذب فيه أطرافها ونستجلى أعماقها ونشحذ طاقتها ونجلو صياغتها، «اسمع هذه الفقرة..» كنت أقول أنا حين أتصل أو أزور، وأتلو عليه جزءا من دراسة أو فقرة فى مقال فيستخرج معانيها الكامنة ويستفيض فى مقارنتها بغيرها كى تزهر أفكارى بقطرات الحكمة التى يسقيها لها وتورق.. هذا الثراء والتنوع فى التواصل الفكرى كان نمطا فريدا من العلاقة العلمية يندر وجوده فى عالمنا العربى، لأنه يعين العقل على أن يتجول فى بساتين المعنى بما لا يمكن حصره فى تخصص أو وضعه تحت عنوان واحد..فى حرية لا تهيمن فيها فكرة ولا تستبد مقولة.

 

كان عبدالوهاب المسيرى عقلا توليديا ملهِما لجيله وصولا لجيلنا، والفارق بين العقل المبدع والعقل الوظيفى كما علمنا المسيرى هو الفارق بين عقل يعمل فى إطار المؤسسة والأطر العلمية فى للوصول إلى الحكمة والمعرفة، ولخدمة الإنسانية، والدفاع عن حقوق الناس، وتوفير حياة طيبة لهم؛ فيكون العلم بذلك علما نافعا.. وبين عقل آخر يختفى فيه المنظور النقدى وتتلاشى أسئلة الوجود والهوية، ويصبح فيه العلم حرفة وتحصيله أداة لتحصيل الثروة، والإنتاج العلمى وسيلة للترقى فى كادر المهنة أو الكادر السياسى، ويزيد الكم دون زيادة كيفية، ودون أى أمل فى نقلة معرفية حقيقية تصنع مستقبلا أفضل للوطن. بين جدران الجامعة..وآفاق العلم.

 

فى عام 1990 استقال د. عبدالوهاب المسيرى من جامعة عين شمس ليتفرغ لإنهاء موسوعة عن اليهود واليهودية والصهيونية، هذا العمل الذى عكف عليه 25 سنة وأنفق عليه الوقت والجهد والمال، ليخرج عملا موسوعيا فذا. كان الدرس الذى لقنه لى هو أن العلم ليس وظيفة يتكسب منها أو سلما للسلطة، بل هو رسالة يحملها على كاهله وأمانة يؤديها لأمته، وأن للعالم دورا رساليا ووظيفة كفاحية، ولذلك كان عبدالوهاب المسيرى ــ كما كان جمال حمدان ــ عقلا عربيا موسوعيا يصبو للمعرفة والحكمة، والنفع والخدمة لقضايا أمته.

 

بيد أن هناك فارقا جوهريا بين المسيرى وجمال حمدان، فالثانى اختار العزلة (أو ربما فرضتها عليه الظروف) كى ينتج أعماله، فى حين اختار المسيرى الانخراط فى الواقع المحيط والتفاعل معه كى يثرى جهده الفكرى بتجارب الحياة من ناحية، ويستجيب لاحتياجات مجتمعه الاجتماعية والسياسية من ناحية أخرى، فواجه الفكرة الصهيونية وفكك الأطروحة العلمانية، كما واجه قبضة ميليشيات تأمين النظام فى الشارع متوليا قيادة حركة صغيرة العدد فارقة الأثر هى حركة كفاية، فانتشر فى الدائرة العلمية كما سرى صموده فى الشارع فصار كل أحد يجرؤ اليوم على التظاهر فى الشارع بعد أن نسى الشارع وقع أقدام المعتصمين والمقاومين للبطش بعد أن طغى ضجيج أحذية العسكر وجنود هامان على تغريد عصافير العدل والحرية لسنوات طويلة.

