خبر نهر الحياة لا يُحكم ولا يُلجم..علي عقلة عرسان

الساعة 07:27 ص|26 يونيو 2009

 

نهر الحياة لا يُحكم ولا يُلجم..

علي عقلة عرسان

 

الحياة نهر عظيم، تيَّاره جارف يتحدى السدود والقيود، ولا تتسع قدرة بشرية على استيعاب ما فيه من تنوع وألوان، وما لـه من خصوصيات وأبعاد وأغوار، ومن يزعم أنه قادر على استيعاب ما يحمله ذلك النهر العظيم من تنوع وتفاصيل ومعطيات ظاهرة وخفية، ومن ثم على وضع نظام شامل له ولما يحتوي عليه، يضبط الحياة ويحكمها ويصلحها ويكون مناسباً لكل ألوان الطيف وكل البشر وكل الأوضاع فيها، ومن ثم يقنن كل ما يمكن أن تزخر به من قدرة على الإبداع ورغبة مستمرة في التغيير، مؤكداً أن ما يضعه، فيه ضمان الراحة والسعادة للناس كافة، حسب زعمه أو رؤيته.. من يزعم ذلك يعش وهماً ويبالغ في ادعاء الوهم ونشره، وربما كان أحد أسوأ نماذج الحمقى في التاريخ ممن يغتر بهم العقلاء فضلاً عن الجهلاء، وينتُج عن تفكيرهم وتنظيرهم ذاك أخطاء وشرور وجرائم ودمار وموت في حالات كثيرة، تجعل نهر الحياة المتدفق أبداً مشوباً بعروق الدم البشري وبأشكال المعاناة وموت الأرواح ودمار البيئة، مما ينعكس موتاً في مجرى النهر.. مجرى الحياة.. بما في ذلك أهم مقوماتها.. العدل والحرية والمساواة والأمن من جوع وخوف. ‏

ذلك لأن الحياة أغنى وأعظم وأقوى من أن تُلجَم بلجام عقل بشر أو تُفرَض عليها إرادة بشر، والحياة التي تضم القدرات الإبداعية لكل المخلوقات، وتحركها الإرادة الكبرى التي تكمن وراء الخلق وطاقة الحياة المتجددة في كل المخلوقات، أكبر وأقوى من كل العقول والإرادات. ويكتسح نهرها السدود في ساعات صحو وساعات غفلة من أولئك الذين يزعمون أنهم يضبطونها تماماً، فكيف لمخلوق أن يضع ذلك الوهم كله في قبضته ويدعي السيطرة على الحياة انطلاقاً من ادعاء بفهم أرقى لها مما لا يمكن أن يملكه سواه، ويقول بخدمة مصلحة الخلق كلهم بما هو أفضل مما يستطيع الخلق كلهم.. وفي الحياة خلق يفهمون مصلحتهم بصورة أفضل بكثير ممن يدعون تدبير شؤون الخلق من وراء ستار من الوهم الكاذب بادعاء بعبقرية منفلتة من نهري الزمن والحياة!؟ وكيف يجعل لحياتهم نظاماً هو الأول والأخير، ولا يأتيه الباطل من أي من خلايا الدائرة المحيطة به، وهو جزيء لا يكاد يُرى في الطبيعة ذات النظام الأعلى والأرسخ في الحياة؟! أزعم أنه لا يقدم على هذا الادعاء إلا حمقى الناس، ولا يتبعهم بتعصب عُصابي أعمى إلا من هو أشد حمقاً من كل المخلوقات.. وما أكثر أولئك فيما شاهدت وسمعت وقرأت.!!‏

ما من شك في أن كل نظام بشري يشوبه القصور لأنه منتَج عقل بشري لا يتمتع بالكمال المطلق، وكل مصلح اجتماعي جدير بهذا الاسم يعرف هذا و يراجع نفسه ونظريته، ويفسح في المجال أمام هذه المراجعة وأمام سبل مراجعة التطبيق والتراجع عنه عند إفلاسه، أخذا بنظام المعرفة وتطبيقاته، وهو يستشعر الخطأ وينبه إلى قدرة العلم والخلق على تجاوز الخطأ بالعلم والإبداع وبالاستنتاج مما يركمه علم البشر جيلاً بعد جيل وما تقدمها الطبيعة دليلاً بعد دليل. وهذا ينطبق على الجميع إلا الحمقى من المنظرين وأتباعهم الذين يزعمون أنهم احتكروا العلم وركزوا كل مستقبله ومكتشفاته المستقبلية في نظراتهم أو نظرياتهم، وأنهم احتكروا العصمة والمعرفة والوعي والمهارة، وفصَّلوا للناس والحياة نظرية "ثوباً أبدياً" ذا قماش لا يبلى وطراز لا يقدم؟! وكم من النظريات تجاوزها العلم والزمن وعُدلت أو ثبت بطلانها.. وعلى الرغم من ذلك ما زال هناك في سفح جبل، كان عامراً بالخضرة، قبل أن تدخل إليه قطعان ماعز تأكل الأخضر واليابس والأشجار الحرجية والمثمرة، وتثغوا بأنها الصالح الأصلح من أتباع الصالح المصلح ابن الصالح المصلح الذي لا تشوب وراثته عن منظِّره القدوة شائبة من الشوائب، وتدعوا وهي تقضم خضرة السفح الذي كان مخضراً حتى ساعة قدومها إليه، تدعوا إلى إصلاح الحياة على طريقتها، أي بتدميرها تماماً.. متشبثة بضيق أفق، وشهوة سطو وتسلّط وترهيب، وسعة ذمة وكرش، وقدرة على التشويش والتشويه والتزوير لا تُحد.‏

