خبر اشارة طريق، حركة..هآرتس

الساعة 09:08 ص|03 يوليو 2009

بقلم: جدعون ليفي

في يوم الاحد من هذا الاسبوع عصفت الخواطر لدى ابناء عائلة ضراغمة. في ساعة ظهر حارة وصلت اليهم سيارتا جيب، واحدة للجيش الاسرائيلي والثانية للادارة المدنية وخرج منهما عدة ضباط ابلغوا ابناء العائلة بانه بمناسبة مناورة للجيش الاسرائيلي ستجرى في المنطقة، فان عليهم أن يخلوا بعد بضع ساعات بيتهم وعدم العودة اليه الا في الغداة. وسرعان ما تبين أن نحو 40 عائلة اخرى تلقت بلاغا مشابها، ولكنه لم يصدر لاي من سكان المستوطنات المجاورة أي بلاغ كهذا.

ومجرب للاخلاءات واعمال الهدم، الراعي قاسم ضراغمة كان رغم ذلك قلقا. الى اين سيأخذ زوجته، اربعة ابنائه وعشرات احفاده، وبالاساس 120 خروفا ومعزة لديه، مصدر رزقه الوحيد. الحيوانات المفترسة تتجول في الصحراء وسيتعين عليه أن يبقى صاحيا كل الليل كي يحافظ على ملكه.

نحو 500 نسمة يعيشون في النطاق القريب من بيته وهم ايضا تلقوا امر الطرد المؤقت. بل ان احد ما طرح التخوف في أنه ربما حقا يدور الحديث عن مناورة، وليس بالذات عسكرية: ربما عندما سيبلج الصباح، لن يسمحوا لهم بالعودة الى ديارهم واراضيهم. إذ هكذا حصل في عشرات القرى الفلسطينية في 1948، حيث أن قسما من سكان المنطقة هم لاجئيها. وانظروا العجب: "قبل المساء الغي القضاء. تدخل نشطاء منظمات "بتسيلم"، "محسوم ووتش"، "اكتبسلس"، عدميون ضد الجدار" ومكتب تنسيق الشؤون الانسانية للامم المتحدة (اوتشا) ادى الى الغاء الشر. الادارة المدنية شرحت في الغداة ان بالاجمال كان هذا خطأ مؤسفا. أخطأ، مخطئون، خطأ. عائلة ضراغمة بقيت للمبيت في بيتها.

بيت؟ حسنا، كلمة. صحيح أنهم رعاة القطعان الوحيدون في كل أرجاء الغور المحتل ممن يسكنون في بيت من الحجر، ولكن الحديث يدور عن خربة. حمام المليح، بقايا خان تركي، استراحة طرق على شفا ينابيع، كانت ذات مرة تعطي مياها معدنية دافئة ولكنها جفت منذ زمن بعيد.

منذ نحو عقد من الزمان تسكن هنا عائلة ضراغمة، في بيت حجري مع بقايا الشرفات المزركشة، وبضعة اشجار النخيل في المقدمة، اطلال ايام اكثر جمالا. كل شيء ملك الكنيسة الكاثوليكية التي لم تعد منذ زمن بعيد تجبي بدل ايجار. وداخل الغرف الواسعة لا يوجد شيء. سوى كوم من الفرشات التي تبسط في الليل على الارضية الاسمنتية المكشوفة ولا حصر للذباب المزعج. لا توجد مياه متدفقة ولا توجد كهرباء.

حمار يتسلق عند الظهيرة الدرجات المؤدية الى الساحة، يبحث بيأس عن بقعة ظل. حار في الغور. ويكاد يكون لكل عائلة رعاة تعيش فيه، بعضها منذ اجيال، سلم أمر اخلاء أو أمر هدم. "اخلاء البؤر الاستيطانية" هذا مستمر منذ سنوات، ولكن الان يخيل أن اسرائيل زادت مستوى الغيار، وليذهب الى الجحيم "النمو الطبيعي". ايهود باراك يروي في واشنطن عن التسهيلات للفلسطينيين، ولكن هنا اليد قاسية ووحشية اكثر من أي وقت مضى.