 

يصعب فى كلمات قليلة رسم معالم الخريطة الثرية والغنية لعالم عبدالوهاب المسيرى

 

لكن هناك ثلاثة معالم رئيسية لهذا الفضاء الغنى الأخضر:

 

أولا: العقل الموسوعى العابر للتخصصات والمتجاوز للأطر الحضارية فى مجال البحث والمقارنة، وهو ما اتضح فى الإسهام فى دراسات الصهيونية ومراجعة منظوماتها الأيدلوجية والمفاهيمية، والاحتفاء بالمقابل بنموذج المقاومة الفلسطينية، مقاومة الحجر وعبقرية الشعر وحكايات الصمود. ثم اتضح فى دراسة الغرب والعالم ورفض أطروحة نهاية للتاريخ، وكذا ربطه بين المادية والعنصرية والصهيونية.

 

ثانيا: المنطلق الإنسانى، بتقديم خطاب إسلامى جديد يستهدف استعادة مركزية الإنسان مع استكمال الرؤية الإسلامية لنواقص الإنسانية المادية بوجود الله الذى ليس كمثله شىء، وتطوير دور النص الدينى فى التصور الإسلامى المعاصر.

 

ثالثا: مدخل «البحث عن المعنى»، فيمكن القول إن المسيرى عاش حياته يبحث عن المعنى، المعنى فى المصطلح ومراجعته، ونقده، والمعنى الكامن خلف المنظومات الفكرية، والمعنى الكامن خلف المنظومات والمنظورات الحضارية، والمعنى الكامن خلف الحياة وحضور الغيب فيها وما وراءها، وأخيرا معنى الموت حين حدق المسيرى فى وجهه بشجاعة ثم تجاوزه بيقينه الدينى القوى..ومضى.

 

فالبحث عن المعنى كان الدافع وراء رحلته الطويلة بمراحلها وتجلياتها المختلفة، لذا فسيرته الذاتية هى تسجيل لتلك الرحلة الوجودية والمعرفية الثرية.

 

فكثير من العقول الموسوعية قد تقدم للآخرين معرفة وعلما، لكنها لا تزودهم بالتجارب الإنسانية والفكرية والفلسفية التى مرت بها، وبذلك لا تقدم خبرة فكرية وبحثية تحقق نقلة وتثرى الدائرة الفكرية وتسجل للأجيال مسيرة العقل الحضارى عبر سيرته، ولعل السير الذاتية الفكرية فى أبرز الأعمال التى تقوم بهذه المهمة، وقد أصدر د. عبدالوهاب المسيرى سيرته الذاتية بهذا الهدف.

 

هناك أيضا أثر واضح للمسيرى على الحركة الإسلامية والفكر الإسلامى المعاصر لا ينكر، فقد أعاد صياغة الخطاب وأتاح النقد البناء الموضوعى، ومنح الفكر الإسلامى أفقا إنسانيا رحبا ومسئولية تجاه العالم وليس تجاه أمة المسلمين فحسب.

 

وفى ختام حياته منح المسيرى للموت معنى كما منح للحياة معنى، فحول مرضه للحظات نضال فكرى متوهج كما تتوهج الشمعة قبل أن تنطفئ، ولم يمنعه مرضه من السعى لإتمام مشروعات فكرية طموحة ونشر كتب وإعادة نشر أخرى والتجوال فى العالم لحضور الندوات ودعم الباحثين الشبان فى أرجاء العالم العربى والإسلامى من المغرب لماليزيا ومن الولايات المتحدة لجنوب أفريقيا، فترك ذكرى فى كل أرض وعلما ينتفع الناس به.

 

فى حوار مع الباحثة المغربية الصديقة الدكتورة نعيمة عبدلاوى التى جاءت للقاهرة تزور أسرة المسيرى فى ذكرى وفاته اعترافا بفضله وأبوته قالت لى: «سأزور قبر المسيرى لأشعر بأننى قد وقفت على قبر أبى، فقد مات أبى فى الحجاز ولم أزر قبره».

 

لفتنى هذا الإحساس بالأبوة الذى استشعره كل من اقترب من المسيرى، تلك الأبوة الفكرية والإنسانية التى تجعل ذكراه ليست محض ذكرى مفكر كبير بل ذكرى إنسانية تبث فى الروح شعورا بالشجن والافتقاد.

 

أستاذى وأبى عبدالوهاب المسيرى: يرحمك الله.