وعلينا ألا نستغرب، والحال هذه، بقاء نظريات ميتة من دون دفن تنشر ما تنشره الجيفة فتلوث فضاء الحياة، ومع ذلك يزعم أتباعها أنها دواء لكل داء، وهي في حقيقة الأمر الداء العضال وسبب كل علة، منذ ولَّدها ذلك العقل " العلمي المعصوم عن الخطأ؟" وتسربت من شقوقه في طقس صقيعي فوق جليد ذي طبقات يلف جغرافية الأرض والنفس والمحيط، فأخذت تسحّ مع حرارة الصراع والصدام الداميين اللذين يفتعلهما ويدعو إليهما ويمارسهما لكي يعم ويطم، ويصل "جمهورية واقعية!!" هي أعلى بدرجات في مثاليتها وطوباويتها من جمهورية أفلاطون الذي يأخذ عليه ذلك العقل " الواقعي" المآخذ المثالية؟! وبقيت تلك النظريات العصموية تسعى حتى وصلت إلى أقاصي الأرض حاملة معها سمومها "ترياقاً؟!"، وتدميرها لكل ما يحيط بها دعوة بناء، ورسمت هنا وهناك علامة مسجَّلة تشير إلى أنها موجودة تعمل وتصارع وتعيش وتجبر الخلق على أن يتصارعوا ويعيشوا وفق رؤيتها وقوانينها ومنظورها للحياة والأمور، ومن ثم الوصول إلى النتائج المرجوة من "الثورة" التي تكتب التاريخ بالدم وتزري بكل إصلاح ووسطية؟! وهي لا تكف عن القول بأنها تجُبّ كل ما سبقها من أيديولوجيات وعقائد وديانات ونظريات وشخصيات..إلخ، وأنها تَصلح للخلق في كل الأزمان وفي كل أنحاء الأرض، وتصلِح شأنهم، ولا يحتاجون إلا إلى العمل بها من دون سواها لكي يسود العالم سلام "ما بعده سلام"؟!. ويكاد يكون هذا شأن كل نظرية " ضيق أفق" يضعها هذا أو ذاك من السياسيين أو المفكرين المنظرين المأخوذين بعصموية فائقة إلى إرهاب فكري وسلطوي رهيب.. مع وجود استثناءات في هذا المجال تنحصر في ما تقره وتنشده عقول منفتحة على الآخرين والحياة والمعرفة والتغيير، تتعلق بالحقيقة وتخلص لها ولا تعرِّفها على أنها " ما يصب في مجرى منفعتها هي فقط"؟!.‏

إن الحياة أوسع بكثير من كل من ينظر إليها برؤية منفتحة وعقل علمي أصيل، وبصيرة نافذة، فكيف تكون يا ترى بعين من ينظر إليها بعقل عصفور يضيق بكل الطيور.؟

هناك أنهار عظمى في العالم تكونت على جوانبها حياة، وتمد الحياة والأحياء بالكثير من العطاء، لا يمكن وضعها في زجاجة لكي نتحكم بها وبعطائها، ومن هذه الأنهار نهر الـ " يانغ تسي" أو النهر الأصفر مثلاً، وهو من أعظم أنهار العالم يبلغ طوله 6300 كيلومتر وتبلغ مساحة حوضه مليون وثمانمئة ألف كم مربّع ويهب الكثير من الصينيين الذين يعيشون حول مجراه معظم مقومات الحياة، وحين يفيض يغرق الكثيرين منهم ويدمر بعض حوضه الذي كوَّنه، فهل يمكن وضع مثل ذلك النهر العظيم في زجاجة؟ ربما أمكن إقامة سدود تلجمه أو تخفف من أذى فيضانه لكن لا يمكن ضبطه كلياً.. فكيف بمن يريد أن يتعامل مع نهر الحياة العارم بروح متعالية فيحكمها ويتحكم بها بأفكار ثابتة تحرك سواعد بصورة عشوائية؟ وهل يمكن ضبط نهر الحياة بنظرية كما تضبط بعض الأنهار بالسدود؟! إن النظرية التي توضع لضبط نهر الحياة العارم، النهر البشري المتدفق في شرايين الوجود عبر امتداد المكان والزمان، تكاد تشبه محاولة وضع نهر "يانغ تسي" في زجاجة، وهذا لا يمكن أن يدوم بفرَض تحققه، فضلاً عن أنه لا يخدم الحياة في حال حدوثه بل يحد من تدفق الإبداع فيها ومن تجددها وتجديدها والإبداع فيها.‏