بعد ان كانت اسرائيل قبل بضع سنوات قد حفرت شبكة من القنوات بين طرق الغور وبين سكن الرعاة لمنعهم بفظاظة من الصعود الى طرق الفصل هذه، في الاسبوعين الاخيرين نصب الجيش الاسرائيلي عشرات عديدة من المكعبات الاسمنتية على جانب طريق الون الذي يهبط من ظهر الجبل الى المكان الادنى في العالم، وعليها التحذير: "خطر. منطقة نار. الدخول محظور. هذه المكعبات نثرت عند مدخل كل درب ترابي ناءٍ يؤدي الى مئات الخيام، منازل نحو 15 الف راعي ضان وابناء عائلاتهم.  والى جانب قيادة لواء كفير يمكن للمرء أن يلاحظ هذا الاسبوع عشرات المكعبات الاخرى التي لم توزع بعد. زمنها لا بد سيأتي.

يواصل الرعاة حاليا حياتهم كالمعتاد خلف يافطات التحذير – منطقة نار او غير منطقة نار، هذه اراضيهم. بعضها اراضي خاصة. بعضها اراضي سكان طوباس وطمون، والتي يفلحونها منذ سنين. في كل الاحوال، هذه حياتهم هنا. ليس لهم الى اين يذهبون. فهل تقصد اسرائيل سد كل الدروب الترابية وخنقهم نهائيا؟ هل هي تقصد اخلاء هؤلاء الناس من منازلهم وخيامهم؟ هل يدور الحديث عن خطة تطهير عرقي قبيل المداولات على مستقبل الغور؟

المشهد تاريخي. بضعة اكواخ من الطين مهجورة تمنحه بعدا افريقيا، على مسافة ساعة ونصف عن تل ابيب، عشر دقائق عن معاليه افرايم. وبين الحين والاخر ينتهك المشهد الصحراوي ببقع من الخضرة. برك اسماك في مستوطنة روعي، اشجار عنب نامية في بكعوت، دفيئات في مخورة – ولسكان الغور الاصليين لا يوجد مياه. ولا حتى نقطة. لا أحد من هؤلاء الرعاة مربوط بشبكة المياه، اما عن الكهرباء فلا مجال لاي حديث.

ملح الارض

هوه، مخورة، ماذا يفكر مستوطنو الغور، اولئك الذين على مدى السنين علمونا الا نسميهم هكذا، لا سمح الله – إذ انهم ليسوا "مستوطنين" بل متوطنين، كيبوتسيين وموشافيين اخيار، ملح الارض لحركة العمل، يختلفون جدا عن رجال غوش ايمونيم المنكرين – ماذا يفكرون عند الخروج من المستوطنات الخضراء والمسيجة الخاصة بهم – اسيجة، بوابات حديدية وشبكات الكترونية حول كل مستوطنة – وينظرون الى المحيط؟ هل يرون على الاطلاق كيف يعيش جيرانهم، الذين هم احيانا عمالهم وخدمتهم؟ هل لاحظ ذات مرة سكان روعي كي يعيش مثلا، جارهم خلف السياج، الراعي عبدالرحيم بشارات؟

هو ابن 59، متزوج من ثلاث نساء واب لـ 27 ولدا. هو وأبويه ولدوا هنا في هذه الارض، قبل وقت طويل من اقامة روعي. عائلته حبيسة، عطشة وفقيرة، ومثلها نحو 180 نسمة آخرين في نطاق الخيام الصحراوي هذا، الحديدية اسمه. ثلاث مرات في الاسبوع فقط، في ايام الاحد، الثلاثاء والخميس ساعة في الصباح وساعة بعد الظهيرة، يحسن الجيش الاسرائيلي خيرا إذ يفتح البوابة الحديدية التي تمنعهم من العبور الى بلدة طوباس، مصدر حياتهم.

