خبر تفشي الجريمة المنظمة في إسرائيل يحولها من دولة « مثالية » إلى دولة « عادية »

الساعة 05:01 ص|05 يوليو 2009

فلسطين اليوم – القدس المحتلة

خلال مراسم عرض الحكومة الإسرائيلية الجديدة على الكنيست في 31 آذار (مارس) 2009، لفتت أنظار البعض في خطاب رئيس الحكومة، بنيامين نتانياهو، الفقرة التالية: «... كما أننا سنحدث التغيير الجذري في مجال الأمن الداخلي. إن الشعب اليهودي هو الذي أورث العالم الوصيتين الخالدتين الواردتين في الوصايا العشر: لا تسرق ولا تقتل! كما أننا تشبثنا خلال عصور الشتات في شتى ربوع المعمورة بالأخلاق العالية سواء في المعاملات الفردية أو الاجتماعية. ولذا لا يقبل العقل أن تثور بيننا - عندما أصبحنا مجدداً شعباً حراً وسيادياً في بلاده - تنظيمات للجريمة وعصابات جنائية تمارس السطو والقتل وتجارة الرقيق الأبيض، تتقاتل بالأسلحة النارية في شوارع مدننا. لا يمكن أن يخشى الأهل من إرسال أطفالهم إلى المدرسة أو شاطئ البحر. يجب أن نضع حداً لهذا الواقع. وبالتالي فسنشدد العقوبات المفروضة على المجرمين، وسندفع الإصلاحات في الشرطة ونعززها في ما يتعلق بمكافحة الجريمة».

 

من المعروف، بحسب تقديرات الشرطة الإسرائيلية، أنه يوجد في إسرائيل 16 مجموعة للجريمة المنظمة تقودها أكبر العائلات الضالعة في عالم الجريمة في إسرائيل. وقد أعلنت الشرطة مرات عدة خلال السنتين الأخيرتين، عن مواصلتها العمل بمثابرة وجدّية ضد هذه المنظمات، التي تنطبق عليها التعريفات المتبعة عالمياً في تحديد مثل هذه المنظمات التي تعمل من خلال تراتبية داخلية صارمة، وتنشط على نطاق واسع من حيث المناطق الجغرافية وجني الأرباح في مجالات متعددة على غرار المتاجرة بالمخدرات وبالنساء وتبييض الأموال وجباية رسوم «إتاوة» لحماية المحلات التجارية في المدن ((protection والمقامرات.

 

وتتنافس منظمات (عائلات) الجريمة المنظمة في إسرائيل في ما بينها لتقاسم مناطق النفوذ في المدن الكبيرة على امتداد البلد، ولذلك يحتدم الصراع بينها ليصل إلى العنف الشديد، الذي أدى مثلاً في شهر تشرين الثاني (نوفمبر) 2008، إلى قتل يعقوب ألفرون، أحد زعماء أبرز العصابات في إسرائيل، في سيارته في أحد شوارع مدينة تل أبيب. ومنذ أعوام طويلة، تعمل منظمات الجريمة في أطر محكمة التنظيم والترتيب، حتى يمكن القول إنها عبرت عملية مأسسة حقيقية، فجميعها تستمر حتى بعد تبديل قياداتها، نتيجة العنف المتبادل في ما بينها أو نتيجة ملاحقات الشرطة. وهذا ما يزيد من حصانتها وقوتها أمام أجهزة الحفاظ على الأمن، التي تحاول جاهدة، وبنجاح معيّن في السنتين الأخيرتين، أن تحقق نجاحاً يعادل نجاح تلك العصابات.

 

وقد أثار قتل ألفرون اهتماماً متجدداً بموضوع مجابهة تلك المنظمات فتشددت الشرطة في تعاملها مع أعضاء هذه المنظمات، ونفذت اعتقالات وقائية.

 

ويقول الخبير القانوني البروفسور زئيف سيغل إن أحد أسباب الفشل في القضاء على الجريمة المنظمة في إسرائيل يعود إلى عدم قيام الشرطة بتطبيق «قانون محاربة منظمات الجريمة» - (2003). كما أن هناك سبباً آخر يكمن في عدم وضع خطة للدفاع عن الشهود من داخل هذه المنظمات الذين يشهدون في المحاكم ضد رؤسائهم، حيث أنهم يخشون التعرض للانتقام والقتل.

