خبر حماس وحل الدولتين: التكتيك الإستراتيجي! ..علي بدوان

الساعة 08:39 ص|28 يونيو 2009

ـ النهار اللبنانية 28/6/2009

جاءت التصريحات التي أدلى بها رئيس المكتب السياسي لحركة "حماس" خالد مشعل لصحيفة "نيويورك تايمز" والتي قال فيها إن حركة "حماس" "أوقفت صواريخها على الدولة العبرية، وتسعى إلى هدنة طويلة معها، وأن "حماس" "ستدعم الحل القائم على دولتين على حدود العام 1967"، لتثير مناخات من النقاشات العديدة داخل الأوساط السياسية الفلسطينية والعربية. ومع أن مصادر حركة "حماس" نفت النص الذي أوردته الصحيفة إياها، واعتبرته نصاً غير مهني بالمعنى الصحافي والإعلامي، جرى تأويله واللعب بكلماته، لكن مع هذا من المفيد التطرق للنقاشات التي أثارها التصريح في الأوساط الفلسطينية المختلفة. فردود الفعل والتعليقات المتوالية التي استدرجتها تصريحات خالد مشعل تعكس جملة من الملاحظات الجوهرية المتعلقة ليس بحركة "حماس" فقط، وإنما بمسار العمل الفلسطيني برمته.

انطلق البعض في تفسير التصريحات بطريقة سطحية، ساذجة، غير متصلة بالسياقات التي تطورت فيها مواقف "حماس" السياسية لجهة خطابها السياسي الموجه للعالم، وادائها في هذا الميدان. فاعتبرت التصريحات المشار إليها بمثابة إعلان صريح من "حماس" عن مغادرتها "مشروع فلسطين التاريخية"، في خطوة تلخص المستجد في رؤيتها للحل التاريخي للصراع في فلسطين: دولة واحدة أم دولتان؟ دولة ديموقراطية أم دولة إسلامية؟ دولة بينيلوكس إقليمية مع الجوار، أم دولة بقوميتين، أم ماذا؟ بينما اتجه آخرون لقراءتها بطريقة مغايرة، مفادها أن "حماس" باتت تعاني من وطأة الحصار على قطاع غزة وتكاليفه الباهظة، إضافة لوقوعها تحت ضغط المحاور الإقليمية التي تألف الضغط على الحالة الفلسطينية الرسمية وغير الرسمية في ظل معطيات إقليمية بالغة التعقيد مع صعود اليمين الإسرائيلي من جانب، وسعي الإدارة الأميركية الجديدة لإحداث اختراق جوهري ونوعي في العملية السياسية التسووية في الشرق الأوسط من جانب آخر. بل وحذا البعض للقول بأن الملف الإيراني والتجاذبات الحاصلة بشأنه (من زاوية التهدئة الأميركية) غير بعيدة في تأثيراتها على مواقف "حماس".

وهنا من الصحيح القول إن التصريحات المشار إليها تضمنت بالفعل رؤية سياسية تكتيكية لحركة "حماس" لمسار الصراع مع الاحتلال الكولونيالي الصهيوني، وسعيها لإحداث اشتقاقات سياسية وتكتيكية لمسار التفاعل مع الحدث انطلاقاً من إدراكها خصوصيات الصراع الذي يخوضه الشعب الفلسطيني ضد احتلال "توسعي إحلالي إجلائي".

 وعليه، فهناك من نظر إلى تصريحات خالد مشعل، بإيجابية، وتفاعل معها باعتبارها اشتقاقاً متقدماً لـ"حماس" في تقديم رؤية قائمة على مبادئ إنسانية وقيم عميقة تعيد تكريس عدالة القضية والحقوق الفلسطينية بنوع من الإبداع الذي يوفر على الفلسطينيين حرج الشعارات الكبرى في عالم يغص بفقدان "القيم والأخلاق، وتعدد المعايير والمكاييل" لمصلحة رؤية تكتيكية تقفز عن النصوص الصادمة، وتتمتع بدينامية حية، بحيث تكون رافعة لمشروعهم الوطني للتحرير وليست عبئاً عليه. ويقدم أصحاب الرؤية إياها مقاربة بين ميثاق "حماس" الذي كتب بدايات قيامها في آب 1988، ونصوص لاحقة جديدة، آخرها البرنامج الانتخابي لحركة "حماس" الذي قدمته الحركة لانتخابات المجلس التشريعي، ووثيقة الوفاق الوطني، حيث نقف عملياً أمام نصوص يصعب القول إنها نسخة عن ميثاق 1988. بل يعزز أصحاب الرؤية ذاتها تقديراتهم مدعمة بمشاركة "حماس" في الانتخابات التشريعية كدلالة على انعطاف ايجابي وتحول بارز في مسار الحركة الإسلامية في فلسطين، والتي تشكل "حماس" عمادها الرئيسي. فالمشاركة في العملية الانتخابية شكل نقطة تحول سياسية بالدرجة الأولى، عبرت عن المزاوجة بين الإيديولوجي والسياسي، كما عبّرت المشاركة ذاتها عن البراغماتية التي باتت سمة من سمات الإسلام السياسي الفلسطيني بعد تجربة مديدة من العمل في قلب المتغيرات والتطورات التي عصفت بالمنطقة.