ومن ثم فلا يمكن أن يُقبل تفكير ينشُد وضع الحياة في " زجاجة.. نظرية" لا تقبل التجديد ويرتاح إلى إنجازه العظيم؟، هناك نظريات يزعم أتباعها بأنها "علمية" ولا يأتيها الباطل من أي طرف من الأطراف، مصبوبة مثل الرصاص في عقول مقولبة حسب الطلب وترمي إلى تفريخ أشخاص حسب الطلب، وأنها غير قابلة للمراجعة لأنها معصومة من الخطأ وثباتها أبدي..؟! وذاك ادعاء عصموي شديد، فنظرية من هذا النوع لا تأسن بركودها المديد، وتبقى صالحة للحياة ومصلِحة لها..؟! وذاك أمر عجيب. إن ذلك ادعاء لا يصمد للمنطق، ولم يصمد عند الاختبار، ولكن الصامد العجيب هو تحجر أتباعه في كهوف الفكر والمعرفة، وتشبثهم به جموداً في قالب، على الرغم من تجاوز الزمن له بكثير.. ولكن أهل الكهف والرقيم يبعثون بورقهم إلى السوق، وقد ناموا بظنهم يوماً أو بعض يوم. وهم يتشبثون بالماضي ويتعصبون له تعصباً مقيتاً، ينشرونه هنا وهناك في بلدان وأماكن لكي يحكموا بعض المواقع والسياسات والتطلعات، وهم في هذا يَفسُدون ويُفْسِدون، ولا يرون من جمال الحياة إلا ما يفسدونه فيها، ولا يرون ما يفسدون فساداً وما يقومون به إفساداً.. وتلك طامتهم الكبرى ومصيبة من يصاب بهم.

والخير يكمن في أن نعرف، ونريد أن نعرف ونفيد من المعرفة، من دون خوف منها ولا من تطبيقاتها ومن نتائج تلك التطبيقات.. فالمعرفة انفتاح مثل الحياة في نهرها العظيم المتدفق دائماً بقوة. ‏

إن ما أصاب العالم والحضارة والثقافة والقيم بسبب نظريات فكرية ديكتاتورية، أنتجت غوغائية ترفع جهلها عِلماً وتزرع العقول تعصباً مقيتاً بتحجر يدعي التقدم وجهل يدعي المعرفة، كان وما زال أشد ضرراً على الحياة والأحياء من كل ما قامت به الديكتاتوريات  الغبية والسلطات القمعية البائسة عبر التاريخ.. لأنها، أي الأولى، أفسدت في الفكر والتكوين والوجدان والمنطق والروح، وتوسلت بالسلطة والقوة والإرهاب الفكري للفتك الشامل بالآخرين من دون تفهم أو رحمة، بينما تشبثت الثانية بمواقع سلطوية ومكاسب مادية أزيلت عنها وانتزعت منها بالفكر النير، والثقافة المنفتحة، والوعي المعرفي الأصيل الذي ينتج التمسك بالحقيقة والعدل والحرية وصدق الانتماء وقوته، حيث كون ذلك جماهير أصبحت قادرة على التفكير والتمييز والتغيير والسير في الاتجاه الصحيح.

إن نهر الحياة العظيم لا يُحكم ولا يُلجم ولا يُقهر، وسيبقى متدفقاً ومتجدداً بقوة لا نهائية.. إنه مما لا يمكن أن تستوعبه أو تشكمه قبضة نظرية ما، لأنه أكبر من كل نظريات البشر، وألصق بمنطق أمنا الطبيعة التي تفرض قوانينها ولا تعرف الجمود ولا تقبله، وتعطي من دون كلل أو ملل، وتلفظ كل من يعتدي عليها بقوة البقاء وحيويته التي تملكها. وفي ربوعها الواسعة ودروسها الكثيرة وحكمها الفياضة.. يمكن أن نرى الماضي أمامنا بعبره، ونرى المستقبل يتراءى لنا على صفحات ما مضى، ويرتسم في أفق العقل والذاكرة والخيال أوضح وأقوى وأقدر على الاستفادة من كل الدروس، وأكثر قدرة على بعث الأمل وتجديد الهمم.‏

 

باريس في 26/6/2009