 

ويضيف سيغل أن الوضع نفسه يسري أيضاً على قانون منع تبييض الأموال، الذي يمكن في حال استغلاله بصورة شاملة أن يكون قناة يمكن عبرها الوصول إلى قيادات هذه المنظمات. كذلك فإن الإجراءات القانونية المتبعة، في رأي سيغل، تمنح المتهمين من رؤساء العصابات ومحاميهم حق الاطلاع على الإفادات والأدلة وعدم بقاء أي مواد مصنفة (أي سرية للغاية) مغلقة أمامهم، ما يردع الكثيرين من تقديم إفادات تدينهم. هذه الإجراءات تصعّب عمل الشرطة في شكل كبير، كما تجعل الجانب الاستخباراتي المتعلق بكشف المجرمين صعباً وضحلاً بسبب خطورة كشف شخصية المتعاونين مع الشرطة كمخبرين. وهذا ما يؤكد عليه أيضاً موشيه مزراحي، أحد كبار ضباط الشرطة الإسرائيلية السابقين، الذي تولى قيادة وحدة التحقيقات في جرائم الفساد الكبرى، والذي قال إن «قانون محاربة منظمات الجريمة» لم يُستغل بما فيه الكفاية لمجابهة الجريمة المنظمة في إسرائيل، إلا في الآونة الأخيرة.

 

وقد قصد مزراحي في كلامه قيام المحكمة الإسرائيلية، يوم 4 حزيران (يونيو) 2009، بإصدار قرار منمّق يدين آسي أبو طبول، زعيم إحدى عائلات الجريمة المنظمة في إسرائيل، بتهمة «تزعم تنظيم للجريمة» عمل في تبييض الأموال ودفع رشى وابتزاز أموال من رجال أعمال إسرائيليين وأجانب تحت طائلة التهديد.

 

وينتظر أن تصدر المحكمة حكمها في شأنه في وقت لاحق. واشتمل قرار إدانة أبو طبول، الذي يقع في 570 صفحة، على نقد حاد وجهته هيئة المحكمة المؤلفة من ثلاثة قضاة إلى ظاهرة تفشي الجريمة المنظمة في إسرائيل وإلى انعدام الردع المطلوب. في الوقت نفسه عبرت النيابة العامة الإسرائيلية عن رضاها من هذا القرار، منوهة بكونه «خطوة في الطريق الصحيحة لمجابهة الجريمة المنظمة، التي تستلزم أيضاً تعاون السكان مع أجهزة فرض القانون».

 

تجدر الإشارة إلى أن المحكمة الإسرائيلية أصدرت، في 25 حزيران (يونيو) 2009، حكماً بالسجن الفعلي لمدة خمسة أعوام وخمسة أشهر بحق وزير المالية في حكومة «كاديما» السابقة، أبراهام هيرشزون، الصديق الشخصي لرئيسي الحكومة السابقين آرييل شارون وإيهود أولمرت، وأحد أبرز شخصيات حزب «كاديما». وقد أدين باختلاس وسرقة مبالغ تقدر بملايين الشواقل في أثناء تولّيه مناصب إدارية رفيعة في منظمات صهيونية، شبه رسمية، مثل نقابة العمال الوطنية و «جمعية نيلي»، التي تعمل في مجال توثيق الصلات مع الجاليات اليهودية في العالم وتشجيع الهجرة إلى إسرائيل. كذلك اتهم هيرشزون باستغلال شخصي لأموال منظمة «مسيرة الحياة»، وهي منظمة تعمل على إحياء ذكرى ضحايا المحرقة النازية من اليهود.

 

وفي السادس والعشرين من تشرين الثاني (نوفمبر) 2008، قام المستشار القانوني للحكومة الإسرائيلية، ميني مزوز، بتبليغ رئيس الحكومة إيهود أولمرت نيته تقديمه إلى المحاكمة بتهم فساد تتلخص في استغلال المال العام للمصالح الخاصة.

 

وكان أولمرت قد استدعي، خلال سنة 2008، ما يزيد على عشر مرات إلى التحقيق أمام الشرطة حول قضايا فساد تورط فيها في الأعوام التي شغل فيها مناصب تمثيلية ورسمية مختلفة مثل رئيس بلدية القدس، ووزير التجارة والصناعة وغيرهما.

