خبر اخلعوهم معا ..رشاد أبوشاور

الساعة 07:02 ص|24 يونيو 2009

اخلعوهم معا ..

رشاد أبوشاور

إنني خالع صاحبي .. فاخلعوهم معا

مرّةً قتلونا بسّم،

فحين وُلدنا استداروا علينا بسيف

فحين وُلدنا أتوا بالدنانير تلدغ صف المشاهير منّا،

ولكن موعدنا الثورة المقبلة

(أحمد دحبور)

 

من هذا القول الشعري المبكّر للشاعر أحمد دحبور، والذي هو أكبر من أن يحشر في تنظيم، فالشعر، والفن، والأدب، لا يكون حزبيّا، إذ بينه وبين الإعلام والدعاية مسافة، هي التي تحدد الفرق بين المبدع و( مروّج) السلع.

مطلع السبعينات راجت آنذاك الدعوة للانخراط في عمليّة التسوية ـ بعد حرب تشرين ـ ورُفع شعار: سلطة وطنيّة على كل شبر يتحرر من فلسطين.

صراع فكري سياسي حاد احتدم بين (دعاة الاستسلام) ـ كما وصفوا عن حق، ورافعي شعار: فلسطين عربيّة من النهر إلى البحر، وهو ما ينطلق من أن الصراع صراع وجود لا صراع حدود، وأن فلسطين قضيّة العرب الأولى، قضية الأمّة لا الحكّام الذين تسيدوا على أشلاء ومزق رسم حدودها وأشكالها مبضعا سايكس وبيكو...

دحبور قال شعرا بقي وعمّر ليس لأنه كلام موزون مقفّى، ولكن لأنه يحمل رؤية، ويمتح من تراث، ويقول ما لا ينتهي مع حقبة أو مرحلة ...

يعيد هذا المقطع إلى الذاكرة واقعة التحكيم بين الإمام علي ومعاوية، وبطلاها أبو موسى الأشعري وعمرو بن العاص. مبدئية الأشعري، ومكر بن العاص، بقيتا درسا في الذاكرة العربيّة والإسلاميّة، وبسبب واقعة التحكيم جرت انشقاقات، واحتدمت معارك، وسالت دماء.

الأشعري وفقا لاتفاق مسبق مع بن العاص وقف وأعلن: أنا اخلع صاحبي كما أخلع خاتمي هذا! فما كان من بن العاص إلاّ ان وقف مخاطبا الحشود: وأنا أثبّت صاحبي كما أثبّت خاتمي هذا!

هذه الخدعة كلّفت الكثير.

قائل هذا الشعر واحد من أبناء جيل آمن بعروبة فلسطين، وهو انتمى لفتح لأنه رأى فيها أداته ووسيلته للوصول إلى الهدف بالكفاح المسلّح، لذا تغنّى بالرصاصة الأولى وبشارتها الواعدة.

دعوة دحبور للخلع تبدأ من عنده، من فتح نفسها، من قيادتها التاريخيّة التي وصفها في قصيدة أخرى بأنها وقفت في منتصف الطريق، وهذا يدلل على عدم تعصّبه، وانحيازه لفلسطين فقط، ومتى؟ في مطلع السبعينات، قبل أوسلو والسلطة، والغوص في مرحلة الأوهام.

اخلعوهم معا!.. يعني من أعلنوا بأن الهدف حيفا ويافا وعكا، ولكنهم توقفوا في منتصف الطريق، ومن نظّروا باسم الماركسيّة، ووظفوا (صلح برست) غطاءً لطروحاتهم العاجزة المساومة، ولتبرير تبعيتهم لليمين الفلسطيني الذي طالما هجوه، ومن قدّموا أنفسهم متشددين، ثمّ أيدوا النقاط الـ10، فأُنعم عليهم بعضوية اللجنة التنفيذيّة...

كانت دعوة خلعهم معا، دعوة لتجديد الثورة، للثورة في الثورة، التي دعا كثيرون منّا لتفجيرها، لتجاوز كل الأمراض التي بدأت تفتك مبكرا في جسد الثورة الفلسطينيّة، وتحيد بمسارها عن الهدف.

والآن، ونحن نرى ما آلت إليه حال قضيتنا، وثورتنا، ومقاومتنا، وانتفاضتنا، ووحدة شعبنا، والتفاف جماهير أمتنا حول القضيّة، فإن الأصوات لا بدّ أن تعلو: لنخلعهم معا، من أفلسوا وطنيّا وباتوا أسرى عجزهم وترهلهم ومصالحهم وامتيازاتهم التي لن يتخلّوا عنها، ومن لحقوا بهم، وها هو خطابهم العاجز يتكشّف عن قُصر نظر، وخداع لمن منحوهم أصواتهم في انتخابات المجلس التشريعي، فبرنامجهم الانتخابي المطروح آنذاك لم يتضمن أنهم مع دولة في حدود الـ4 من حزيران (يونيو)! ولكنهم للخروج من المأزق الذي وضعوا أنفسهم فيه اختاروا وضع القضيّة تحت هذا السقف الواطئ جدا الذي خنق من سبقوهم، وألحق بقضيتنا ما لم يتمكن العدو من إلحاقه بها منذ نكبة عام 48.