منذ 2002 اخلوهم من اراضيهم أربع مرات، في ظل هدم أملاكهم الهزيلة. وكل مرة نزحوا الى مكان آخر. في الاخلاء السابق في 2007، ولدت ابنة شيخوخة له: صمود اسماها. في الشهر الماضي تلقى امر الهدم الاخير. قيل فيه ان المباني غير قانونية، ولكن لا يوجد هنا أي مبنى، باستثناء اعمدة الحديد التي ربط اليها اكياس فارغة من انتاج اوغندا، كي تصبح لهم مأوى. هذه "خطة اوغندا" خاصته: الالتصاق بالارض.

"هل هذا مبنى ينبغي طلب الاذن له؟ في كل العالم ينبغي طلب إذن للبناء، وليس لاكياس تطير عند اول ريح"، يتأوه، ويشعل سيجارة اخرى، وجهه محروق وبقايا اسنانه سوداء. نحن نجلس في ظل الاكياس ونشرب التبوزينا. بسبب البوابة المغلقة لا يمكن للاولاد ان يصلوا بالسيارة الى مدارسهم، التي توجد على مسافة كيلو مترات عديدة من هنا. وعليه ففي فترة التعليم يعيشون في شقة مأجورة في طوباس مع امهاتهم، بعيدا عن الرجال الذين يبقون هنا مع القطيع. الماء يجلبونه من مسافة 32 كم بالناقلات المربوطة الى التراكتورات. وهذا ايضا فقط عندما تكون البوابة مفتوحة.

تك، تك تنطلق اصوات المنهلة. الى جانب خيام بشارات، على مسافة لمسة، تقف مسيجة بئر حديثة، خط مياه واسع يخرج منها. هذه هي مياه المستوطنات. متدفقة، حلوة، مياه الحياة. سقاية المستوطنين لحقولهم، بركهم، اسماكهم وحدائقهم. غير مرة استجدى بشارات ان يسمحوا له الارتباط بخط المياه هذا، مقابل الدفع بالطبع، كي يكون لعائلته ولقطيعه ماء، ورفض طلبه.

لا يوجد مكان فيه الظلم كاسح اكثر مما امام بئر المياه هذا الخاص بروعي؛ لا يوجد مكان فيه التفرقة العنصرية اكثر فظاظة. "انابيبهم تمر في حقولنا"، يقول بشارات. "نحن يمكننا ان نسمع صوت المياه والمناهل، ولا نتلقى قطرة. انا لست سياسيا. انا راعي غنم، ولكن السياسيين يقولون انه حسب اوسلو هذه منطقة ج. وعليه، فينبغي لاسرائيل ان توفر هنا المياه، الكهرباء، الصحة والتعليم. لماذا نحن لسنا جديرين بمياه الشرب؟ احيانا انبوب المستوطنين ينفجر وتتناثر الماء. 5 في المائة من المياه المتناثرة يمكنها أن تكفينا لسنة. نحن نعمل في مستوطنات، وهناك يعاملوننا على نحو جميل ولكن اذا ما اقتربنا مع القطيع من سياجهم، فانهم يهاجموننا ويهاجمون القطيع".

في الاسابيع الاخيرة وزع في ارجاء الغور 32 أمر اخلاء آخر لـ 300 نسمة. فتحي خضيرات، منسق منظمة "تضامن غور الاردن"، يقول ان مؤخرا احتدمت جدا سياسة اسرائيل. منذ كانون الثاني 2006 والغور معزول عن باقي مناطق الاحتلال في الضفة والدخول اليه لا يسمح الا للسكان المسجلين في المنطقة. وحتى اصحاب الاراضي، ممن لا يسكنون هنا على نحو دائم لا يمكنهم الوصول الى اراضيهم. الفلاحون يجدون صعوبة في اخراج منتجاتهم والاف الدونمات اغلقت كمناطق نار (تدريب عسكري). عشرات المكعبات الاسمنتية الجديدة التي نشرت في الاسابيع الاخيرة تبشر بالشر. خضيرات مقتنع بانه في اعقاب المكعبات ستأتي الحواجز التي ستمنع تماما الدخول والخروج من الخيام وهو يقول ان سياسة اسرائيل هي جمع كل رعاة الغنم في خمس قرى غير أن الاكتظاظ في تلك القرى لا يطاق منذ اليوم.

