خبر الوجوه المتعددة للأزمة الإيرانية ..د. بشير موسى نافع

الساعة 09:38 ص|25 يونيو 2009

ـ القدس العربي 25/6/2009

كما اختلط الحابل بالنابل في التدافع السياسي الإيراني منذ الأيام الأخيرة للحملة الانتخابية، كذلك اختلطت الأمنيات بالحقائق في التعليقات والتقارير الإعلامية حول الحدث الإيراني. بعض من أساطير المشهد الإيراني يتعلق بمقولات انقسام النخبة السياسية الإيرانية بين إصلاحي ومحافظ، وانقسام الأجيال الإيرانية بين شباب مؤيدين للحركة الإصلاحية وكهول وشيوخ مؤيدين للمعسكر المحافظ، وانقسام الشعب الإيراني ككل بين أكثرية تقف خلف المرشح الخاسر مير حسين موسوي وأقلية خلف المرشح المنتصر محمود أحمدي نجاد. وفي حمى التوقعات بانهيار 'دولة آيات الله'، اختفت المفارقة الساطعة بين التغطية الغربية الإعلامية والسياسية الرسمية تجاه الانتخابات الإيرانية ونظيرتها اللبنانية، كما غابت القضية الأهم، المتمثلة بالطبيعة القلقة للنظام السياسي الإيراني الإسلامي الجمهوري.

الذين خرجوا إلى الشارع في الحركة الاحتجاجية كانوا بالتأكيد خليطاً من القوى والمجموعات، بعضهم تحرك بدوافع سياسية مناهضة لنظام ولاية الفقيه، بعضهم يعتقد مخلصاً بأن نتائج الانتخابات قد زيفت، وبعضهم يعتقد أن موسوي سيوفر نظاماً أكثر عدالة لأبناء الأقليات القومية والطائفية المهمشة. ولكن الانقسام على مستوى الطبقة السياسية كان اكثر تعقيداً. معتقدات موسوي الإصلاحية هي بالتأكيد محل شك كبير، ولا يجب أن يفهم ظهور خاتمي المتكرر في تجمعات موسوي الانتخابية بأن الاثنين يتفقان في النهج والرؤية السياسية. ولكن القوة الرئيسية في معسكر موسوي كان بالتأكيد الرئيس الأسبق هاشمي رفسنجاني، أحد أبرز القادة المؤسسين للجمهورية الإسلامية. ويوحي تاريخ رفسنجاني بالبراغماتية السياسية أكثر مما يوحي بالإصلاح. هذا هو رجل الدولة القوي، المخطط الرئيس لإطاحة آية الله منتظري من موقع خلافة آية الله الخميني، ومن لعب دوراً بارزاً في توكيد سلطة خامنئي؛ وهو الشخصية التي وقع ظلها على أغلب القرارات التي عززت من بنية الدولة والحكم، والتي عززت من مقدرات الجمهورية ونفوذها الإقليمي. مثل هذه الشخصية لا يمكن أن تطلق عليها أوصاف أيديولوجية سياسية ذات دلالات محدودة؛ تماماً كما أن مثل هذا الانقسام لابد أن يفهم في ضوء التدافع حول القوة والنفوذ، التدافع الذي أججه ولاء الرئيس نجاد للمرشد الأعلى آية الله خامنئي طوال السنوات الأربع الماضية.