بماذا يجيب هؤلاء على الأسئلة: هل بقيت أرض لدولة في حدود الـ 4 من حزيران؟ وهل بقيت قدس شرقيّة عربيّة إسلاميّة لتكون عاصمة؟! وهل ستسلّم المستوطنات ـ المدن لكم حتى يتحقق السلام؟! أم تُراكم تقبلون بمبادلة أحياء القدس، وأرض الضفّة بمساحات صحراويّة في النقب، أو سيناء، وتعتبرونها من (أكناف بيت المقدس)؟!

يتبارى الطرفان في تقديم التنازلات، في حين تتقدّم جرّافات الاحتلال لتعمل هدما، ومصادرةً، و..يواصل الطرفان المتنافسان عملية الستربتيز السياسي، فالتنازلات لا تتوقّف، إذ لا قاع لها، ومن يبدأ بالتنازل لن يكون لهاويته قاع، ولن يخرج سالما من هذا العرض المستمر، فهو يتنازل والجرافات وكرفانات المستوطنين تزحف وتقضم وتلتهم.

في مقالة سالفة كتبت بأن الحركات الثوريّة لشعب من الشعوب، تتسلّم واحدتها من الأخرى الراية، كما في سباقات التتابع، فيد تسلّم العصا ليد، إلى أن يصل واحد من الفريق الجماعي إلى الهدف، ويكون الفوز المؤزّر.

في حالتنا الفلسطينيّة وجد (قادة) ربطوا القضيّة بأشخاصهم، ونسوا أن عمر القضيّة بدأ قبلهم، وأن هذا الصراع سيستمر بعدهم، وأن أيادي أخرى ستمضي، تحملها أقدام ثابتة قويّة إلى الهدف الأسمى: التحرير...

في حالتنا الفلسطينيّة ها هي قيادات تتوقّف في منتصف المسيرة، تنشغل باستراق سماع كلمات الإطراء، وتلويحات أشخاص ليسوا من الجمهور الفلسطيني، ولأن أنفاسهم قصيرة فهم يريدون اقتناص فرصة فوز لم يحن أوانه، وهم يرمون راية السباق بانتظار أن يباركهم منحازون في الصراع، وإن أبدوا أنهم سينظرون بعين الود لمن يتخلّى عن المقاومة و(الإرهاب)، ويختار الحوار الحضاري!

مكانك راوح، بل وأخطر، هذا الذي يحدث فلسطينيّا. انشغال بطلب الإعجاب ـ أتمنّى قراءة مقالة الدكتور عزمي بشارة الموجودة على موقع عرب 48 ـ ممن؟ من رعاة وداعمي العدو الذي يتوسّع باحتلاله حتى غرف بيوتنا، وفعلاً بعض البيوت قسّمها الجدار، وجعل العائلة عائلتين...

ليست دعوة عصبيّة غاضبة تلك التي انطلقت من بيروت في مطلع السبعينات، فها هي أصداؤها تتردد من جديد، يستدعيها حال لا يجب أن يدوم.

الخلع لن يتّم في قاعة المحكمة الشرعيّة، ولكنه يتّم بانتزاع الشرعيّة، وإعادتها لشعبنا...

الخلع يبدأ فكريّا، ثقافيّا، فثقافة المقاومة هي التي يجب أن تسود، ومن يؤمنون بها آن أن يُعلوها، ويوحدوا طاقاتهم تحت راياتها، ويستفيدوا من كل ما مرّ على شعبنا منذ إطلاق رصاصة الثورة الفلسطينيّة المعاصرة في 1/1/ 65 ...

الكتاب، المفكرون، الباحثون، الفنّانون، المناضلون القدامى والجدد، الشخصيّات الوطنيّة المحترمة وذات التاريخ والمصداقيّة، آن لها أن تتفاعل، وتتواصل، وتنطلق من عملية نقد لا تبقى نخبويّة، تعرّي سياسة العجز، وخلفية صراع الطرفين، وتدفع بمن يحملون الراية بصلابة وثبات، من يتميزون بالوعي والصدق والاستقامة، ليقودوا ويواصلوا المسيرة.

على أنقاض هذا الخراب نبدأ، لنكون امتدادا لما تركه لنا ثوّار ومجاهدون لم تلههم المكاسب، ولا الشهرة، آمنوا بأن فلسطين معركة طويلة، الانتصار فيها هو خيار شعبنا الوحيد.

خلعهم معا يعني العودة إلى ما تخلّى هؤلاء عنه، ما أداروا ظهورهم له، هؤلاء الذين يسلب عقولهم بوش بوعد دولة، أو ينتشون لمجرّد الظهور مع كارتر ـ بطل (كامب ديفيد) ـ في مؤتمر صحفي بائس يُجدد فيه السيّد هنيّة ما صرّح به السيّد مشعل في خطابه لمجلس العموم البريطاني: نحن مع دولة في حدود الـ4 من حزيران!!...

تأخرت الثورة المقبلة، وقصار النظر والنفس يُبددون القضيّة، ينضاف إليهم المتلمظون على السلطة، يكررون مسيرة تملّق الغرب، واستجداء رضاه ...

رغم الخراب، وبسببه، آن أن تبدأ مسيرة خلع خطابي العجز من الشروش...