خبر كتب الصحفي مروان الغول: الكعب العالي

الساعة 12:48 م|30 يونيو 2009

الكعب العالي

مروان الغول

كانوا ستين شخصا والبعض قال سبعين أو يزيد والله اعلم كم كنا عددا عندما تحركت الحافلة رقم 4 بنا من أمام ملعب اليرموك بغزه باتجاه معبر رفح في الطريق إلى أرض الكنانة أو عبرها .

عبرانيون جدد  قبل الوصول إلى أرض التيه.  كل له حكاية ورواية وربما قدر  يتربص بكل واحد من أهل الحافلة.

كانت الشمس قبل المغيب بقليل حين حطت الحافلة بركابها على بوابة التيه ، تنهد الجميع الصعداء بعد أن أفاقوا من رحلة يوم كامل لبضعة كيلو مترات من السفر هي المسافة بين وسط مدينة غزه وبوابة المجد المزعوم.

تجمع الركاب في حلقات حول الحافلة رجال ونساء وأطفالهن وبدا على وجوه الجميع علامات الإرهاق والتعب وابتسامات شاردة علت وجه الجميع ، ابتسامات لا تخلو من علامات الرضا والشكوى في آن واحد والعيون لا تخفى عنك السؤال الصعب : ثم ماذا ؟ هل سنتمكن من المسير ؟ هل سنلقى الأحبة أم سنعود بخفي حنين؟ ألف سؤال وسؤال ، و أسلم الجميع أقدارهم في يد المجهول والمعلوم.

والمعلوم لدينا أن كرامتنا اغتصبت ، وإنسانيتنا انتهكت ،باسم الشعب تارة وباسم الدين تارة أخرى وأن أطفالنا حرموا من أبسط  حقوقهم في العيش بطفولة وان نسائنا اضطررن لقضاء حاجاتهن في أماكن لا تليق ببشر سوى مزيد من  زجاجات  ماء وزعها علينا قائد الحافلة بغزارة حرصا منه على طهارتهن.

لا بأس بنقص من طعام  ولا بأس بشئ من خوف  في سبيل الوصول ،  افترش سبعتنا الأرض خمسة صحفيين وامرأتين ، أحداهما زوجة إعلامي معروف وأخرى تعمل في مؤسسة للدفاع عن حقوق المرأة وذهب احدنا لشراء بعضا من قوت يقينا شر الجوع استعدادا لبضعة أمتار أخرى لكن سرعان ما اكتشف أمره فعليه أن يضع جواز سفره رهنا في يد الحارس خشية أن يتسرب أحد علينا بنية السفر معنا فالسفر هنا معدود ومحسوب بعناية فائقة ولا أحد يقترب منا ولا نقترب من أحد .

كذلك النسوة والأطفال افترش الجميع الأرض وأصابوا شئ من طعام  وقسطا من راحة.... وخيم الهدوء  بعد أن عم الظلام المكان وأذن لصلاة العشاء ،  ونام الأطفال دون فراش ودون أحلام ودون سماع عويل نسوة لا ينقطع ..... وأزيز صمت رجال لا يسمع . ...

 

أفاق الجميع  وجاء الزملاء السبعة على عجل وأعلنت حالة الاستنفار المسلحة من حولنا  حين أطلقت أحد النسوة زغرودة مصرية معلنة للجميع عبور الحافلة رقم 3 نحو الجانب المصري وأن دورنا في العبور بات ( قاب بوابتين  أو أكثر) ....وتورط أحدهم في إفاقة قائد الحافلة من نوم عميق كي يواصل المسير ولم يشفع له إلا توسلات بعض النسوة بالعفو عنه و وضحكات الزملاء السبعة ، فقد كان القائد ينظر إلينا بصفتنا النخبة في هذا المجتمع لكنه رمقنا بشئ من استغباء وصعد الحافلة شبه مكره ربما لعلمه أكثر منا بأن الحافلة  لن تمر وأن صبرنا ليس أكثر من فرض عين واجبه وليس علينا من واجب سوى الطاعة ولم تمض سوى دقائق معدودة ونحن بين الفرح والقهر بين الترقب والانتظار وبين السؤال الكبير والصغير هل سنعبر أم لا ؟ وبين هذا وذاك انفرط سبعتنا ضحكا ، ربما أصابتنا حالة من هستيريا القلق المفرط. وعلا صوتنا ضحكا أكثر وأكثر الا أن جاء سائق دراجة نارية ملتحي ليخبرنا بضرورة انتظار أكثر ربما يسمح لنا بالدخول في محاولة أخرى لا ندرى إن كانت محاولة استراتيجية أم تكتيكية لابتزاز إنساني  آخر للجانب الآخر في البوابة الأخرى من المعبر الآخر فربما يسمحون بمرور المزيد .

فكرة الابتزاز الإنساني ومشاهدتنا لأحد الرجال وهو ينسي أو يتناسى ما حوله ويقوم باحتضان زوجته في مثل تلك الظروف وهي تغدق عليه بحنان مفقود أثار الضحكات والتندر  لدينا  وهو المسكين لا ينقطع عن مراضاتها بكل الوسائل خوفا عليها من مشقة السفر.

 

ظنا منها بوقوع مكروه لها قامت زميلتنا الفاضلة بالتوجه نحو السيدة  في محاولة لإقناعها بقبول مراضاة الزوج  لها لكنها سرعان ما عادت على عجل لتخبرنا أن السيدة تبكي وتنتحب وأن السيدة المكلومة تلعن هذا اليوم الذي انتعلت فيه الكعب العالي الذي كان سببا في مزيد من الإرهاق لها.

 

هذا الموقف أثار الفضول والضحك لدينا وقام زميل على عجل بالتقاط بعض الصور لنا ونحن نفترش الأرض ونضحك ونضحك ربما في محاولة منا للهروب نحو البكاء. فيما قام زميل آخر بكتابة مقالة قصيرة اسماها (البيبي) ربما تصلح لا حقا لأن تصبح رواية عظيمة إذا أجاد فن الكتابة  في وقت  يصبح فيه الصمت ضرورة غير مأمونة العواقب عند قائد الحافلة الذي عاد إلينا قبيل منتصف الليل بقليل ليخبرنا بضرورة العودة مرة أخرى من حيث أتينا وأن المعبر مغلق حتى إشعار آخر.  

 

مروان الغول

معبر رفح البري

29/6/2009