منذ 1967 لم تسمح اسرائيل هناك ببناء حتى ولو بيت جديد واحد. في البردلة مثلا، القرية الاكبر بين الخمس قرى، يعيش اليوم 2.300 نسمة على مساحة 500 دونم. في الزبيدات، قرب مستوطنة ارغمان، طلب مؤخرا السكان بناء ملعب لخمسمائة ولد في القرية ومنعتهم اسرائيل من ذلك. في هذه القرى لا مكان للاجئين الجدد، وفي كل الاحوال طرد رعاة الغنم من اراضيهم سيقضي الى الابد على مصدر رزقهم الوحيد.

خضيرات مقتنع بانه خلف الاخلاءات تقف خطة اسرائيلية سياسية طموحة "لتطهير" الغور وهو نحو ثلث مساحة الضفة الغربية، حيث يعيش نحو 56 الف فلسطيني. هذا اسهل بكثير من اخلاء بؤرة استيطانية يهودية واحدة.

اليافطات سرقت

الناطق بلسان الادارة المدنية غاي عنبر، افاد "هآرتس" هذا الاسبوع بان كل شيء ينبع من الحرص على مصلحة السكان: "في مناطق غور الاردن توجد منذ فترة طويلة ظاهرة اقامة خيام غير قانونية داخل مناطق التدريب بالنار. في مناطق التدريب بالنار هذه لا توجد مناطق سكن محددة وكل ظاهرة من هذا النوع هي غير قانونية وخطيرة. في ضوء هذا قررت الادارة المدنية ان تخلي قبل بضعة اسابيع خياما غير قانونية في منطقة غور الاردن، للحفاظ على حياة العائلات المتواجدة بشكل غير قانوني وبصفتها الهيئة المسؤولة عن فرض قوانين البناء في يهودا والسامرة".

بالنسبة لرفع اوامر الاخلاء يوم الاحد، سعت الادارة المدنية الى التشديد على ان الامر "جرى على سبيل الخطأ. مع تبين الخطأ سلمت العائلات بلاغا بالغاء اوامر الاخلاء. والموضوع سيحقق فيه رئيس الادارة المدنية العميد يوآف فولي مردخاي، الذي يرى بعين الخطورة الشديدة تسليم اوامر الاخلاء والضر الذي لحق جراء ذلك بالعائلات.

وجاء عن الناطق العسكري بان "هذه مناطق تشكل مناطق تدريب على النار معروفة، غير مخصصة للسكن وكانت هناك يافطات تحذير في الماضي حولها. وعلى مدى السنين سرقت اليافطات وبقيت مناطق التدريب دون يافطات، بحيث أن المنطقة بقيت فالتة امام دخول المدنيين بشكل يعرضهم للخطر. في اعقاب ذلك نصب الجيش الاسرائيلي في الاسابيع الاخيرة على طول طريق الون عشرات المكعبات الاسمنتية التي تظهر عليها التحذيرات بان هذه منطقة تدريب بالنار".

حظائر الغنم البائسة لابناء عائلة ارحيل، 30 نسمة، هدمها الجيش الاسرائيلي قبل نحو اسبوعين وتتناثر بقاياها على الارض الصفراء. عائلة ضراغمة، ليست تلك التي من حمام المليح، تسكن حقا خلف مكعبات الاسمنت الجديدة لمناطق التدريب التي نصبت في مدخل خيمتها، امام مستوطنة مشخيوت. يوجد نبع عتيق في السهل خلف الطريق، ولكن كلما حاول ابناء العائلة الاقتراب منه، يأتي مستوطنو مشخيوت، يركبون تراكتوراتهم ويطردونهم من هناك بالقوة. هذا لهم، فقط لهم، غور الاردن الى الابد.