وعلى كل حال، إن حجم ردود الفعل يبرز بشكل واضح، إدراك أصحاب التعليقات أن السجال حول رؤية "حماس" ومواقفها السياسية والعملية ليس سجالاً حصرياً خاصا بحركة "حماس"، بل صار هماً فلسطينياً عاماً من المطلوب مناقشته والخوض فيه، خصوصاً بعد ارتقاء "حماس" في الانتخابات التشريعية وحيازتها غالبية مقاعد المجلس بعد أن كانت في السابق جالسة على مقاعد المعارضة دون أن تحترق أصابعها بنيران السلطة باستحقاقاتها ومثالبها في عالم يموج بالمتغيرات.

ومن هنا، فالقراءة السطحية عند البعض تنطلق من "دوغمائية" تقدس النصوص المقتطعة من بين الأدبيات السياسية، وهي أي "الدوغمائية" ميّزت عادة الحالة السياسية الفلسطينية من أقصاها إلى أقصاها في سياقات "الردح" السياسي الإعلامي بين مختلف الفرقاء في الساحة الفلسطينية طوال السنوات التي انقضت من عمر الثورة الفلسطينية المعاصرة. فهي قراءة تراوح نظرتها عند ميثاق حركة "حماس" التأسيس (1988) كما يراها أساطين الغرب في موقفهم البعيد عن التوازن بالنسبة لعموم المقاومة الفلسطينية. ففي معظم السياقات الراهنة التي تناقش فيها أفكار وسياسة وإيديولوجيا حركة "حماس" في المنتديات السياسية والأكاديمية والإعلامية في الغرب، بخاصة بعد فوزها بالانتخابات التشريعية للضفة الغربية وقطاع غزة، تطرح اقتباسات من ميثاق "حماس" يسلط الضوء عليها ويستخلص منها دعوات استئصالية وعدائية تكاد تحصر معركة الفلسطينيين من أجل تحرير أرضهم في قالب ديني معاد أصله وجذره وهدفه محاربة اليهود كيهود، وليست حول واقع دموي واحتلالي على الأرض.

ومع هذا وذاك، وفي العودة الى تصريحات مشعل، من المهم القول إن مسألة قبول حركة "حماس" بمنطق الحلول التكتيكية المرحلية (تحت عنوان حل الدولتين) ليس بجديد الآن من الزاوية العملية، فقد تكرر ومنذ سنوات العديد من التصريحات التي انطلقت على لسان أكثر من قيادي في "حماس"، وفيها مايشير للقبول بمبدأ المرحلية في العمل الوطني لمصلحة برنامج وطني متكامل يضع في الاعتبار السير في اتجاه تحقيق الحل التاريخي العادل للقضية الوطنية للشعب الفلسطيني، انطلاقاً من حقة التاريخي على أرض فلسطين الكاملة من البحر إلى النهر.

ولكن، وحتى لانتعجل في اصدار الأحكام التعسفية بشأن تصريحات مشعل، لنتساءل عن "حل الدولتين" المطروح الآن؟ فكل ما تقدمه الخريطة السياسية الاسرائيلية للفلسطينيين لا يعدو "كياناً أوسع من حكم ذاتي بقليل وأدنى بكثير من دولة مستقلة" وهو ما يتسلح به نتنياهو اليوم أكثر مما مضى حتى وهو قابع في البيت الأبيض إلى جانب الرئيس باراك اوباما في زيارته الأخيرة.

وانطلاقاً من النقد البنّاء والموضوعي، إن "حماس" مطالبة بضرورة أخذ الوقائع في اشتقاقاتها التكتيكية والبرنامجية والسياسية المقبلة، وتطوير خطابها السياسي والبرنامجي، بما في ذلك تجنب الاصطدام بالجدار الدولي، كما تدفع بذلك الولايات المتحدة ودولة الاحتلال الصهيوني. فالجهود الرسمية الإسرائيلية مضافاً إليها ضغوطات وتشويهات اللوبيات الصهيونية في العالم كانت وما زالت تصور  "حماس"، والفلسطينيين من ورائها، وكأنهم "ذئاب" على أهبة افتراس إسرائيل "البريئة". والزاد الذي يُستخدم في تلك السياقات عبر المناخات التي خلقتها إسرائيل والولايات المتحدة من خلال الحديث عن "الاسلاموفوبيا" ومنظمات الإرهاب، وهي مناخات تتجنب الإشارة إلى واقع دموي واحتلالي على الأرض الفلسطينية، واقع غياب العدالة والتوحش الإسرائيلي. وهذه المناخات والنقاشات التي تديرها هناك في الغرب الولايات المتحدة واللوبيات اليهودية الصهيونية لا تظلم "حماس" فقط بل كل القوى الفلسطينية والمشروع الوطني التحرري للشعب الفلسطيني.

كتب هذا النص قبل خطاب خالد مشعل الأخير في دمشق الخميس المنصرم