الانقسام الثاني لا يقل وهماً؛ ليس للقول بأن ما بات يعرف بالتيار الإصلاحي، أو مير حسين موسوي، لا يتمتع بدعم قطاع هام من الشباب. الحقيقة أن أغلب داعمي موسوي من الشباب، تماماً كما أن القوة الرئيسية التي ترفع راية الإصلاح والتغيير في البلاد هي بالفعل من الشباب. ولكن الصحيح أيضاً أن الأجيال الشابة من الإيرانيين، الأجيال التي نشأت في ظل الجمهورية ولم تعش الوضع السابق على تأسيسها، منقسمة كذلك بين الإصلاحيين والمحافظين، وبين معسكري موسوي ونجاد. قوات الحرس والباسيج كلها من الشباب، وقطاع واسع من أولئك الذين خرجوا للاحتفال بفوز نجاد كان من الشباب؛ بل أن أحمدي نجاد نفسه يحسب على جيل الجمهورية الشاب، وأن أغلب خصومه من النخبة السياسية الإيرانية ينتمي إلى جيل المؤسسين من كبار السن. الشباب الذين خرجوا للاحتجاج على نتائج الانتخابات هم في الغالب ممن يطالبون بمزيد من الحريات الاجتماعية والثقافية، بما في ذلك أنماط اللباس والاختلاط بين الجنسين وحرية الإبداع الفني، كما بمزيد من الحريات السياسية. ولكن نجاد ومن يساندونه ليسوا أقل سعياً للتغيير؛ والتغيير الذي ينشدونه يمس كبار شخصيات النخبة السياسية التي أصابها الفساد واستخدام النفوذ لتحقيق مآرب خاصة. وإن كان موسوي، في مناظرته المتلفزة مع نجاد، حاداً في الانتقادات التي وجهها لأسلوب خصمه في إدارة شؤون الدولة، فإن نجاد لم يكن أقل حدة في إدانته لبعض من كبار شخصيات الحكم وقادة الجمهورية.

أما الاستنتاج بأن الأزمة التي تعرضت لها إيران منذ الإعلان عن فوز نجاد الانتخابي مؤشر على انقسام رأسي في المجتمع الإيراني فهو استنتاج مبالغ فيه إلى حد كبير. ثمة انقسام اجتماعي - سياسي في إيران، وهو انقسام غير جديد، وقد أخذ في التبلور منذ نهاية الحرب العراقية - الإيرانية؛ ولكن هذا الانقسام هو انقسام بين أقلية وأكثرية. تقف الأكثرية خلف نجاد، وهي أكثرية بالمعنيين، المعنى العددي ومعنى القوة والنفوذ في أجهزة الدولة ودوائر الحكم، بينما يمثل تآلف القوى المصطفة في معسكر موسوي الأقلية الأعلى صوتاً، والأكثر فعالية في الاتصال بوسائل الإعلام العالمية، والأكثر قدرة على الانسجام مع التوجهات والأمنيات الغربية نحو إيران. وقد بدا، حتى خلال أسابيع الحملة الانتخابية، أن وسائل الإعلام الأجنبية أكثر استعداداً وقابلية لحمل صورة ورسالة معسكر موسوي، منها إلى إيصال الصورة الحقيقية لحجم ونفوذ وانتشار مؤيدي نجاد. ما شاهده العالم خارج إيران كان صور حشود جماهيرية نشطة، تلتف حول موسوي وتنادي باسمه؛ بينما تضاءلت أو حتى اختفت الصورة الأخرى، صورة الحشود الأكبر التي التفت حول نجاد.

الاستدعاء الآخر الذي تستحضره الأزمة يتعلق بالمفارقة التي تعامل بها العالم مع واقعتي الانتخابات في لبنان وإيران. والمسألة هنا ليست الحسم في شرعية أو عدم شرعية نتائج الانتخابات الإيرانية، فحتى الإيمان بأن نجاح نجاد صحيح وشرعي لا يعني نفي وجود تلاعب ما في هذه الدائرة أو تلك في أصوات الناخبين؛ ما يعنيه أن ليس ثمة تقاليد تزييف في النظام السياسي الإيراني، وأن أدلة مادية حاسمة لم تتوفر حتى الآن على تلاعب مخطط، واسع النطاق، وعلى مستوى مركزي، تلاعب يوفر تفسيراً منطقياً لحجم الفارق في الأصوات بين المرشحين الرئيسيين. المسألة أن كل من لديه ولو معرفة بسيطة بالانتخابات البرلمانية اللبنانية وتقاليدها يدرك أن الانتخابات الأخيرة في لبنان لا تمت ولو بصلة واهية للنظام الديمقراطي. كما أغلب الانتخابات اللبنانية السابقة لعب المال السياسي دوراً رئيسياً في تحديد النتائج، إضافة إلى الدور الذي لعبته الضغوط الخارجية؛ ولكن الدور الأكبر يعود بلا شك إلى الاصطفاف الطائفي البشع الذي عاشه لبنان في السنوات القليلة الماضية وانعكس في أنماط التصويت خلال الانتخابات. ولكن القوى الغربية الرئيسية رحبت بنتائج الانتخابات اللبنانية باعتبارها مثالاً للوعود التي تحملها الديمقراطية لشعوب المشرق، وأشادت بالأجواء التي أحاطت العملية الانتخابية؛ بينما تجنب أغلب وسائل الإعلام والدول العربية والغربية ولو مجرد الإشارة إلى الوسائل غير الديمقراطية التي وظفت لتأخذ الديمقراطية اللبنانية مجراها. في الحالة الإيرانية، وبالرغم من أن موسوي أعلن فوزه في شكل مثير للريبة قبل فرز ولو عشرة بالمائة من الأصوات، فإن التشكيك في مصداقية الانتخابات وشرعيتها سرعان ما أصبح هو الأصل لا الاستثناء.