 

مواجهة الجريمة المنظمة

في ما يتعلق بمجابهة الجريمة المنظمة، ثمة توجه يقول إن نجاح هذه المجابهة غير مرهون بالردع والقدرة على اعتقال وسجن رؤساء عصابات الجريمة المنظمة فحسب، وإنما أيضاً وأساساً بضرب الخاصرة الرّخوة لمنظمات الجريمة المنظمة والتي تعتبر نقطة ضعفها الرئيسة، والمقصود مصادر الربح الكبيرة لهذه المنظمات. وفي حال التعرّض لهذه المصادر فستضعف جاهزية المجازفة وستفقد هذه المنظمات أحد أهم أسباب وجودها.

 

«المجتمع المثالي»

يرى نبيل الصالح أن ظاهرة الجريمة المنظمة في إسرائيل، علاوة على ظواهر اجتماعية أخرى تفاقمت في الآونة الأخيرة على غرار ظاهرة الفقر وظاهرة الفساد، تثقب صورة «المجتمع المثالي»، وتعبر عن تحجيم قدرة الصهيونيّة - كفكر وممارسة - على استمرار التحكّم في حركة هذا المجتمع وفي توجيهها على نحو يخدم مصالح الصهيونية في تمثيل إسرائيل أمام العالم، باعتبارها «نوراً للأغيار»، كما أريد لها أن تكون في عام 1948، أو كما صرّح زعماء الحركة الصهيونية، في إسرائيل وخارجها، بأنهم لا يريدون لهذه الدولة أن تكون مثل بقية الدول، وأنها بتشابهها مع الدول الأخرى تفقد مسوغات وجودها.

 

بناء على هذه الرؤية فإن إسرائيل، بحسب ما تتبدى من خلال أوضاعها الاجتماعية، تبتعد أكثر فأكثر عن الصورة أو عن المثال الذي رغب آباء الصهيونية في بنائه. بكلمات أخرى تتجه في مسار التحوّل من «مجتمع مثالي» إلى مجتمع عاديّ.

 

ولا شكّ في أن ذلك ناجم، أساساً، عن تطورها الاقتصادي، الذي يتميز في الأعوام القليلة الفائتة بالانتقال المتسارع إلى الاقتصاد الليبرالي وإلى الخصخصة. إن ما يجري في إسرائيل، خلال هذه الأعوام، هو سيطرة السوق الخاصة على الدولة كلها تقريباً، وأحد عواقب ذلك هو الفساد. والفساد، بحسب أحد التعريفات، هو محصلة عملية سيطرة رأس المال الخاص، الذي يبدأ بأخذ حصة الدولة واستبدال دورها. أي أنك تفسح المجال أمام رأس المال الخاص للاستيلاء على الحيّز العام. وبالمناسبة، فإن اتساع ظاهرة الإجرام المنظم نابع من الأسباب نفسها. فالجريمة المنظمة تنهض في الوقت الذي تضعف الدولة ويسيطر السوق على أملاك الدولة. لذا فإن قصة الفساد والجريمة المنظمة في إسرائيل تكاد أن تكون صفقة شاملة ناجمة عن خصخصة أملاك الدولة والخدمات الاجتماعية. ويُطرح السؤال: كيف يؤثر مستوى الفساد السلطوي على صناعة القرار الإسرائيلي؟

 

قد يكون من المبكر الإجابة عن هذا السؤال، علماً أن كثيرين يعتقدون أنه يؤثر فعلاً في اتخاذ القرارات. وهناك ادعاءات بأن أولمرت (المشتبه بارتكاب عدد من مخالفات الفساد السلطوية) اتخذ قرارات مهمة بتأثير أعمال فساد منسوبة إليه. وهي تضاف  إلى ادعاءات أخرى بأن (رئيس الحكومة الإسرائيلية السابقة) أرييل شارون نفذ الانسحاب من غزة بسبب التحقيقات ضده في شبهات فساد. وحتى لو افترضنا أن التبعات السلطوية وعملية اتخاذ القرارات على المستوى الإستراتيجي لا تتأثر به إلى حدّ كبير، إلا أن الفساد قد يؤثر في اتخاذ قرارات في مستوى متدن (مثل تمويل مصنع أو بيع أسهم شركة حكومية وما شابه ذلك).

 

أما واقع أن الغالبية الساحقة من الإسرائيليين تعتقد أن مؤسسات الحكم في إسرائيل، أي الحكومة والكنيست والأحزاب، هي بؤر فساد، فهذا يعني أن غالبية الإسرائيليين تعيش في مجتمع فاقد الثقة بهذه المؤسسات. ولا بُدّ من أن يكون هناك فقدان للثقة، لأن أجهزة الدولة تخرج من حياة هؤلاء رويداً رويداً في سياق عملية الخصخصة.