ثمة مسألة أساسية لم تحاول وسائل الإعلام العربية أو الغربية بعد التطرق إليها بجدية وعمق، وربما تكون المسألة الأهم في كل الجدل الدائر حول الحدث الإيراني، وهي المسألة التي تتعلق بالبنية الدستورية وأسس الشرعية لنظام الجمهورية الإسلامية. في الفكر الإسلامي السياسي الشيعي لم يكن ممكناً إقامة نظام إسلامي شرعي بدون الاجتهاد الكبير الذي تقدم به الإمام الخميني والمتعلق بولاية الفقيه. مستنداً إلى مقولات أولية سجلت للمرة الأولى في مطلع القرن التاسع عشر، قال الخميني أن دولة الإمام المهدي، التي لا يمكن توقع زمان ظهورها، ليست الدولة الشرعية الوحيدة الممكنة؛ وأن بالإمكان أن يتصدى الفقيه، العالم، الثقة، لمهمات إقامة دولة الشرع والحق باعتباره نائباً عن الإمام المهدي. وليس ثمة شك أن الثورة الإسلامية في إيران ما كان لها أن تكون ثورة جذرية، تستهدف إطاحة نظام الشاه وإقامة الحكومة الإسلامية، بدون مقولة ولاية الفقيه. إن لم يكن الفكر السياسي الشيعي قد توصل إلى مقولة ولاية الفقيه، فربما كانت الثورة الإسلامية ستنتهي إلى نتائج أقرب إلى الثورة الدستورية في مطلع القرن العشرين، أي إصلاح النظام السلطاني الوراثي بجعله مشروطاً بنص دستوري وإرادة برلمانية واحترام مؤسسة العلماء والمرجعية.

بيد أن إقامة شرعية الجمهورية الإسلامية على أساس من ولاية الفقيه كانت تستبطن من البداية تناقضاً بنيوياً بين سلطات الفقيه القائد وإرادة الشعب التمثيلية، التي أرادها المؤسس آية الله الخميني قاعدة أخرى لشرعية النظام. في المرحلة التالية لانتصار الثورة لم تكن ثمة خطوة من خطى تأسيس الجمهورية أخذت بدون تصويت شعبي، بما في ذلك الاستفتاء على إقامة النظام الجمهوري الإسلامي، انتخاب المجلس الدستوري الذي وضع مسودة الدستور، الاستفتاء على المسودة نفسها، انتخاب رئيس الجمهورية، وانتخاب المجلس البرلماني. وطوال العقود الثلاثة التي مرت على إقامة الجمهورية استمرت الإرادة التمثيلية للشعب قاعدة أساسية من قواعد النظام، سواء في انتخاب مجلس الخبراء، المسؤول عن اختيار الفقيه المرشد/القائد، وانتخابات رئيس الجمهورية، أو الانتخابات الدورية للبرلمان الإيراني. المشكلة التي لم يستطع النظام حلها حتى الآن تتعلق بالتناقض بين سلطتي الفقيه/ القائد وسلطة الشعب. في نظام الجمهورية الإسلامية، ستصبح الإسلامية محل شك بدون وجود مؤسسة الفقيه/ القائد؛ وبدون الإرادة الشعبية ستصبح الجمهورية محل شك. وما لم يجد العقل السياسي الإسلامي الشيعي حلاً لهذا التناقض، فإن الأزمات التي أخذ النظام في التعرض لها منذ تسعينات القرن الماضي ستتكرر، لأن قطاعاً ملموساً من الإيرانيين، مجتمعاً ونخبة، كما يبدو، يريد إسقاط الإسلامية عن الجمهورية، وما يترتب عليها من السياسات.